المدينة الفاجعة تهدي لي شارعًا يحلم بأوجاع الماء،و بمرارات الشعير... " سوق العصر" مزدحم بخيبات ماء الزهر،مقهى " نجمة " يشرب صحو الأرصفة،جميلات "سان جون" يعلّقن زوابع الحب المؤجل على الشرفات ،الحلزون التعيس يراوغ مزاج الصيف لينمو سريعا في غابة "جبل الوحش." " خليتها لك أمانة " لا زال حَسْني يجرّب الموت انتحارا للمرة الرابعة بعد دف.. أغلقت باب المسرح الجهوي برئتي ،حتى لا أزعج الصفوف الكثيرة قبلي و حتى لا أربك أحمد دلباني و هو يلقي محاضرة عن راهن الشعرية الجزائرية... في تلك اللحظة التي تسبق الولوج إلى عالم خارج النص، شعرت بيد مالك حداد تمتد إلى نحيبي. نزعت يدي من مقبض الروح و خرجت أتأبط يتمه،قد يكون خالد بن طوبال،و قد يكون ايدير صالح لكنني كنت متأكدة أنني اعرفه كأصابعي... مالك و أنا نغادر الغياب صمتًا بخسائرنا العملاقة، هي السادسة إلا الصدع مساء يوم شبه صيفي، في مدينة لن تكون السماء زرقاء إلا بها « le ciel n'est bleu qu'à Constantine » . كنت قد حضرت إلى هذا المكان فقط لأني من يتامى هذا الرجل الفاجعة، كان كل المدى يبعثرني أمام صورته الضخمة المعلّقة أمام الستار الأسود الذي لا يجيد الحداد على فاجعة بحجمه... وجهه النابض بجثة الرماد ،وجهه الذي أحب،ابتسامته التي كانت تهمس في شراييني: فضيلة أنت جزائرية بكاملك ، بتمامك،فضيلة إن الشقاء في خطر... و كنت أرد عليه بغصّة قديمة صدئة. تسرّب بعض الهواء إلى المسرح ، فحرّك الصورة كانت تتقدّم و تتأخّر،في الجهة اليسرى من صدره،حتى ظننت أن قلبه يدق..حينها تأكدت بأنه كان يريد أن يموت أخيرًا.. واثقة بأني الوحيدة التي رأت ذلك في القاعة كلها.. الوحيدة التي ناورت حدسها لتعثر على رائحة عبوره ذات حلم / ذات وطن.. توقف الهواء و صمت قلب مالك و راح يهتف في حضور الشقاء : سأكون خالد بن طوبال فتأبطي ذراعي اليسرى، و اعبري قنطرة الحبال إلى رحبة الصوف، كوني " سيمون " ليخلد" السين " إلى ذاكرته الشقية، سأكون ايدير صالح فاعتذري لفضيلة عن جرمي الجميل و للدكتور " كوست " عن فظاعة موته الأخير،و لجرمين التي تركتُها حين كانت الرطوبة المنبعثة من القنال أكثر دهشة،سأكون قبرًا حزينا في سان جون فكوني آخر من يزوره و افتحي باب الغياب لنحضر معًا راحلين بأحلامنا ... حملت جنوب المرايا و نظرت إليه آخر مرة، كان يبتسم كصديقه ذو العينين الكرويتين: أنتظركِ عند الفجيعة... تأبطنا غربتنا و مشينا، كنا نضحك و نبكي قسنطينة... سألته كثيرا لكنه لا يجيب، هو لم يعد يجيب، هو يضحك فقط، جميل هو حين يكون سعيدًا بحزن.. كان يحلم بوطن بحجم رغيف خبز الدار، كان يحلم باللقالق السعيدة و هي تبني أعشاشها في وجه الشتاء القديم،كان يحلم بمدينة لا تنام باكرًا لتلوك خيبات صباحاتها...كان يحلم بوطن يهديه رائحة الحب بجنون و سذاجة العشاق في " المونيما ".. كان تعيسا كما عرفته،جميلا كما لم يعرفه الحضور الذين صفقوا بسخاء... كان تلميذا يغيب عن الدرس الأخير، يصرخ في رماد الأمنيات: بختة ، قد تكون وريدة أو نجمة، كان يختصر تاريخ الشقاء في أصابعه.. مشينا إذن، هو لا يجيب،و أنا لا امنح فضفضة السؤال فسحة للبياض ... ستبقى غريبًا في قسنطينة،لا زالت جرمين تحبك بعنف،لا زال صديقك الصغير يحلم بأرض كروية كعينيه،لا زلت أؤمن بك كقصيدة،مت الآن،مت قبل أن يمدوا العزاء بيوم رابع ،مت فهذه المدينة أهدتك قصرًا للثقافة،لكنها لن تتذكّر انّك عشت تعيسا لأكثر من ربع قرن،مت فقد أهدتك قبرا في الشارع الذي تحب : سان جون ، حيث تمر الجميلات كل يوم،على بياض لوحة كتب عليها:هنا مات مالك حداد الذي لن يعود حيًا و لن يموت مرتين..