في الأصل هي مفارقة عجيبة، دول تفترش ثروات لا تنضب وتتوّسد إمكانيات لاتنفد، في حين يعاني بعض شعبها الحاجة والفقر ويعيش أغلبه أوضاعا اجتماعية صعبة، إن وجد وظيفة فلا يجد بيتا، وإن وجد الاثنين فالتعليم في الحضيض والصحة معتلة وجلّ القطاعات الخدماتية أصبحت بمثابة وسائل للتعذيب والتنكيل.. المفارقة فعلا عجيبة، بعض البلدان العربية تعوم في بحيرة من النفط والغاز، واحتياطاتها من الذهب الأسود تتجاوز ال 645 مليار برميل، أي 58 ٪ من الاحتياطي العالمي وانتاجها السّنوي منه يبلغ 20 مليار برميل، أمّا احتياطها من الغاز الطبيعي، فيصل الى 33646 مليار متر مكعب أي 31 ٪ من الانتاج العالمي، لكن هذا الخزان الهائل من الثروات الطبيعية وما يدره من أموال وعِوَض أن ينعكس إيجابا على الشعوب العربية، ويستثمر في دفع التنمية الاقتصادية وتحسين ظروف معيشتها، فإنّه بات يشكل عصب التنمية للدول العربية، ليبقى المواطن العربي يعيش الفقر والعَوز في بلده الغنية. إن الوطن العربي يصدر ما قيمته 300 مليار دولار سنويا من الثروات، لكن هذه المداخيل الضخمة لم تشفع للشعوب العربية التي يعاني أكثر من 100 مليون منها أي ثلث مجموعها المقدر بنحو 338 مليون نسمة من الفقر، ولم تقض على معضلة البطالة التي كسرت حاجز 77 ٪، لتكون الأعلى في العالم، كما أنّها لم توفر لها ظروف ووسائل العيش الكريم والمريح الذي تستحقه ولا يمكن أن نربط هذه المفارقة والاختلال الواضح بين غنى الدولة وفقر الشعب فقط باخفاق بعض القيادات الحاكمة في استغلال هذه الثروات وعجزها عن خلق الثروة والتنمية وبناء الاقتصاد القوي، لأن السبب الجوهري في هذا الاختلال والإخفاق هو مشكلة الفساد الذي ينخر اقتصاديات البلدان العربية، والذي يجعل الثروة محتكرة بأيدي فئات محدودة انتفخت أرصدتها لتنفجر كما نرى في شكل احتجاجات واضطرابات تهز بعض العواصم العربية مُستهدفة من خلالها الفساد الذي تمارسه بعض القيادات أو التي تتغاضى عن ممارسة أوعجزت من محاربته. بين غنى الدول العربية وفقر شعبها تمة خلل، بل تمة فساد أصبح متغلغلا حتى النّخاع يجر الوطن العربي الى مدارك سحيقة من التأخر والتخلف وتعطل عجلة التنمية، ولولا الهجوم الشرس على المال العام والنهب المستمر للثروات من قبل فئة قليلة عاثت فسادا واستغلالا لما كانت اقتصاديات خمس دول أوروبية صغيرة كاللّوكسمبورغ وسويسرا والدانمارك والنرويج، وهولندا أقوى من اقتصاديات 22 دولة عربية مجتمعة جلها ثَرِيٌ ولما كانت الصّين تتقدّمنا بآلاف السنوات الضوئية بدخل سنوي يقدّر بتريليون دولار مصدره ما ينتجه شعبها وليس باطن أرضها، رغم أن مساحتها متقاربة مع مساحة مجموع بلداننا.. الفساد إنتشر إنتشار النّار في الهشيم في الوطن العربي، وألحق ظلما وضَيْما كبيرين على التنمية وقوّض الشرعية السياسية وقاد الى الزلزال الذي يهزّ الشوارع العربية. وقد أدركت القيادات العربية يسر الداء ووعدت باستئصال الفساد ومحاربة كل مظاهره من إختلاس ورشوة ومحسوبية وتهريب وتبييض للأموال القذرة الناتجة عن تجارة السلاح والمخدرات..إلخ ... وتجسيد هذه الوعود لايبدو سهلا لكن ليس هنالك من سبيل لإستعادة الثقة بين الحاكم والمحكوم وليس هنالك من مخرج للأزمات التي تعصف بالعالم العربي غير تطهير الاقتصاد من الفساد والقصاص من المفسدين واستعادة الأموال المهربة واستغلالها في دفع عجلة التنمية والازدهار.