هو المنهج المؤسس للحضارة وفي الوقت نفسه الحارس للقيم الحضارية، ويقوم على شقين، مثله مثل الجسم الذي يقوم على قدمين، إن اختفت أحد القدمين أصاب الجسم خلل وإن لم يسقط أصابه عرج خفف من سرعة تقدمه نحو الهدف وقلل من قوة توازنه وصموده في المواجهة والتحدي والشقين هما: الحق والصبر. لا يمكن تخيل أحدهما دون الآخر في الصرح الحضاري، فالحق مر لا تطيقه النفس دون مجاهدة وتحمل وجلد والحق في ذاته كفكرة مجردة مثله مثل الباطل فالعلاقة بينهما علاقة جدلية في العالم نفسه يكملان بعضهما في تناقض بالسلب والإيجاب في الخلية ذاتها ولا يحدث التمايز بينهما إلا في النفخة الأولى حين ينفخ في روح الفكرة عن طريق اللغة فينفصل الحق عن الباطل ليتجسدا بعد ذلك في ثقافة المجتمع عن طريق السلوك فيختلف تفاعل النفس البشرية مع الحق عن تفاعلها مع الباطل باعتبار أن الباطل يوافق هواها، أما الحق فيكون ثقيل بسبب مخالفته لطبعها لذلك كان البناء صعب والهدم سهل. والطبيعة الإنسانية باعتبارها حيوانية تركن للباطل لأنها مجبولة على الفساد والقتل، لذلك كانت دائما نسبة ضحايا الإنسانية من بني جنسهم أو من إخوتهم في الإنسانية أضعاف ضحايا الطبيعة حتى قيل إن عدو الإنسانية الوحيد هو الإنسان والحل من منع الإنسانية من أذية نفسها هو تفعيل المنهج التواصي بشقيه التواصي بالحق والتواصي بالصبر. وفي عالم الفكر توجد نواة أحدية هي الحق يدور في فلكها كل الأفكار كالسالب حول الموجب أو مثل السالب كتجلي للحقيقة الأحادية المطلقة الكاملة قبل أن يتشكل بروح اللغة فيفصل بين الحق والباطل ليتجسدا كليهما في سلوكيات البشر فيكون الإنسان هو الباطل وتكون الإنسانية هي الحق، وسنقتصر على مفهوم الحق من خلال سورة العصر التي أمرتنا وبينت لنا وشرحت المنهج التواصي، فالحق هو الإيمان والعمل الصالح بمعنى أن ثقافة الحق تتمثل في إيمان بفكرة الحق وتجسيدها في سلوك الحق، الذي عبر عنه المصطلح القرآني بالعمل الصالح، فثقافة الحق تتكون من ثلاثة ركائز متكاملة تنتج الانسان المتكامل وهي: فكرة الحق (الايمان) وسلوك الحق (العمل الصالح) ومنهج الحق أو آليات الحق والمنهج التواصي، حيث نكون في خضم سلسلة من التفاعلات التواصية التذكيرية التبينية التوضحية التعليمية التثقيفية لفكرة الحق وسلوك الحق مع بذل الجهد والقدرة وتحمل الصعاب والشدائد والعوائق النفسية والاجتماعية والسلطوية في إطار التواص بالصبر. والمنهج التواصي هو مجموع سلسلة أفعال تتسم بالديمومة والشمولية يحكم مجتمع الانسان المتكامل دون الوقوع في فخ الأدلجة حتى لا ننتج الانسان المأدلج، المقولب في أيديولوجية وحدوية حتى ولو كانت هذه الإديولوجية دينية وهذا الخطأ وقعت فيه بعض الدول الإسلامية التي طبقت الإسلام كمنهج حياتي لكنها اقتصرته في أبواب الفقه فقط، فتحول الإسلام على أيديهم من منهج رباني يعلمنا أن نحيا بإنسانيتنا بكرامة ومساواة ويبث في نفوسنا الحياة إلى قانون عقوبات يبين لنا الجرائم والعقوبات التي تطبق على الضعيف دون الشريف، إسلام انتقائي يكرس أوضاع قائمة ويعطي لها الصبغة الدينية رغم أنها وليدة فكر مضطرب ما زال يعاني من هزات ارتدادية في واقع متغير يحاول هذا الفكر حماية نفسه منه عن طريق الأدلجة في قالب واحد ثابت حتى لا يجهد نفسه مع المتغيرات الاجتماعية والدولية. رغم أن التغيير سنة كونية واجتماعية والإسلام كمنهج حياتي يتسم بالمرونة والتكيف مع المتغيرات ولقد علمنا التاريخ أن هناك أديان ولغات ومجتمعات ودول انقرضت لأنها بقت في قالب ثابت، نسجت شرنقة من الأيديولوجيا لفت بها نفسها وانعزلت بها عن العالم دون أن تحاول التغير فكانت شرنقتها كفنها وقبرها الذي قبرت فيه. أما الصبر فلا يعني بمفهومه التراثي الرضا والخضوع والاستسلام للقضاء والقدر، فنصبح المفعول به الذي يقع عليه فعل الفاعل، بل الصبر المأمورين به هو أن نوصي بعضنا البعض بالتفاعل مع الواقع المفروض بمحاولاتنا لتغييره، التغيير الممنهج المنضبط المحدد سلفا لا التغيير الارتجالي والانفعالي وخبط عشواء، فالصبر هنا أن نصبر على عملية التغيير والتي هي الجهاد الأكبر.