آلة موسيقية تنقل للسامع صدى الصحراء وهدوئها هي آلة موسيقية من الآلات النفخية الخشبية، عرفت منذ القدم لدى مجتمع الإيموهاغ، لترافقه في مختلف مراحل تواجده، على غرار "الإمزاد" و«تيندي"، قيل عن نغماتها بأنها تحاكي رقصة حيوان "الغزال" أثناء ركضه. تعدّدت واختلفت الروايات والأساطير حول ميلاد آلة "تزامارت" وظهورها، لتجتمع على أهميتها ودورها البارز منذ نشأتها لدى الإيموهاغ، بتنوع استعمالاتها ومجالاتها، على غرار أوقات السمر والسهر وغيرها. «تزامارت" آلة موسيقية تقليدية مصنوعة من مادة القصب المجوف من أشجار خاصة، يعرف ب«ناي إيموهاغ" له أربع ثقوب نسبة لأرجل الماشية، حسب ما صرّح به الكاتب والباحث في الثقافات الشعبية عبد الوهاب بوغردة ل«الشعب".. من هنا بدأت الحكاية أرجع كتّاب وباحثون في الثقافات الشعبية والموسيقى، على غرار الفنان عبد الوهاب بوغردة والمستشارة الثقافية بدار الثقافة "داسين ولت إيهمه" فاطمة أفرواق ل«الشعب"، ميلاد وظهور "تزامارت" إلى عدد من الأساطير والحكايات المرتبطة بالمكان وبالأشياء الموجودة به، ولعلّ من بين أشهرها يقول المتحدثون أن امرأة اختطف أخوها من طرف قطاع طرق بعدما اعتدوا عليهم، فتبعتهم من أجل استرجاعه ولما لحقت بهم وتفاوضت معهم لتحريره، اشترط عليها زعيم العصابة بأنه لن يسلمها أخوها إلا إذا قدمت لهم شيئا لم يروه من قبل ولم يسمعوا به، وفوق كل هذا أن ينال إعجابهم ورضاهم. يضيف المتحدث، فأصبحت الأخت تفكر وهي تمشي في إحدى الأودية، بحيلة ووسيلة تمكنها من إسعاد زعيم قطاع الطرق وأتباعه، وتحرر بها أخيها حتى وصلت إلى مكان ينمو به نبات ما يعرف ب«أمسغ" شجرة "الأكاسيا" والمشهورة بشجرة "الطلح"، فاهتدت إلى فكرة صنع آلة موسيقية بالصدفة من عروق الشجرة المذكورة، حيث قامت بتجويف أحد العروق بطريقة غير مباشرة، للتسلية وطرد الملل، وهي تفكر في الشيء الذي ستقدمه لقائد العصابة، وبعد تجويفها لعرق شجرة "الأكاسيا" راحت تنفخ فيه، فصدر صوتا غريبا فارتأت إحداث ثقوب فيها بالصدفة، لتخرج بعض الأصوات المختلفة وتتميز على حسب استعمال الثقوب، لتعود إلى مكان احتجاز أخيها وتتقدّم لمحتجزيه وتسمعهم الأصوات التي بدأت تخرج من القصبة المثقوبة، ما جعل الزعيم يهتز للصوت الصادر من الآلة ويقرر إخلاء سبيل أخيها لتعود به. وفي رواية أخرى يضيف المتحدثون، أن رجلا ضلت إبله وقد إعتاد عزف "تزامارت" كلما رافقها، وخلال رحلة البحث عنها، حتى رآها من بعيد فجلس وبدأ بالنفخ على آلته فأقبلت إليه الإبل جميعا إلا واحد منها، فتعجب من أمره وغضب لعدم قدومه ليقرر نحره، ليتضح له بعد ذلك أن كبد ذلك الجمل مريضة، الأمر الذي حال بينه وبين الاستجابة للراعي فزال عجب الراعي من ذلك. وتقول خريجة المعهد العالي للموسيقى، فاطمة أفرواق، إن اختراع "تزامارت" جاء على يد الرعاة قديما بحكم الحياة القاسية التي كان يعيشونها في الصحاري، فقد كانوا يسافرون بالأشهر عن قباليلهم وأهلهم وأولادهم بحثا عن الكلأ والمراعي الخصبة. وفي ظل هذا الفراغ اللامتناهي والعزلة القاهرة والوحدة القاتلة، وبينما أحد الرعاة وهو جالس في أحد الليالي الموحشة، وبجانبه غصن مجوف ومع سكون الليل وهدوءه سمع أصوات تصدر من ذلك الغصن أثناء مرور الرياح عبرها، فقام وحمل الغصن ونفخ فيه فإذا به يسمع نفس الصوت، كما أن الغصن كان متأكل بفعل الحشرات فأخذ ينقل إصبعه من ثقب لآخر، حيث لاحظ تغيرا في الأصوات والطبقات. البداية.. في ليلة مظلمة يقول صاحب كتاب "موسيقى الهقار من الشفهية إلى التدوين" عبد الوهاب بوغردة، إن إتقان العزف على "تزامارت" بالطريقة الصحيحة يتطلب طرقا وكيفيات خاصة حسب العديد من الروايات والأساطير المختلفة، ولعلّ أبرزها يضيف المتحدث أن يختار الشخص الراغب في تعلم العزف إحدى الليالي المظلمة، ويذهب إلى المكان الذي تنام فيه "شاة" سوداء اللون. ويشير أيضا، أن الأسطورة تقول إن المتعلم مع بداية تعلمه تأتيه حجارة صغيرة من الخلف ولا ينظر إليها، وهذا لعدم معرفة الشخص الذي يرميها، إلى أن تراوده الشكوك حيث يبقى في ذهنه كلمة بالتارقية (كل أسوف) والتي تعني "الشياطين" و«الجن". وفي أسطورة أخرى يقول المتحدث، إن الراغب في التعلم يقصد ما يسمى علميا ب«قبور ما قبل التاريخ"، والمنتشرة بكثرة في المنطقة وهذا في ليلة مظلمة. ولعلّ من الحكايات المشوّقة، هي تلك التي تتحدث عن ضرورة أن يمتطي "ناقة بيضاء" أو ما يسمى بالتارقية "تارنقانت صلت" وتسري به ليلا لأجل تعلم العزف على آلة تزامارت. هذه الطرق والأساليب، يقول الفنان عبد الوهاب بوغردة، تؤدي بالعازف لهذه الألة بتقنية نفخية مع إصدار صوت باص على درجة (دو)، الذي يتوافق مع صوت الآلة ليكون أول ما يعزفه هو كبير الألحان "أمغار نزلان"، ثم يعزف باقي الألحان التي تعبر عن محاكاتها للطبيعة. أوقات عزفها يرتبط عزف "تزامارت" بأوقات ومناسبات معينة ومحددة، رغم اختلاف عازفيها ومحبيها من واحد آخر، إلا أن المتفق عليه بأن الرعاة في المناطق الرعوية وأماكن الكلأ يعزفون عليها طوال اليوم باستثناء وقت رعي المواشي والوقت المخصص للأكل والنوم. وتعزف آلة "تزمارت" في التجمعات السكانية أو تجمعات الخيم، في جلسات المساء الشيقة للاموهاغ، حيث إن العزف يصاحبه بعض الأعمال اليدوية من أهمها صناعة الجلود وخياطة الأفرشة، بالإضافة إلى إلقاء الأشعار (تسيواي)، وهو شعر ملحون يؤديه الرجل بمرافقة آلة الإمزاد. وتعزف كذلك أثناء الجلسات الليلية وجلسات الشاي، أين يصغي الصغار للكبار وهم يروون الحكايات الشعبية القديمة والأساطير، وبعض القصص الخرافية مع أشعار "تسيواي" المصاحب للعزف الخفيف على الآلة. كما تعزف أيضا بحضور الضيوف، فبمجرد بدء العزف يعم الهدوء والسكون ويهيم الحاضرون في بحر من الخيال، أين تختلف أفكارهم من شخص إلى آخر فهناك من تذكره بأيام طفولته وهناك من تذكره بالدنيا وما فيها، كما أن هناك من تذهب به في بحر من النشوة والسعادة. ألحان تحاكي الطبيعة كغيرها من الآلات الموسيقية، تحصي "تزامارت" العديد من الألحان التي تحاكي الطبيعة من خلال أسمائها في المعنى والمكان، فحسب الفنان إبراهيم بن أزوم أحد عازفي هذه الآلة الموسيقية والمتميزين بالمنطقة وفي تصريح ل«الشعب"، أكد أن منها ما يحكي عن الإنسان والحيوان ومنها ما يحكي عن الطبيعة والخيال، ومن بين هذه الألحان نذكر كبير الألحان المسمى ب«أمغار نزلان" ويقصد به كبير الألحان أو الظهر، وهو الذي تنبثق عنه باقي الألحان، ثم لحن "أبونيتى" وهي كلمة بالتارقية وتعني "ابنتي"، إضافة إلى لحن "أبيديوان" ويقصد بها بالترقية أيضا "القرد" ولحن "ادياني ادوهنى" وهي أغنية تراثية مدحية لشخص اسمه الخضير، أما لحن "تناروين" و«تيناريوين" فتعني الصحاري الشاسعة، "تيزامين" وهي كلمة تعني بالتارقية مزيج أصوات الطبيعة ليلا والرياح وصوت الوحش، إلى جانب لحن "مولا مولا" نسبة لطائر يتواجد بكثرة في الصحراء ذو اللون الأبيض والأسود، حيث أن اللحن اخرج كناية وتمثيلا لهذا الطائر، ويقال أن امرأة توفى زوجها فأخرجت له لحنا تعبر عن اشتياقها له وحنيها إليه. و«بوتوبوتو ياتى" لأحمد اق أمالاي رحمه الله، ويعتبر لحن مدحي لزوجته، لحن "ترهودج" ويعني بالتارقية البعد والفراق والحنين كالجمال التي تفقد صغارها، لحن "تيضارسيوين" هو لحن يعني بالتارقية (الجلد الذي يزين به الجمل)، لحن "ايسو" أو البقر المحارب للأسد الذي أراد التعدي على حاشيته، ثم لحن "أقاضيض" ويعني الطير، وغيرها من الألحان الأخرى. روح الموسيقى في نفخاتها يرى الأستاذ عبد الوهاب بوغردة، أن آلة "تزامارت" من الآلات الموسيقية التي ظلت محافظة على الروح الموسيقية لها، والعازف للموسيقى يعي جيدا أنها من الآلات التي تنقل للسامع صدى الصحراء، وتنقل كذلك أصواتها المحاكية للطبيعة كصوت الرياح وحفيف الشجر وهدوء الصحراء، مما جعل الموسيقى تنبض بكل عناصرها المشكلة لها أساسا. فهي يضيف المتحدث، تتميز بقيمة كبيرة عند مجتمع الإموهاغ، حيث استطاعت إبراز قيمتها إلى جانب الآلات الأخرى ك«التندي" و«الإمزاد" وغيرهما.. كما أن نغمتها تتميز بأصوات روحانية ومريحة ومنها ما هو صالح لمعالجة النفس البشرية. وأضاف "المستمع لها يشعر بالراحة، فنغماتها تذهب بالمستمع في بحر من الخيال والتأمل من وديان وصحاري شاسعة، وأحيانا تأخذ المستمع إلى موضع الحزن والبكاء والمأساة الصعبة، كما أن الآلة ترجع بنا لروايات ظهورها أيام المآسي من حروب وغزوات وجفاف وجوع..". لذلك فهي آلة يقول عبد الوهاب بوغردة كاتب نص ملحمة "إمغان نزلان"، لها قدرة كبيرة في جذب أي مستمع ولفت انتباهه، سواء نشأ في البيئة الصحراوية أو غيرها من البيئات الأخرى وهذا راجع إلى قيمتها الفنية. دعوة للاهتمام والتشجيع نظرا للقيمة والمكانة التي تحظى بها آلة "تزامارت"، لدى مجتمع الإيموهاغ منذ القدم يقول إبراهيم بن أزوم أحد المحافظين عليها في وقت أصبحت تعرف التهميش، "لابدّ من إعادة النظر في التعامل معها لكونها موروث لا مادي بارز في الثقافة المحلية، على غرار الإمزاد وتيندي. ويضيف المتحدث، وهذا من خلال التعريف بها، وتشجيع البحوث الأكاديمية والورشات التكوينية لمعرفة أهميتها والرسالة التي تتضمنها، خاصة وأن مكانتها حسبه على نفس الدرجة مع "الإمزاد"، ما يفرض يقول بن أزوم إبراهيم على الفاعلين في المجال الثقافي بشكل خاص، العمل على إدراجها ضمن أبحاث تعنى خصيصا بالموسيقى في مخابر البحث عن الموروث. وفي ذات الصدد، أكد المتحدث أن ما تعيشه إحدى الموروثات الثقافية التي تمثل إحدى الحضارات المهمة التي شهدتها الجزائر، من تهميش ممنهج أصبح ينذر بزوالها وانقراضها تدريجيا، نظرا لأن القائمين على الشأن الثقافي والمهتمين بالموروث بأنواعه لم يبدو اهتماما فعليا وجديا، كالذي حظيت به غيرها من الموروثات الثقافية الأخرى، إذا ما تمّ استثناء دعوته رفقة العازفين الأخرين، من أجل تقديم عرض شكلي في مختلف المناسبات. وناشد عاشق "تزامارت" إبراهيم ين أزوم، مختلف الفاعلين القائمين على السياسة الثقافية المنتهجة للاهتمام بالموروث الوطني، وتوجيه التشجيع والاهتمام لموسيقى تعبر عما يعجز عنه الكلام، فهي حسبه تترجم مكنونات القلب والعقل، رغم صغر حجمها وثقوبها الأربعة إلا أن الصوت الذي تصدره قد يجعل المستمع يظن أنها تحوي على العديد من الثقوب.