يقدّم الفنان التشكيلي عمر دريس دقمان برواق الفنون "محمد راسم" منذ الثامن من جوان الجاري، أعماله المتبقية من مجموعات سابقة، في معرض أول من نوعه من حيث الفكرة واختار له عنوان "مسار" حيث أن اللوحات المعروضة -والتي لم تعرض سابقا- ما بين قديمة وحديثة وتعبّر بشكل واضح عن تأثّره بالموروث الثقافي الإفريقي بلمسة عصرية. زينة.ب "الجزائر الجديدة"، عند زيارتها للمعرض، التقت بالفنان عمر دريس دقمان الذي قدّم من وقته للحديث عن معرضه الحالي وكذا عن هموم الفنان مقترحا أفكارًا للنهوض بهذا النوع من الفنون وكذا حسن الاستثمار فيه لجعله مواكبا ويد عونٍ في الاقتصاد الوطني، بالإضافة إلى ضرورة تنظيم سوق الفن التشكيلي الذي لا يعرف الضوابط والتنظيم، بالإضافة إلى تقديم الأريحية خلال المعارض حيث يقوم الفنان خلال مشاركته في التظاهرات بنقل لوحاته بنفسه والاهتمام بتعليقها وكل ما يتعلق بالتعريف بها. من جهة أخرى يرى الفنان دقمان الفن في كل مكان، ويعتقد به كمساحة للجمال التي تتوزع على الكون. عن معرض "مسار" ومسيرته بصفة عامة يقول دقمان ل"الجزائر الجديدة"، أن معرض "مسار" فرصة لمحبي الفنون التشكيلية وزوار رواق "عمر راسم" للتعرف على مسيرته الفنية ومن خلاله يمكنهم معرفة تطور الفنان وملامسة أحلامه، تساؤلاته عن المجتمع واهتماماته. يصرّح، أن المعرض عبارة عن لوحات باقية من معارض سابقة له ولم يتم عرضها من قبل، لأنه -يؤكد- لا يقوم بعرض لوحه سبق له عرضها قبلا، كما أن المعرض يعتبر الأول من نوعه من حيث فكرته. يصف طريقته في العمل تلقائية وأنها تكون من خلال اللقاءات أو الخبرات أو من مواضيع ما، فمثلا -يوضح- أنه في فترة ما رسم الأشجار حيث شهِد عدم احترام وقطع لها، كما أنه رسم لوحات عن الرقص في أحلك فترات الجزائر وهي العشرية السوداء عندما كان الرقص كما كل الفنون "حراما"، حتى أنه -يضيف- رسم حلمه في الحصول على منزل لأنه كأغلب الجزائريين عاش كثيرا بالكراء، لولا مشاريع سكنات عدل التي بدأت تُحل مؤخرا. الإبداع يعني البحث والاجتهاد يتحدّث دقمان عن الفنان الذي يراوح مكانه ويبقى عالقا بمرحلة معينة ولا يتطور، لأن كل الفنانين الكبار مروا بمراحل فنية، والأمر لا يعني المواكبة، بقدر ما يعني تطوير الفن، فالإنسان -يضيف- في حد ذاته يمر بمراحل فكيف الفنان؟، والفنون التشكيلية لا تعني العمل بتقنية معينة وإنّما كل تقنية وكل فلسفة لها روحها الخاصة، وكل فنان لديه شخصيته ولمسته الخاصة، صحيح -يوضح- أن البداية تكون بالتعلم من خلال المدارس الأولى الواقعية لكن بعدها لابد من الإبداع الخاص ويتجاوز الفنان رسم ما يراه إلى رسم ما يحسه من خلال ما يراه، فالأمر ضروري لأنه قد تم العمل به قبلا خاصة بعد ظهور الآلات الفوتوغرافية وغيرها. ويظن التشكيلي ذاته، أن الفنان له فلسفته الخاصة لوقت معين وعصر معين، ورغم أن المدارس الأولى مهمة وقد مر بها هو أيضا إلا أن التطور يعني وجود الإبداع الخاص، فالوصول مثلا -يشير- للفن التجريدي ليس أمرًا بسيطا أو سهلا لأن فنان هذا النوع قد ثابر وبحث وعمل واجتهد للوصول إلى لمسته الخاصة ثم يأتي من يحط من قيمة العمل وكأنه "خربشة". وفي هذا الصدد، يسلط دقمان الضوء على الفنانين الذين يتكاسلون ولا يجتهدون ويرسمون لوحة في سنة أو أكثر، قائلا أنه من الأفضل التخصص في موهبة معينة لأن العمر قصير ومن المستحيل أن يقوم فنان واحد بكل التخصصات فلا يعقل أن يكون كاتبا وناقدا وشاعرا ورساما لأن التخصص الواحد يحتاج عملا وبحثا ومثابرة، ومن الجميل -يقول- أننا مختلفون. ويعتبر الفنان "الخيال" أهم خطوة نحو الإبداع ويأتي هذا الخيال بالتعلم والبحث، فكل شيء -يضيف- يبدأ به فلولاه لما كان الطيران ولما كانت أمور أخرى تحققت في الواقع. اللوحة التشكيلية مسار وحكاية من خلال المعرض -يقول دقمان- أنه يرغب بتقرب المواطن من الفن التشكيلي وأن يتجاوز فكرة أن اللوحة عبارة عن رسمة وإطار للزينة، في حين أن اللوحة لها مسارها وحكايتها، وأنه من الأفضل أن لا يصرح الفنان بفلسفته وأن لا يقدم شرحا عنها حتى لا يحد من خيال المتلقي، وحتى العنوان -يضيف- لو كان الأمر لا يتعلق بأمور التقييد والأرشيف كان استغنى عنه. الموروث الثقافي جزء من وجودنا يؤكد الفنان ذاته، أنه قديما كانت العائلات الجزائرية مختلفة عن بعضها البعض، وإن كان التراث الواحد يجمعها إلا أن كل واحدة تميزت بخصوصيتها وشخصيتها، لكن -يضيف- الآن كل المنازل متشابهة، وحتى الملابس قديما كان الناس يذهبون إلى الخياط الذي يجهز البدلات وفقا لنوع الجسم، بينما المصانع تجهزه اللباس وفق معايير واحدة ثابتة. يتحدث أيضا عن التقليد واستعمال موروثات الآخرين على غرار القندورة الجزائرية التي كان لنا منها 265 نوع، بينما تُلبس التي تخص الإمارات والسعودية، وذات الأمر -يتابع- بالنسبة للحجاب الذي من الممكن أن يكون وفق موروثنا ووفق معايير الحجاب الإسلامي، عوض ارتداء عبايات البلدان الأخرى. ولكن -يقول- أنه مع المعاصرة دون نسيان التاريخ والتراث، فلابد من توظيف موروثنا في كل الفنون، لأن الدولة التي لا تملك تراثها وثقافتها ولا تحافظ عليهما تبقى دولة مجهولة، وإن حاليا -يشير- هناك بعض الجهود التي لا يمكن إنكارها في العودة إلى أصالتنا، فنحسن ونطور ما يحتاج ونترك الكلاسيكي الذي لا يحتاج للتغيير. ضرورة الاستثمار في الفن التشكيلي وعن نظرته للفنون الأخرى، يرى دقمان أنها لا تتعاون مع بعضها البعض، كما أن الحديث محصور في المسرح والموسيقى بينما يكبر عدم الاهتمام بالفن التشكيلي الذي قد يكون نقطة هامة في الاقتصاد الوطني، فمثلا -يوضح- أن أخذ قطعة صغيرة من لوحة فنية واستثمارها في القماش وفي أوراق الجدران والحلي وغيرها بإمكانه أن يدر أموالا أو الإشاربات وحتى الأحذية من شأنه أن يدر أموالا، لكن -يضيف- المشكلة تكمن في عدم التعاون بين وزارة الثقافة والجامعات ووزارة الاقتصاد والصناعات، ورغم ذلك -يدعو- وزيرة الثقافة إلى دعم الإبداع الجزائري الذي يمكن أن يفتح نافذة نحو استثمارات قيّمة حيث يعتبره فرصة ذهبية للنهوض بالاقتصاد الوطني كما يدعوها أيضا إلى الاهتمام بالفن التشكيلي والتعريف به خلال التعاملات الدولية، فمثلا -يقول- يمكن أن تهدي وزارة الشؤون الخارجية دولة ما في إطار تبادل العلاقات لوحة فنية تشكيلية وعدم الاقتصار على الهدايا الحرفية. وفي السياق ذاته، يدعو الفنان حديثي الثراء برفع المستوى إلى اقتناء أعمال فنية ذات قيمة وتكون لفنانين أصحاب مرجعية ومعروفين ولديهم لمستهم الخاصة التي لا تشبه أحدًا. الفن التشكيلي يحتاج إلى التأمل يدعو الفنان التشكيلي دقمان، التأمل في هذا الفن وأخذ الوقت الكافي للاستمتاع بلوحة فنية مثلا، مؤكدا أننا لانزال نعاني من نقص الاهتمام من قبل الأغلبية، والأمر يعود للذوق فلو زرعنا بذرة الجمال للأطفال منذ صغرهم سيكبرون عليها ويرونها في كل الأمور البسيطة وغيرها. ويعتقد أن الموسيقى أوفر حظا فهي قد تجعلك تسمعها في طريق سفر مثلا بينما اللوحة أغلب الأوقات تُشاهد على عجل في حين تحتاج لوقت لسبر أغوارها. يشير دقمان إلى متحف الفنون الجميلة الذي يعتبره من أجمل الأماكن، ورغم تواجد الحديقة بجانبه عمدا لإعطائه قيمته غير أن الناس يذهبون إلى الحديقة ولا يزورون المعرض، ويدعو في هذا الصدد العائلات لجلب الأطفال للمتحف والمعارض لأنه يرى أن المشكل في الكبار حيث أن المعرض الحالي جعله يشاهد ردود الأفعال مباشرة. ويعود بذاكرته إلى سنوات التسعينات حيث كانت البرامج الفنية في المتوسطات ثرية ومهمة، لكن المشكل -يتابع- تقني سياسي بين التعليم والولاية ووزارة الثقافة ووزارة الشباب فلا تعاون بينهم، فمثلا -يقول- دار الشباب من أهم الأماكن المكملة للمدرسة لكن دورها غائب، بالإضافة إلى أمور غريبة أخرى كغياب طلاب الفنون الجميلة وطلاب الهندسة عن المعارض. وفي هذا الصدد يدعو الجميع إلى زيارة الرواق قائلا أنه نظيف والاستقبال فيه جميل. ضرورة إعادة الاعتبار لهذا الفن في اللقاء ذاته، يشير دقمان إلى نقطة مهمة تتعلّق بالفنان التشكيلي، فبينما يقتني الأجانب لوحاته لا أحد من وطنه يفعل وأنه يُأخذ بعين الاعتبار في وطنه بعدما ينجح في الخارج، في حين -يقول- لابد أن يعيش من خلال فنه، ففي وقت غادر الكثيرون الوطن كان هو من الباقين ويؤكد أنه سابقا وتحديدا في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين كان الفنانون التشكيليون هم الذين يفتتحون الملتقيات الاقتصادية، لكن -يضيف- أنه يأمل أن تكون الأمور مختلفة مع الحكومة الجديدة والوعود المقدمة. ويشكر الفنان في السياق ذاته مؤسسة "فنون وثقافة" على تعاملها معه في مرات كثيرة، ويشكرها أن فتحت له أبواب هذا الرواق الذي يعتبر الأول بعد الاستقلال وقد مر به أكبر الفنانين الجزائريين على غرار باية، خدة وإسياخم وغيرهم، لكنه يستغرب أنه في كل هذه المرات لم يزر المسؤولون بالمؤسسة المعرض ولا يهتمون بلقاء الفنان العارض ولا النقاش معه. لكل موهوب الحق في الفن لكن التكوين مهم بالنسبة للهواة، يرى دقمان أنه من حق من يمتلك الموهبة أن يرسم، فأكبر الفنانين العالميين كانوا هواة، لكنهم لم يبقوا كذلك لأنهم كونوا أنفسهم والتخرج -يقول- من مدرسة الفنون الجميلة ليس مرجعا إذا ما بقي من تخرج منها مكانه ولم يطور من نفسه لأن المدرسة مكملة للموهبة، لكن الإبداع يكون بالعمل وليس باللسان، والإبداع فيه تضحيات كبيرة فبيكاسو مثلا كانت طريقه شاقة وفان كوغ الذي عانى الكثير، وغيرهم. ويضيف في السياق ذاته، أن العمل الفني لا يجب أن يُنجز من أجل البيع، لأنه ينبع من الداخل وإخراجه يعني حب وحلم ووجع، لكن -يقول- الآن بعضهم لا يحب التعب فيكتفي بالتقليد ولا يبذل الجهد ما يدخله في التجارة أكثر من الفن. المعرض القادم له علاقة بالمسرح عن أعمالٍ قادمة، يذكر الفنان دقمان معرضه القادم الذي يعتبر مكتملا بعنوان "عالم المسرح"، ويقول في هذا السياق أن الفنانين الكبار الذين تعاملوا مع المسرحيين كان لابد لهم من قراءة المسرحية للوصول إلى تحقيق ديكور وخلفية المَشاهد المناسبة، لكن -يضيف- عندنا يحدث الأمر مع الحرفي وإن كان لا يملك أي شيء ضد الحرفيين إلا أن التعامل معهم يكون بسبب المال، فالحرفي يملك التقنية بينما المبدع هو الفنان. الفن لا يعترف بالسن يؤكد دقمان أن الفن هو المجال الوحيد الذي لا يعترف بالسن، فيمكن أن يكتشف الفنان ميولاته في أواخر العمر ويبدع فيها، فلا -يقول- يوجد صغير أو كبير لأن الإبداع الخالص والصافي والكامل والخاص بصاحبه هو الذي يتحدث.