ما إنْ يبدأ ليل تيميمون الحالم، في سدل دَيْجُوره على الفضاء العام للواحة الحمراء، حتى يأخذ الصوت الڤوراري الزناتي في الإنشاد، ملتمسا من عشقية صمت الليل الصوفي، حالة فيزيقية شعورية لامتناهية، ابتغاء جبر خاطره المكدود، فاهتدى الإنسان الأول، بفعل صدف خياله وذائقته الزناتية، لأن يرسم لوحة ليلية راقصة، عساه ينسى بها همومه المثخنة، ويفرّغ فيها يومياته المتعبة، فخطر بباله أول ما خطر، أن يبتدع خطابا رامزا بلغة جسده، اصطَلَح عليه فُرجة (أهَلّيلْ)، فاستدعى حنين محيطه الصحراوي، حاله في ذلك كما يقول المثل الشعبي (ساعة لربي وساعة لقلبي).. فأعطى روحانياته سهمها، كما أفرد لغراميات عشقه حصّتها، ومن ثمة تبلورت تلك الصورة المتكاملة الجميلة لهذا الطقس، حتى أضحى أيقونة ڤورارة وعلامتها الفارقة، الأمر الذي دعا منظمة اليونسكو، لأن تصنفه كتراث عالمي سنة 2005، وهو الأمر ذاته الذي حدا بوزارة الثقافة، لأن تفرد له مهرجانا سنويا يليق بمقامه. تتضارب الروايات وتتصارع في أصل الدلالة اللغوية لأهليل، حسب رؤية الأنتلجانسيا الزناتية المحلية، أمثال الأستاذ محمد سالم بن زايد، والأستاذ عبدالكريم بن خالد، والأستاذ أحمد جولي، والأستاذ عبّو الطاهر، وإن كان الاتفاق قد وقع بينهم، حول التسمية الاصطلاحية الأصلية لأهليل باللّسان الزناتي (إزَلْوانْ) و(أڤْرودْ)؛ غير أنها اختلفت اختلافا بيّنا في تفسيرها بالعربية، فبعضهم يُرجع تسميته ل(أهل الليل)، كونه يمارس ليلا، فيما راح الآخر يفسّرها من (التهليل) لكثرة التهليلات به. في العادة - إلا ما ندر - ترتسم لوحة أهَلّيلْ الزاهية، على مرتفع يشبه الرّكح، حيث تؤدى الرقصة من لدن الرجال والنساء، مما يوحي بالتشارك الاجتماعي لحياة الجماعة الزناتية القورارية، فيصطف الرجال والنساء، بلباس أبيض قشيب، يتقدّمهم الشيخ المنشد، المعبّر عنه محليا ب(أيشنيو)، الذي يكون هو البادئ بصوت مجلجل يكسّر سكون الواحة، يتبع بترداد متموّج لأعضاء الفرقة، في انسجام أخّاذ، على إيقاع بعض الآلات البسيطة؛ بيد أن التصفيق في الأهليل يأخذ مكانة مرموقة، ومع تنامي الإيقاع وتصاعد الأهازيج، تبدأ حركة الجسد في التعبير، معبّرة عن جذبها الصوفي وتفريغها لليومي، وبمرور الزمن وتعاطي الأجيال لهذا الطقس، تشكّلت عدّة مدارس أهليلية، لكل منها طابعها الخاص والمميّز، كمدرسة تيميمون عاصمة الإقليم الڤوراري، ومدرسة أولاد سعيد وكالي، في حين تفرّدت المدارس الجنوبية الغربية الثلاث، كمدرسة أوَڤْروتْ وشَرْوينْ وطَلْمينْ بآلة الڤمبري، لتأثرها بالمنطقة الشمالية لتوات والجنوبية من واد الساورة. تتنوّع الطبوع التعبيرية لأهليل، بحسب الأداء الطقسي الرامز، مما يخلق تنوّعا في المعجم الأهليلي، فلكل طقس اسمه الخاص، فمنه ما يؤدى من وقوف؛ وهو المسمّى (أهَلّيلْ)، فإن كان للرجال الواقفين، سُمي باللهجة المحلية (أهليل نَبْداد نودان)، وإن كان للنساء الواقفات، سُمي (أهليل نَبْداد نتسدنان)، أما الطقس الذي يؤدى من الجلوس الخالص؛ فيصطلح عليه (تاڤرّايتْ)، وتتميّز هذه الأخيرة، بخفّة إيقاعها، بالإضافة لإيقاع دقّ الحجر بها. أما بالنسبة لتراتبية الأداء الليلي لزمن أهَلّيلْ، فيقسّم إلى ثلاثة أجزاء؛ الجزء الأول من الليل يطلق عليه (لَمْسَرّحْ)، يتميّز بسهولة قصائده وقصرها، يأتي بعده الجزء الثاني، الذي يسمّى (الوڤروتي)، ويتميز بقصائد الحب والغرام، أما الجزء الثالث والأخير من الليل، يطلق عليه (الثّرى)، ويتميّز بالتصوّف والتضرّع لله تعالى، ومن أبرز قصائده (سيد لعزيز يا مولانا). أما بالنسبة للآلات المستعملة في الإيقاع الأهليلي، فهناك آلات تستعمل في أهَلّيلْ الواقف، منها آلة (أقَلاّلْ)، وهي آلة مخروطية مصنوعة من الطين المحمي، مجلّدة بجلد الماعز، وآلة (تامنجا)، وهي قصبة كالناي يُنفخ فيها، وآلة الڤمبري، كما أن هناك آلات تستعمل في (تَڤرايتْ)، منها آلة (تاقَلالتْ)، وهي تشبه آلة (أقَلاّلْ) المستعملة في الطقس الواقف، وكذا آلة (أغاف أنْ تسبحتْ)، وهي الجزء العلوي من الرحى، التي تستعمل لطحن القمح، أو آلة (أضغا أنْ توونتْ)، وهي حجرة تهشيم العلف للمواشي. هذا وقد ساهم عديد الرواد والشيوخ في حفظ هذا التراث، ونقله من الأجداد للأحفاد، نذكر منهم على سبيل الذكر لا الحصر؛ الحاج محمي، وباسعود، ومحمد الفلاني، والحاج البركة فلاني، ومحمد سوداني، والهامل، ومسعود عفيان، ومحمد لسحبي، وحاجي حمو، وبابا خامس، ومحمد بازا، وسالم خديم، ومحمد عمر، ومسعود سوداني، ومحمد أولاد دحمان وغيرهم، دون طمس الجهود اللّوجستيكية لمولود معمري، ورشيد بليل، ومولاي تيمي. لقد أتاح لنا البحث الأنثربولوجي، العديد من الكشوفات والفتوحات، في فهم وظائف رقصة أهَلّيلْ، كالوظيفة التواصلية، وكذا الوظيفة التفاعلية والاجتماعية، التي تنطق عن تجارب الإنسان الزناتي، وردود أفعاله اتجاه المعايشة اليومية للحياة، كالفرح والحزن، لتنتج عنها بعض القيّم التاريخية والسوسيوثقافية، متجاوزة تلك الصورة النمطية العامة، كونه ضربا من التسلية والفرجة وانتهى!! فالوظيفة التواصلية تتمثل في سيميائية اهتزازات جسد الراقص وردّة فعل المشاهد، وكذا بين الشيخ المنشد وبقية أعضاء الفرقة، بحيث ينتج عن ذلك جملة من الدلالات التعبيرية الرامزة، أما بالنسبة للوظيفة التفاعلية، فتتمظهر على مستوى تلقي الجمهور للرقصة، وتفاعله الديناميكي معها، سلبا أو إيجابا، وما التصفيق والزغاريد، إلا شكل من أشكال التفاعل المرضي، مما يزيد من نشوة الراقص، وبالمقابل فإن كل فتور أو برودة من لدن الجمهور المتلقي، تنعكس سلبا على مردودية الراقص، وإذا تحدّثنا عن الوظيفة الاجتماعية، فإننا نجدها بمقام بطاقة الهوية للجماعة الزناتية، كرؤيتها للمقدّس الديني، وجمالية الحياة والافتتان بها، كالتغزّل والعشق. هكذا يبقى أهَلّيلْ، ليس مجرد طقس غنائي لرقصة اهتزازية تصفيقية فحسب؛ بل هو وثيقة تاريخية جد هامة، تكشف لنا عن مقومات الجماعة الزناتية، وتفاعلها التاريخي والثقافي مع محيطها الجغرافي، مبرزة كينونة الإنسان الڤوراري، ورؤيته للذات والوجود.