شكّلت الدورة الثامنة لتظاهرة "أيام مسرح الجنوب" من 25 إلى 29 مارس الأخير، مناسبة لإعادة طرح الأسئلة الممكنة حول الممارسة المسرحية الجزائرية في الجنوب. يلتقي أكثر من صوت ركحي عند أهمية إعادة النظر في تنظيم أنشطة مسرح الجنوب في الجزائر، وذلك أصبح أمرا مستعجلا يخص المؤسسات العمومية و" التعاونيات"، الهواة والمدارس كما يتطلب الوضع ربط علاقات باستمرار مع هيئات أخرى (قطاع التربية الوطنية، التعليم العالي، الشبيبة والرياضة، التكوين المهني والجماعات المحلية) وإعطاء أهمية قصوى لعملية الترقية دون إغفال البعد الجمالي. إنّ انتقال مسرح الجنوب إلى مستوى مغاير، يفرض اعتماد أنماط فرجوية مغايرة وتعابير منوّعة، ستقود إلى ميلاد مسرح جديد يعيد النظر في مستويات الفعل والتلقي ومكونات الخشبة والجسد. الأكيد أنّ مسرح الجنوب يمنح ديناميكية وزخما متجددا، لأنّه يقوم في عمقه على تحويل الفضاء المسرحي إلى استمرار للواقع، وارتكاز هذا المسرح على "الموقف"، وانبنائه على قاعدة اختراق المقولات، يدفع المتلقين إلى الغرق في بحر علاماته. ويتموقع مسرح الجنوب كمسرح ملموس يعرض نفسه فنّاً في الفضاء والزمن، ويحتفي بحضورية الممثل، وليس إطاراً يُولِّد الإيهام بحدث درامي، ما دام الجسد يرفض دوره كدال، ويكتفي بحضوره الذاتي مما يجعل الممثل هو سببُ ونتيجةُ حضور المتفرج: أي أن هناك حضوراً متبادلاً بينهما. ويرتبط حراك مسرح الجنوب في القادم بإنتاج فرجات تقوم على فنيات الأيقنة، وتجسيد الملفوظ الدرامي بالصورة والرقص والموسيقى، والإنارة، وابتكار الفضاءات الحركية البسيطة والمركبة التي تُتيح للممثل الابتعاد عن الأداء السكوني، واستثمار جسده وموهبته في الارتجال، كما تدفع الجمهور المتلقي إلى ممارسة قراءة متعددة للإنجاز المسرحي وإلى تفكيك عناصره. أرجّح قابلية مسرح الجنوب للنجاح، خصوصاً مع الكمّ الهام من التجارب المتمردة التي تتجاوز المسرح الدرامي الذي يجعل من النص بنية عميقة ومحتوى رئيس لفن الدراما، وتعويضه بكتابة جدولية تقوم على مشاهد ولوحات تطرح العديد من المواضيع والقضايا في أماكن متعددة وأزمنة مختلفة، وتركز على الشخصية باعتبارها أداةً فاعلة في منظومة العرض. ولعلّ التطور الذي عرفته منظومة الإخراج، هي التي جعلت مسرح الجنوب يتعامل مع فنون أخرى كالسرد، والحكي، والتشكيل، والكتابة الشذرية، والفيديو الذي أصبح كما يقول جورج بانو "شريكا دراميا"، حرّر الكواليس من سكونيتها ودمجها في الخشبة، على حد تعبير المخرج المسرحي الألماني فرانك كاستور، للحيلولة دون انسلاخ الممثل عن الدور المؤدى. ويظلّ مسرح الجنوب حاضراً في الأشكال الجديدة التي تتبلور انطلاقا من بنيته العامة، إنه مسرح لا يهتم بالصراعات بقدر ما يهتم بوسائل التعبير وتنوعها. وبعيداً عما انتاب سيرورة أيام مسرح الجنوب منذ عام 2008، أقترح نمطاً مغايراً للارتقاء بالتجارب المسرحية في الجنوب وإبراز التراث الشعبي الأصيل المترامي عبر الصحراء الكبرى. أتصور أنّ السبيل الأمثل لتفعيل الحرکة المسرحية في الجنوب، يكون عبر استحداث توليفة المشاريع المسرحية، وأقترح إعطاء الأولوية للتكوين، شريطة الاحتكام إلى الورشات طويلة المدي. ينبغي أن يستمرّ هذا الحراك على مدار السنة، ويتم برمجة سائر الانتاجات في أسبوع مسرح الجنوب وبولاية جنوبية. الأمر في نظري، يقتضي تخصيص اعانات مالية معتبرة حتى يتم إنجاح المشاريع المسرحية في الجنوب، ومن ثمّ إقامة أيام تكن تتويجاً لمسار، ومختبراً لتقييم وتقويم النتاجات، بعيداً عن الإمعان في تنظيم أيام تبدأ وتنتهي. في هذا النسق، لا بدّ من فتح مسارح جهوية في الجنوب، وتدعيم التعاونيات المسرحية وإعطاءها الأولوية مع المسارح الجهوية لإنتاج أعمال مشترکة، وهذا بتخصيص إعانات مالية إضافية للمسارح الجهوية حتى تعمل في هذا السياق. إنّ فعلاً مسرحياً مغايراً سيصنع العجب في جنوبنا الحبيب، ويتجاوز السائد، فلا يجدر الاقتناع بمضاعفة عدد الجمعيات المسرحية الجنوبية من 6 فحسب قبل ثماني سنواتٍ، إلى ما يقارب الخمسين جمعية، طالما أنّه بالإمكان الذهاب إلى مئة ومئتين وثلاثمئة فرقة مسرحية في عموم تلافيف صحراءنا الشاسعة. هي دعامات من شأنها النهوض بصرح يتنامى في سبيل هدف يظلّ يتسامى نحو ابتكار مسرح قار في الجنوب.