وسط ترقب الدوري السعودي.. ميلان يضع بن ناصر على لائحة البيع    حنكة دبلوماسية..دور حكيم ثابت وقناعة راسخة للجزائر    أكنّ للجزائر وتاريخها العريق تقديرا خاصا..وكل الاحترام لجاليتها    مهرجان عنابة..عودة الفن السابع إلى مدينة الأدب والفنون    إبراز البعد الفني والتاريخي والوطني للشيخ عبد الكريم دالي    التراث الثقافي الجزائري واجهة الأمة ومستقبلها    مطالبات بتحقيقات مستقلّة في المقابر الجماعية بغزّة    تقرير دولي أسود ضد الاحتلال المغربي للصّحراء الغربية    استقالة متحدّثة باسم الخارجية الأمريكية من منصبها    تكوين 50 أستاذا وطالب دكتوراه في التّعليم المُتكامل    ثقافة مجتمعية أساسها احترام متبادل وتنافسية شريفة    العاصمة.. ديناميكية كبيرة في ترقية الفضاءات الرياضية    حريصون على تعزيز فرص الشباب وإبراز مواهبهم    وكالة الأمن الصحي..ثمرة اهتمام الرّئيس بصحّة المواطن    تحضيرات مُكثفة لإنجاح موسم الحصاد..عام خير    تسهيلات بالجملة للمستثمرين في النسيج والملابس الجاهزة    المسيلة..تسهيلات ومرافقة تامّة للفلاّحين    استفادة جميع ولايات الوطن من هياكل صحية جديدة    قال بفضل أدائها في مجال الإبداع وإنشاء المؤسسات،كمال بداري: جامعة بجاية أنشأت 200 مشروع اقتصادي وحققت 20 براءة اختراع    الشباب يبلغ نهائي الكأس    بونجاح يتوّج وبراهيمي وبن يطو يتألقان    خلافان يؤخّران إعلان انتقال مبابي    بعد إتمام إنجاز المركز الوطني الجزائري للخدمات الرقمية: سيساهم في تعزيز السيادة الرقمية وتحقيق الاستقلال التكنولوجي    سوناطراك تتعاون مع أوكيو    الأقصى في مرمى التدنيس    حكومة الاحتلال فوق القانون الدولي    غزّة ستعلّم جيلا جديدا    جراء الاحتلال الصهيوني المتواصل على قطاع غزة: ارتفاع عدد ضحايا العدوان إلى 34 ألفا و356 شهيدا    الأمير عبد القادر موضوع ملتقى وطني    باحثون يؤكدون ضرورة الإسراع في تسجيل التراث اللامادي الجزائري    أهمية العمل وإتقانه في الإسلام    بن طالب: تيسمسيلت أصبحت ولاية نموذجية    هذا آخر أجل لاستصدار تأشيرات الحج    المدرب أرني سلوت مرشح بقوّة لخلافة كلوب    جامعة "عباس لغرور" بخنشلة: ملتقى وطني للمخطوطات في طبعته "الثالثة"    "العميد" يواجه بارادو وعينه على الاقتراب من اللّقب    مدرب مولودية الجزائر باتريس يسلم    أمن دائرة عين الطويلة توقيف شخص متورط القذف عبر الفايسبوك    سيدي بلعباس : المصلحة الولائية للأمن العمومي إحصاء 1515 مخالفة مرورية خلال مارس    أحزاب نفتقدها حتى خارج السرب..!؟    مشروع "بلدنا" لإنتاج الحليب المجفف: المرحلة الأولى للإنتاج ستبدأ خلال 2026    بطولة العالم للكامبو: الجزائر تحرز أربع ميداليات منها ذهبيتان في اليوم الأول    حوالي 42 ألف مسجل للحصول على بطاقة المقاول الذاتي    هلاك 44 شخصا وإصابة 197 آخرين بجروح    حج 2024 :استئناف اليوم الجمعة عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    الجزائر العاصمة.. انفجار للغاز بمسكن بحي المالحة يخلف 22 جريحا    من 15 ماي إلى 31 ديسمبر المقبل : الإعلان عن رزنامة المعارض الوطنية للكتاب    المهرجان الوطني "سيرتا شو" تكريما للفنان عنتر هلال    شهداء وجرحى مع استمرار العدوان الصهيوني على قطاع غزة لليوم ال 202 على التوالي    إستفادة جميع ولايات الوطن من خمسة هياكل صحية على الأقل منذ سنة 2021    السيد بوغالي يستقبل رئيس غرفة العموم الكندية    حج 2024: آخر أجل لاستصدار التأشيرات سيكون في 29 أبريل الجاري    رئيس الجمهورية يترأس مراسم تقديم أوراق اعتماد أربعة سفراء جدد    خلال اليوم الثاني من زيارته للناحية العسكرية الثالثة: الفريق أول السعيد شنقريحة يشرف على تنفيذ تمرين تكتيكي    شلغوم العيد بميلة: حجز 635 كلغ من اللحوم الفاسدة وتوقيف 7 أشخاص    الدعاء سلاح المؤمن الواثق بربه    أعمال تجلب لك محبة الله تعالى    دروس من قصة نبي الله أيوب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المصريون قالوا إن إسرائيل "شربة ميّة"، لكن الواقع كذّبهم
الحلقة الثانية

في يوم 5 جوان 1967، اندلعت الحرب بين العرب والإسرائيليين. قبلها بخمسة عشر يوماً، كنت رفقة وفد عسكري جزائري في مدينة العريش، بصحراء سيناء، حيث حضرت لمناورة عسكرية كبيرة. كانت ثاني زيارة لي إلى مصر. الزيارة الأولى، كانت في إطار دعوة من الجيش المصري للبلدان الأعضاء في المنظمة العسكرية الأفريقية التي كان مقرها في أكرا عاصمة غانا. كانت أول مشاركة لنا لهذه المنظمة القارية التي انضممنا إليها فور الاستقلال. وكان عبد الرزاق بوحارة والعميد الراحل العربي سي لحسن عضوين فيها.
*
*
*
كنا في فجر الاستقلال نثير فضول الجميع من حولنا. ليس فقط لأن الثورة الجزائرية تخطت الحدود، لكن لأننا أيضاً كنا نرتدي البدلات القتالية، بحيث لم تكن قد سلمت لنا بدلات الخروج بعد. أتذكر أننا حينما كنا نتناول الطعام في مطعم فندق "شيبيردس" حيث كنا نقيم، كان هناك رجل يجلس ليس ببعيد عنا، يحدق فينا بشكل ملح وخفي، إلى أن جاء يوم كسر فيه العربي سي لحسن اللغز وكنا في انتظار المصعد. تبين لنا أن هذا الرجل الفضولي الذي ظل يلتهمنا بنظراته لأيام طويلة، كان فقط متشوق لرؤية جزائريين عن قرب، هو الذي سمع عنهم الكثير. كان هو عبد القادر إسكر، فرنسي من أصل جزائري، وهو مخرج سينمائي ذاع صيته بعد ذلك كثيراً، وكان سعيداً بلقاء أبناء وطنه.
*
رحلتي الثانية إلى مصر كانت أكثر أهمية. ذهبت، كما أسلفت القول، خلال شهر ماي 1967، قبيل اندلاع حرب الستة أيام، وذلك في إطار تكوين عسكري. بالإضافة إلى زيارة مدارس التدريب، دعونا لمشاهدة مناورة كانت تجري في سيناء، بالقرب من مدينة العريش. شارك فيها اللواء عبد الحكيم عامر، نائب الرئيس ووزير الدفاع المصري وألقى كلمة في ختام العملية بثت على الإذاعة. كان عرضاً ضخماً. أهداف الدبابات أصيبت كلها بحيث كان يتصاعد منها كل مرة نار ودخان. المستندات النارية، سواء كانت مدفعية أو جوية، كانت تتقدم كما لو أنا فوق حقول الرماية. وكانت تحركات القوات الأخرى تتم كما لو أنها في استعراض. كل ذلك كان يملأ الجمهور الحاضر اعتزازاً واطمئناناً.
*
*
ماي 1967، في صحراء سيناء
*
عند عودتي إلى الجزائر، رددت لمن في محيطي بأن المصريين كانوا الأقوى وأنهم، في حال نشوب نزاع، سوف ينتصرون بلا أدنى شك. كنت ناشئا في هذا المجال، وكنت مليئاً بالحماسة. وكان إيماني أن نهاية إسرائيل محتومة. وكان المصريون يرددون بقولهم "شربة مية"، من فرط ثقتهم في أنفسهم. كم كنت مخطئاً، لأني سرعان ما اكتشفت بأن المصريين اعتادوا تزييف الحقائق والمبالغة مما يعطي انطباعاً خاطئاً عن جيشهم. عرفت فيما بعد بأن ما هي في الأخير سوى مسرحية هزيلة. المصريون كانوا قد أخفوا براميل من الوقود خلف أهداف الدبابات وجميع الرميات كانت محددة ومهيأة سلفاً. وراء كل هذا السيرك كان هناك هدف واحد: كسب رضا القائد.
*
ورأينا تمثيلية أخرى، تتمثل في نشر وحدة مكافحة الغازات، حيث يتحرك الجنود شبه عراة تحت بالوعات من الماء الساخن. هل كان في نيتهم أن يدفعوا بالسيناريو أبعد من ذلك؟ يجب الإشارة إلى أنه كان بجانب المصريين آنذاك مدربون سوفييت لم يكن هدفهم نقل التكنولوجيا بقدر ما كان للإبقاء على نظام يسعى أولاً وقبل كل شيء لتمديد بقائه على الأرض وأيضاً لبيع تجهيزاتهم. لم يكن غريباً أن يكون السوفييت قد نقلوا مثل تلك الأساليب التمثيلية للمصريين بالقدر الذي يشتهون ويملأ لهم عيونهم.
*
كنت قائداً على الناحية العسكرية الثالثة، عندما عادت في ذهني ذكرى تلك الأيام أثناء مناورة للمدرعات حضرتها في منطقة بودو، في الناحية العسكرية الثانية. حضر المناورة عدد كبير من الضباط التابعين لمختلف النواحي العسكرية، ونظمت تحت الرعاية السامية وزير الدفاع آنذاك، الرئيس الشاذلي بن جديد. الجنرال السوفيتي المكلف بالمدربين جاء خصيصاً إلى الجزائر العاصمة. تعرفت عليه لأني التقيت به قبل ذلك بتندوف.
*
يومها في بودو، وبحضور هذا الجنرال، شهدت لإلقاء كمية هائلة من القذائف من نوع BM 21، المشهورة باسم "أراغن ستالين"، في حين كان يكفي إطلاق بضعة رميات لأن الأمر كان يتعلق بما يطلق عليه في اللغة العسكرية برميات تجريبية". وتقام لأهداف إيضاحية وتعليمية فقط، لاسيما وأن الذخائر نفيسة الثمن. كان الجنرال السوفيتي محصوراً بين الرئيس والضباط المنظمين لتلك المسخرة، غير مرتاح، وهو يختلس النظر باتجاهي. كان يعرف بأنه لن أجامله عندما تأتي لحظة تقييم التمرين. وهو في ذلك لم يخطئ. بعد انتهاء المناورة، عرضت عليه وجهة نظري وأبديت له عدم اقتناعي لهذا الأسلوب في العمل. أخذني الجنرال على انفراد وقال لي بالروسية دون أن يقنعني بكلامه: «No chto tavaritch younas Président !» (لكن يا رفيق الرئيس هنا). أصبت بالدهشة. لأنه بالأحرى صار مسموحاً أن تشوه الحقيقة، طالما أن الرئيس كان يحضر مناورة.
*
هل كان المصريون ضحايا سوء نية السوفييت أم أنهم كانوا متواطئين في هذه التزييفات غير النافعة وغير المجدية ؟ على أي حال، كان ذلك أحد عوامل هزائمهم المتكررة ضد الإسرائيليين. وفي يوم 6 جوان 1967، اكتشف العرب ذلك بما لا يدع مجالاً للشك. قبيل اندلاع حرب الستة أيام، علمت بأن المصريين الذين أرادوا أن يتخذوا المبادرة ويباغتوا الإسرائيليين، كانوا قد دعوا قادة أركان الدول العربية ليبلغوهم بذلك. لكن المفاجأة جاءت في الأخير من جانب الإسرائيليين الذين هاجموا الجيوش العربية على حين غرة وسمّروا طائراتهم الحربية منذ أولى ساعات الصباح.
*
في ذلك الحين، كنت في الجزائر العاصمة. كنت أتتبع جزء من وقائع المعركة انطلاقاً من مقر المحافظة السياسية، وكان المقر الوحيد الذي يتوفر على أجهزة الكتابة عن بعد. وكانت تصريحات المصريين الانتصارية تتوارد بشكل غير منقطع. مع ذلك قررت أن التحق بوحدتي في الجنوب الغربي في حالة ما إذا احتاجتني قيادة الأركان. في طريقي أرغمتني عطب في السيارة للتوقف في مدينة الأصنام (الشلف حالياً)، وهناك سمعت عبر الإذاعة بأن الجيش الإسرائيلي دخل مدينة العريش التي كنت قد زرتها في السابق.
*
فهمت بأنهم خسروا الحرب، لأن اجتياح العريش يعني أن الإسرائيليين تخطوا واقتحموا آخر صروح المصريين. في المساء وصلت إلى وحدتي. قائد أركاني، المرحوم محمد أوسليمان كان يتصنت إلى جهاز الراديو على مدار الساعة وكان يستمع أكثر للمحطات التي تنشر "الأخبار السارة". كان عارفاً بالنكسة، لكنه كان بنفس القدر يريد أن يوهم نفسه بنصر آت للعرب. محمد أوسليمان الذي عرف مدارس الشرق الأوسط، كان لحظتها منقسماً بين واقع الحرب المر وعواطفه الخاصة. مزيج من الحسرة والأمل الزائف.
*
في الغد ظهراً، علمنا بأن القاهرة قصفت وأن الجنود الإسرائيليين وصلوا قناة السويس. على الطاولة، كانت الإذاعة تقصفنا بالأخبار المفجعة. لم يكن لأوسليمان سوى أن يسلم بالأمر الواقع فراح يجهش بالبكاء. دخل الثورة وهو صغير السن، وكان ذلك منذ أول يوم من اندلاع ثورة نوفمبر 1954 فهذا الرجل الذي يعد من الرعيل الأول من المجاهدين، وكنت أقدره وأحترمه كثيراً، لم يكن يقوى على مقاومة دموعه أمام ما كان يعتبره مذلة لكل العرب. كان للخبر أثر الصاعقة على الجميع، إلى درجة أن هناك من مات بأزمة قلبية. كما علمنا عبر الإذاعة بأن هناك فتيات حاولن الانتحار بعد أن رمين أنفسهن من الأعالي.
*
*
القسم الثاني
*
استعدادات للحرب
*
كانت ترد إلينا أوامر تحضرنا للالتحاق بالشرق الأوسط. مجموعات حاشدة تحت قيادة النقيب عبد الرزاق بوحارة كانت تستعد للطيران إلى مصر، ولقد سبقه الرائد زرقيني وضباط آخرون أرسلوا كمستطلعين. كنا في حالة تأهب حينما أعلمنا بأن وجهتنا هي مصر. كنا آنذاك نملك ثلاث فرق مشاة متحركة، الأولى بقيادة النقيب عبد القادر عبد اللاوي، والثانية كانت تحت إمرتي، وأما الثالثة فكانت تحت قيادة النقيب محمد علاق. ولقد عيّنت فرقة رابعة، كوّنت لاحقاً ويقودها النقيب محمد علاهم، لاستخلافي في بحر شهر أكتوبر 1969.
*
كانت الجزائر العاصمة في تلك الفترة في حالة غليان.
*
تعزيزاً لمجموعة النقيب بوحارة، كانت هناك فرقة عتاد كبيرة بقيادة النقيب سليم سعدي، مدير النقل آنذاك، تبعت عبر الطريق البري. عند وصوله إلى ليبيا، تلقى النقيب سعدي أمراً بالعودة فور علم السلطات في الجزائر بنهاية الحرب. في طريق العودة، وجدوا استقبالاً آخر لدى التونسيين الذين كانوا في الذهاب قد استقبلوا القوافل بالزغاريد والأزهار والحلوى، ليس لأن الجيش الجزائري عاد من حيث أتى، وإنما لأن التونسيين مثلنا جميعاً شعروا بالذل والهوان لما علموا بأن العرب انهزموا بتلك السرعة. كانوا من شدة احتقانهم وقفوا طول الطريق مشيرين بأصابعهم المرفوعة باتجاه الشرق بحركة لم يخل من السخرية تدل أن رجالنا أخطأوا الطريق لأن مصر موجودة في الاتجاه المعاكس.
*
بالإضافة إلى قواتها البرية، قامت الجزائر أيضاً بإرسال قواتها الجوية. أثناء نقل طائراتنا "ميغ 21" و"ميغ 17"، اثنتان منها اضطرتا للنزول على الحدود الجزائرية التونسية لأسباب تقنية، نتيجة ربما تحضير سيء أو تسرع. كان للرئيس بورقيبة تعليق ساخر في الموضوع يقول فيه: "من حسن الحظ أنهم في حالة ما إذا حاولوا معنا لن يصلوا إلى تونس.." لأن جيراننا كانوا فعلاً يعتقدون بأن السلاح الذي تتزود به الجزائر قد يوجّه يوماً ضدهم. النقيب محمد بوزغوب، وهو حالياً عقيد متقاعد، كان يقلع من إحدى قواعد الجنوب الشرقي للجزائر مع سربين من طائرات "ميغ 17". بالإضافة إلى خمسة عشر طائرة من طراز ميغ 21 كنا اقتنيناها حديثاً. كان يقودها مصريون. كما أرسلت إلى الجبهة دبابات من طراز "تي 54" ومحركات آلية من نوع " SU 100" وآليات مدرعة. فور هبوط طائراتنا "ميغ 21"، حضرت بسرعة وأرسلت لتوها إلى مهمتها. الطائرات المصرية حطمت كلية على الأرض. إحدى الطائرات "ميغ 21 " الموشحة بالراية الجزائرية أسقطت فوق تل أبيب. والأدهى والأمر بالنسبة للمصريين، زيادة على كل الشائعات التي تروج حول نكساتهم، ما روي خطأ أن الطائرة الوحيدة التي مست إسرائيل كانت طائرة جزائرية. هذا الطيار المصري البطل يستحق منا وقفة نحييّ فيها ذكراه، لأنه رغم الهزيمة لم يتردد في إسقاط طائرته على طريقة الكاميكاز فوق عاصمة الدولة العبرية. في حديثنا عن هذا الشهيد المصري تعود إلى ذهني قصة هؤلاء الفلسطينيين الذين درسوا في الجامعات الجزائرية وفي المدرسة متعددة الأسلحة بشرشال والذين قررنا أن نجندهم ونعدّهم للقتال. بعضهم، وكانوا قلة، لم يستجيبوا للنداء. كانت فرصة لنا نحن الذين خرجنا مرفوعي الرأس من حربنا التحريرية.
*
في بداية السبعينيات، كنت ضمن وفد أرسل إلى مصر لتسليم بعض التجهيزات للقوات العسكرية المصرية. كان الوفد تحت قيادة العقيد محمد الصالح يحياوي. حملنا رسالة من هواري بومدين يبلغ فيها وزير الدفاع المصري، اللواء محمود فوزي، استعداد الجزائر لأن تضع في متناول بلده ستين طائرة حربية، و150 سيارة مصفحة وما بين 75 و100 دبابة سيسلمها الاتحاد السوفيتي. على أن تتفاوض الجزائر على مجموع ذلك تدفع ثمنه. وفي الحقيقة إن المساعدة التي قدمتها الجزائر لمصر لم تحسب أبداً.
*
لم ينقطع وصول المعدات والعتاد نحو بلاد الفراعنة رغم سوء التفاهم الذي حصل بخصوص 19 جوان 1965 والهجوم الذي فتحه الرئيس السادات على الدول المنضوية في جبهة الرفض في عام 1973، أثناء حرب الستة أيام، ونقلاً عن قائد أركان الجيش المصري، اللواء سعد الدين الشاذلي، انتقد الرئيس السادات البلدان العربية وبالأخص منها الجزائر ورئيسها هواري بومدين. يقول: "بومدين باع نفسه للأمريكان، سياسياً واقتصادياً. هو وقّع على عقد تسليم البترول والغاز المميع لشركات أمريكية. اقتصاده سيصبح مرهوناً كلياً بأمريكا." وهذا لم يمنع من أن نفس ذلك النفط وذلك الغاز استعملا كسلاح ضد الأمريكان بفضل مبادرات الجزائر ورئيسها. لكن الرئيس السادات وقع في تناقض، عند نهاية الحرب، في خطاب له قال: "لن نشكر أبداً الجزائر على ما قدمته من دعم لمصر.."
*
ظل سوء التفاهم يطبع العلاقات بين مصر والجزائر. منذ حرب التحرير، إثر التدخلات فتحي الذيب السافرة في شئون الجزائر الداخلية ومناوراته الكثيرة. وكان سوء التفاهم أيضا ناتج عن المحاولات الاستفزازية المصرية أثناء العملية التصحيحية 19 جوان 1965 وكذلك أثناء تفكيك مستودعاتنا التي تعود إلى زمن حرب التحرير. كان رد الفعل الوحيد للرئيس بومدين في عام 1971، أن عقد اجتماعا لمسئولي الفرق التي ذهبت إلى مصر مكلفة بإحصاء عدد الشهداء، وكانوا بضعة عشرات. لأن الجزائر دفعت ثمناً غالياً من أجل أن تعتز دائماً بماضيها العربي.
*
بعدما هضم الجميع الهزيمة، بدأت إعادة النظر في التعبئة العامة لوحدات الجيش الوطني الشعبي. وكان قرار الإبقاء بصفة دائمة على فرقة واحدة على مسرح العمليات المصرية، تم اتخاذه من باب بالاستخلاف. ولقد عينت فرقتي لأداء هذه المهمة. تمركزت في عين الصفراء، وكانت تتألف من ثلاثة فيالق، كل فيلق يتشكل من ستمائة رجل، ومن فيلق يضم 31 دبابة من طراز "تي 55"، ومن فوج مدفعية (بطاريتين ذات مدى بعيد معيار 122 ملم وبطارية قذائف 152 ملم)، ومن فوج دفاع مضاد للطيران وبطاريتين أنبوبيتين 35 ملم وبطارية 14,5 ملم فوق عربات رباعية. وكانت تتكون أيضاً من خمسة كتائب نقل وإرسال واستطلاع للقيادة والخدمات. وتلقينا في وقت لاحق كتيبة سادسة للهندسة.
*
في أكتوبر عام 1968، تلقيت أمراً بالاستعداد للذهاب إلى مصر وباستخلاف الفرقة التي كانت يقودها النقيب عبد القادر عبداللاوي. بينما كانت مجموعة النقيب بوحارة وفرقة النقيب عبداللاوي تتناوبان على مدار كل ستة أشهر، كانت القيادة الجزائرية، ربما بعدما رأت أن الحرب قد يطول أمدها، قررت أن تكون الإقامة في المستقبل لمدة سنة لكل فرقة، على أن يبقى كل العتاد هناك. فالاستخلاف يخص فقط الرجال. كان قراراً حكيماً، لاسيما وأن الجزائر كانت جغرافياً بعيدة جداً عن الشرق الأوسط وأن وحداتها تلبي دائماً لنداء الواجب. كان ذلك الحال عام 1967، قبل أن يتكرر نفس السيناريو عام 1973.
*
لكن هذا بشرط أن تكون الثقة في الجزائر كبيرة. وهذا ما كان يراه الرئيس السادات قبل أكتوبر 1973 الذي قال، في اجتماع مع قائد أركانه وضباط الجيش المصري، بأسلوب تهكمي رداً على سؤال للشاذلي سأله إن كان سيتخذ مبادرة من أجل تجنيد الطاقات العربية أم أن المعركة ستكون مسئولية فدرالية بلدان الرفض وحدها: "إن المعركة ستكون من مسئولية مصر بالأساس. الدول العربية الأخرى ستبقى على الهامش، دون فعل شيء في البداية. لأنها ستقع فيما بعد في مشاكل كبيرة مع شعوبها، وموقفها سوف يتغير."
*
في عين الصفراء، كل العسكريين كانوا يعرفون أنهم ذاهبون إلى الجبهة في مصر. وكلهم راحوا يعلقون على الموضوع. وكلهم فرحين بالسفر إلى الخارج. كان عليهم بعض القلق، لكن ليس كثيراً لأن الحرب يعرفونها جيداً، هم الذين خاضوا كم من معركة في حياتهم. لأن معظم عناصر وحداتنا الذاهبين إلى الشرق الأوسط مروا بحرب التحرير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.