يقدم "عمرو العادلي" في روايته الصادرة عن دار "اكتب" للنشر رؤية خاصة لعالمٍ يبدو في أصله طبيعيًا، ولكنه ما يلبث أن يتحوَّل ويتغيَّر بمجرد اقتراب بطل الرواية من الإحاطة بأطرافٍ من "الحقيقة" التي كانت غائبة عنه زمنًا وذلك أثناء بحثه عن "والده"، الذي يكتشف فجأة أنه موجود ويبتعد عنه فقط بضع كيلومترات. هكذا كانت وصية والدته بينما هي في النزع الأخير، قبل أن تفارق الحياة، تلقي تلك الحصاة في ماء حياة ابنها الراكدة فينتج عنها ذلك التغيّر في حياته كلها، تغيّر سيلحظه ليس فقط من زيارته لوالده؛ بل وفي اكتشافه للعالم وتعرفه عليه بعد تلك الزيارة الفارقة! قسّم "العادلي" روايته إلى ثلاثة فصول تتبعًا لخط سير الرواية الزمني وتحرك بطلها الرئيس من "البوابة" ثم "الخروج" انتهاء "بالاختيار" بالتوازي مع ذلك ينتقل السرد في الرواية من ضمير "المتكلم" الذي يمثله البطل/الابن إلى ضمير "المخاطب" في فقرات تعود بالقارئ إلى الماضي وتكشف له طبيعة نشأة البطل وتكوينه، ولعل الكاتب كان موفقًا جدًا في اختيار هذين الزمنين تحديدًا لكي يجعل من القارئ مشاركًا ومندمجًا في تفاصيل الرواية وأحداثها متشوقًا لمعرفة ما سيطرأ فيها من تغيرات، ولعل الملاحظ كذلك أنه رغم غرابة الأحداث و"فانتازيتها" إلا أن الكاتب يعرض لما يحدث بطريقة تقريرية عادية لا يستخدم أساليب الإثارة والمفاجأة حتى لتبدو أكثر الأشياء غرابة كأنها يمكن أن تحدث بين عشية وضحاها! ثمة ابن يبحث عن والده، ويجده بسهولة هناك في تلك المستشفى، ولكنه يجده مجرد "رأس" بلا "جسد"! ويكون عليه أن يستعيد ذلك "الجسد"، وثمة جدة كان هذا الولد يعيش معها تأكل أي ذراعٍ تقابلها، ويحاولون أن يقنعوها بأهمية وجود "الذراع" للناس. قد يبدو الأمر شاذًا وغريبًا على هذا النحو -وغيره- ولكن الولد يستشير رجلًا مسنًا في المدينة فيحكي له مبررات تصرفات الجدة، وأنها أخذته عن أسلافها الذين كانوا يتخيلون أن الشكل الأمثل للإنسان أن يكون بلا ذراعين! وبالتالي لم يعد من حل للأمر إلا أن يتظاهر بأنه فقد ذراعيه حتى لا تلتهمهما جدته! ثم يكتشف بعد زيارة "الطبيب" أن جدته ليست الحالة الوحيدة التي جاءت المستشفى وتريد التهام أي ذراع تراه؛ بل إنه يبدو أن الأمر ظاهرة؛ إذ تبلغ الحالات 64 حالة في ثلاثة أشهر! وأن أغلب أصحاب تلك الحالات يشعرون بعد "محاولات القضم" بأنهم قد ازدادوا إيمانًا! تستدعي الرواية إذًا عالمًا "كافكاويًا" بامتياز، ولكنها تنشئ في الوقت نفسه عالمها الخاص الذي يدور حول هذا البطل "عمر سعيد إبراهيم" وأسرته الصغيرة أولًا (أمه وجدته ثم أبيه) ثم ينطلق إلى أهل "مدينته الصغيرة" كلهم، تلك المدينة التي تركها الكاتب بدون تحديدٍ لاسمها أو مكانها مما يفتح لفضاء الرواية أفقًا واسعًا في التخيل ويجعلها تبدو رؤية للعالم أكثر من كونها حكاية عابرة عن أشخاصٍ محددين! يبقى الابن "عمر" في المستشفى مدة أطول مما كان يعتقد، وذلك لأن مهمته لم تنتهِ عند لقاء والده، بل أصبح له مهمة أخرى أكثر خطورة وأهمية وهي الوصول إلى "جسد" والده! ولم يكن ذلك ليتأتى إليه إلا من خلال سبر أغوار عالم تلك المستشفى الغريبة ومن فيها. تنتقل الرواية من قسمها الأول "البوابة" إلى القسم الثاني "الخروج" الذي لا تتضح فيه معالم الرحلة الغريبة فحسب؛ بل يتجسّد فيها وعي البطل ويأخذ إدراكه مرحلة متقدمة، كأنه يسير تدريجيًا من طور براءة الطفولة إلى نضج الشباب: ولكن ذلك الوعي -فيما يبدو- ليس وعيًا فرديًا، لكنه يلقي بظلاله طوال الوقت على وعي الجماعة المحيطة بذلك البطل الغارق حتى أذنيه في محاولاته للكشف عن هذا العالم والخلاص منه بأقل خسائر ممكنة وبمكسبه الذي يبدو وحيدًا وفريدًا بعد ذلك (أبي .. لا مزيد!)، تلك الجماعة التي نكتشف أنها -كأي جماعة بشرية- تحوي أسيادًا متحكمين وعبيدًا محكومًا عليهم خاضعين مستسلمين، وعلى من يأتي بعد ذلك أن يحدد موقفه منذ البداية، هل سيخضع لسلطة أولي الأمر أم سيتمرد ويخرج عن المألوف ليواجه مصيره! هنا تبدو مرحلة عليا من مراحل الكشف وتشظي الوعي التي سيستمر في استثمارها والتركيز عليها القسم الأخير من الرواية المعنون بعنوان ملفتٍ ودال هو (الاختيار). هنا وقع البطل راضيًا بين براثن هؤلاء المتحكمين في أمره ولم يكن عليه والحال كذلك إلا أن يخضع ويستسلم، ذلك الخضوع الذي سيحاول فيما بعد أن يواجهه قدر استطاعته مع كامل إدراكه للمراوحة الدائمة التي يخلقها ذلك العلم وتلك المعرفة بين الشك واليقين، حيث لا مشاهد ثابتة ولا تصورات نهائية، وحيث بإمكان الحقيقة أن تجاور الخيال وتظل الأسئلة كلها معلقة في النهاية محكومة بتلك الرحلة التي لا يبدو الخلاص منها أمرًا سهلاً! طرحت الرواية الأسئلة في هذه الرحلة/ المغامرة المفتوحة للتأويل ولاستعادة القراءة مرة بعد أخرى حول ما يمكن أن ترمي إليه من مفاهيم ومعانٍ تتعلق كلها بأسئلة الوجود القائمة، وما يرتبط به من البحث الدائم عن جذور وأصول، وما إذا كانت تلك الرحلة تستحق ذلك العناء وهذه المعرفة، وما إذا كان المرء قادرًا في كل تلك الظروف والملابسات على المواجهة وتقبل النتائج أيًا كانت!
a href="#" onclick="window.open('http://www.facebook.com/sharer/sharer.php?m2w&s=100&p[url]=http%3A%2F%2Fwww.elayem.com%2F%3Fp%3D6788&p[images][0]=http%3A%2F%2Fwww.elayem.com%2Fwp-content%2Fuploads%2F2015%2F07%2F%D8%A7%D9%84%D8%B2%D9%8A%D8%A7%D8%B1%D8%A9.jpg&p[title]=&p[summary]=يقدم "عمرو العادلي" في روايته الصادرة عن دار "اكتب" للنشر رؤية خاصة لعالمٍ يبدو في أصله طبيعيًا، ولكنه ما يلبث أن يتحوَّل ويتغيَّر بمجرد اقتراب بطل الرواية من ا', 'Share This', 'menubar=no,toolbar=no,resizable=no,scrollbars=no, width=600,height=455');"Share 0 Tweet 0 Share 0 Share 0