إذا كانت المستشرقة الألمانيّة « سِقْريد هُنْكِه» قد ذهبت في بعض كتاباتها الحضاريّة إلى أنّ «العرب شعب من الشعراء»، فإنّ الذي يجب أن يُستخلَص من قولها ما ذكرْناه، وليس أنّ كلّ عربيّ كان شاعراً بمفهوم الشعريّة الرفيعة لدُنْ أصحاب المعلّقات، فذاك شعر تنقطع دونه الأعناق! ولا بدّ مِن أن يمثُل لهذا الأمر، في هذا الافتراض، جملتان متقابلتان متلازمتان، موزونتان، لأنّ الجملة الواحدة (أو الشطر الواحد) لا يكوّن شعريّةً حتّى يضاف إليه صنوه فيقابله، فمثل: « قد رابني مِن دَلْوِيَ اضطرابُها «، إذا قيل وحده لا يكوّن كياناً شعريّاً، حتّى يتمَّ له الشطر الآخر. ونفترض أنّ وزن الكلام البسيطِ الاستعمالِ، جاء، أوّلَ مرّة، اتّفاقاً، لأنّ الناس كثيراً ما يتكلّمون شعراً محدود الموازين في كتاباتهم أو حتّى في أحاديثهم وهم لا يشعرون، كما ذهب إلى ذلك أبو عثمان عمرو بن بحرٍ الجاحظ حين قال متحدّثاً عن بعض ما نحن فيه: «إعلمْ أنّك لو اعترضتَ أحاديث الناس وخُطَبَهم ورسائلهم، لوجدت فيها مثل «مستفعلين مستفعلن» كثيراً، و«مستفعلُن مفاعلن». وليس أحدٌ في الأرض يجعل ذلك المقدار شعراً. ولو أنّ رجلاً من الباعة صاح: «من يشتري باذِنْجان»، لقد كان تكلّم بكلام في وزن «مستفعلن مفعولات»، وكيف يكون هذا شعراً وصاحبُه لم يقصد إلى الشعر»؟. وقد يقال لأيّ كلام موزون على أحد البحور المعترَف بشعريّتها، إذا لم يكن له صِنوٌ، ففي مثل هذه الحال لا يكون إلاّ من جنس النثر. ويؤيّد هذا الرأيَ ذهابُ بنِ سلاّم الجُمَحيّ إلى أنّه «لم يكن لأوائل العرب من الشعر إلاّ الأبياتُ يقولها الرجل في حاجته، وإنّما قُصِّدت القصائد، وطُوِّل الشعر، على عهد عبد المطّلب، وهاشم بن عبد مناف. وذلك يدلّ على إسقاط شعر عادٍ وثمودَ وحِمْيرَ وتُبّعٍ». غير أنّ ابن سلاّم لم يخصّص حديثه عن نوع الأبيات القليلة التي كان الرجل العربيّ الأوّل يقولها في حاجته، ونحن نرى أنّ ذلك كان الرجزَ تخصيصاً؛ ويُبْرِهُ على ذلك ما ذكره ابن سلاّم نفسُه، بعد هذا، من قديم الشعر الصحيح، وهو للعنبر بن عمرو بن تميم، وقد كان جاور في قبيلة بَهراءَ، فرابه منها رَيبٌ فقال متشكّياً منها، متأفِّفاً: قد رابني مِن دَلْوِيَ اضطرابُها -والنَّأْيُ في بهراءَ- واغترابُها إنْ لا تجِئْ ملْأَى، يَجِئْ قِرابُها فهذا الشعر من نوع الرجَز، وليس من شعر التَّقْصيد الذي ظهر متأخّراً عن هذا، وذلك في عهد هاشم بن عبد مناف، أي في حقبة قريبةٍ من ظهور الإسلام. وحين نتحدّث عن ذَهاب الشعر العربيّ القديم لانعدام التدوين، وقلّة الكتابة، وموت الرُّواة، فهذا كلّه ينصرف إلى المرحلة المتأخّرة من حياة الشعر العربيّ، التي سبقت ظهور شعر المعلّقات؛ وإلاّ فهناك مراحلُ أخرى للشعريّة العربيّة القحطانيّة أمثال الأشعار التي كانت تقولها طسْمٌ وجَديس وعاد وثمود وحِمْير وتُبّعٌ، ونفترض أن تكون تلك الأمم البائدة قالت شعراً، ولكنّ لغة ذلك الشعر غيرُ اللغة التي نزل بها القرآن، وقُرِضتْ بها المعلّقات قرْضاً، «فتلك عربيّة أخرى غيرُ كلامِنا هذا»، كما يقول أبو عمرو بن العلاء الذي ربما كان أوّلَ من لحِنَ لهذه المسألة اللطيفة فروَى الناس عنه قوله فيها. وإنّما انقرضت أشعارهم معهم لأمرين: أوّلهما انقراضهم هم أنفسهم في زلازل وحروب وفتن ودمارٍ وخراب جاء بعضها من تلقاء السماء، كما أخبرنا بذلك القرآن؛ وآخرهما: انقراض أشعارهم وآدابهم معهم، بحكم الطبيعة. فالقحطانيّون، من العرب العاربة، هم أقدم القبائل العربيّة المختلفة، وفيهم بُعث ثلاثة أنبياء: شعيب، وهودٍ، وصالح. والأمّة التي يُبعث فيها نبيّ من الأنبياء، لا ريبَ في أنّها قد تكون بلغت مبلغاً من الحضارة والثقافة والفكر والوعي، واتّخذت لها قيماً دنيويّة تجسّدت في مجتمعاتها، فجاءت الرسالاتُ السماويّة لتكمّلها، وتحسّن ممّا ساء منها، وتُصلح ممّا كان فاسداً فيها... غير أنّ لغة القحطانيّين الأولى لم تكن عربيّة، على النحو الذي قُرِضَتْ به المعلّقات، ثمّ نزل به من بعد ذلك القرآن. وفي إحدى زياراتي لسلطنة عُمان، وكان ذلك منذ بضعِ سنين، أخذني صديق عُمَانيّ لتاجر من الشَّحْر، في حيّ تجاريّ من أحياء مدينة مسقط، فبدآ يتحادثان، بناءً على طلبي، بلغة لم أفهم أنا منها شيئاً، وهي لا تزال متداوَلة بين بعض الناس هناك... والشعر الأخير، أو «الحديث» الذي وصلَنا، وهو المعروف في كتب النقد «بالشعر القديم»، إنما كان ثمرةً من ثمرات التطوّر الحضاريّ البسيط والبطيء معاً، الذي عرفتْه العرب في تعاملها وتجاورها، والشروع في التطلع إلى عهد التدوين البدائيّ على كلّ حالٍ، وذلك بفضل شروعها في الاتّصال بالعالم الخارجيّ، وبأكبر حضارتين قديمتين كانتا تعوّلان على التدوين، على عهد العرب، وعلى وقْع الجوار الجغرافي، وهما حضارتا الروم عن طريق الشام، وحضارة الفرس عن طريق العراق؛ فظهر ملوك الغساسنة والمناذرة، وهم الذين كان الشعراء العرب والرجالاتُ يذهبون إليهم، ويمدحونهم طلباً لنيل عطاياهم، فكأنّ الغساسنة والمناذرة كانوا يمثّلون السلطة النظاميّة الأولى التي عرفها العرب، ولو من بعيد، ولو دون اعتراف أخلاقيّ وسياسيّ، وسيادِيّ أيضاً، بها.