لقد حلت الجمعة التاسعة للحراك الشعبي , ولم تظهر بادرة حل دستوري أو شبه دستوري أو سياسي أو مزيج منهما , فرئيس الدولة سارع إلى استبدال رئيس المجلس الدستوري المستقيل بعضو من المجلس , على عجل, وواصل مسار تنظيم الانتخابات الرئاسية التي يرفض جميع الأطراف المشاركة فيها , رغم مبادرة رئيس الدولة بفتح مشاورات من أجل تعيين لجنة مستقلة للإشراف على الرئاسيات المقررة ليوم 4 جويلية المقبل. وكان من المنتظر جراء هذا التباطؤ في حلحلة الوضع, أن تتواصل المظاهرات عبر الولايات, بنفس المطالب الداعية إلى رحيل رموز النظام السابق, وفي مقدمتهم الباءات الثلاثة, وحل المؤسسات الدستورية, ومحاسبة ما اصطلح عليها بالعصابة . وإذا كانت بعض المطالب تحظى بشبه إجماع لدى المتظاهرين, فإن مطالب أخرى قد تفسرها دوافع شخصية محضة, حيث فتح الحراك الباب على مصراعيه لسلوكات بدأت تبعاتها تثقل كاهل الاقتصاد الوطني, وتقلق طمأنينة فئات اجتماعية أخرى وتحول بينها وبين نشاطها المهني والاجتماعي والتربوي... وتشل مرافق عامة وجدت لتقديم خدماتها لجميع المواطنين بما فيهم من اختاروا النأي بأنفسهم عن فعاليات الحراك أيام الجمعة , أو خلال بقية أيام الأسبوع, وكذا استغلال الحراك من أجل أغراض مهنية أو لتحقيق مكاسب اجتماعية , و سياسية أو حزبية أو إيديولوجية , بل و حتى لمجرد التهرب من أداء العمل اليومي , أو من مقاعد الدراسة ,الأمر الذي جعل بعض الاقتصاديين يقدرون نسبة تراجع أداء الاقتصاد الوطني بحوالي 40 % منذ بدء الحراك؟ فكيف ستكون عليه الحال خلال شهر رمضان , الذي عادة ما تتراجع خلاله مردودية العمل وفي جميع القطاعات ؟ ومن ذلك أيضا منع أعضاء الحكومة من القيام بمهامهم الوظيفية, التي تتيح السير العادي لمختلف مصالح الدولة و استمرار المرافق العامة في تقديم خدماتها للمواطنين . وهذا فإن الحراك أصبح مطية لكل ذي غرض شخصي, كالبطالين الذين يغريهم مطلب "ارحلوا جميعا" لأنهم قد يتيح لهم خلافتهم في المناصب الشاغرة, أو كطالبي السكن الذين يمنون النفس بسقف يأويهم في ظل النظام الجديد, أو كمن يعانون من مشاكل مهنية مع رؤسائهم و يتمنون رحيلهم, أو حتى المتورطين في قضايا مشبوهة ويأملون أن تذهب مشاكلهم مع التغيير الجذري لنظام الحكم, بل إن بعض الطلبة الميؤوس من نجاحهم هذا العام الجامعي, أصبحوا هم رواد غلق الجامعات أمام بقية الطلبة الذين لهم حظوظ في النجاح, ليتساوى الجميع في الرسوب بإعلان السنة البيضاء ؟ ولا شك أن استبيان المشاركين حول دوافعهم الشخصية سيكشف المزيد من الحالات الخاصة, كمجرد التنفيس عن النفس, أو انتقاد مسؤول بعينه لأنه حرمه من خدمة يرى نفسه أحق بها, كمن رفع لافته يصف وزيرا بأنه "أسوأ وزير عرفه قطاعه", بل هناك حتى من طالب بحقه من الفساد؟ وهناك من يطالب بمحاسبة الفاسدين , و جزء من الحراك يعترونه من أهل الفساد ؟ والأخطر أن هناك من يطالب بتحرير الجزائر, ويزعم أنها مستعمرة منذ 2000سنة ؟ وهو من بين مطالب بعض السياسيين الذين يأملون توظيف الحراك لفرض أجنداتهم السياسية بتوجيه البلاد نحو صراعات جهوية هي في غنى عنها .
كما هناك من وجد في الحراك سوقا لتسويق بضاعته من أعلام وطنية و غير وطنية , و طباعة اللافتات و الشعارات و بقية المستهلكات في مثل هذه المناسبات , و شخصيا أرى أن عددا معتبرا من المشاركين في الحراك أسبوعيا , هم صائدو اللقطات الغرببة , و الفديوهات المثيرة , و الشعارات العجيبة , للمساهمة بها في المنافسات الفيسبوكية لنيل أكبر عدد من المشاهدين أو المعجبين و الفوز باشتراك مجاني يتيح لهم دخول عالم الإشهار الإلكتروني .و لا شك أن كل هذه الدوافع المتعددة للمشاركين في الحراك , تدعو إلى التساؤل حول ما إذا لم يكن بعض المغضوب عليهم شعبيا يتصدرون مسيرات الحراك , ما دام هذا الأخير أشبه بالحراك الافتراضي على شبكات التواصل الاجتماعي , الكل ينشط بأسماء مستعارة و حتى صور مركبة إلكترونيا , إذ يتعمد الكثير من المشاركين في الحراك إلى إخفاء و جوههم باللافتات و الأعلام و القبعات و حتى اللثام و النظارات الشمسية و... ولذا هناك من يشبه الحراك بالسيل الذي يجرف كل شيء في طريقه , و لكن في نهاية المجرى, لن ينفع غير الصح .