عفو رئاسي عن باقي العقوبة للدكتور بلغيث    وزيرا السكن والمالية يوقعان القرار الخاص بالسعر النهائي    التلفزيون الجزائري سينقل 17 مبارة لنهائيات للكان    خنشلة : الشرطة تنظم عملية مداهمة بششار    هل هناك جريدة كبيرة عندنا..؟!    تمكين الطلبة للاستفادة من العلوم والتكنولوجيات الحديثة    إنجاز كابل بحري جديد لرفع سرعة الأنترنيت    إرساء تحوّل رقمي متكامل ومستدام    حقّ تقرير مصير الصحراويين يتطلّب دعما دوليا عاجلا    بدء عمليات البحث عن جثامين الشهداء المفقودين    حين تتكلّم الذاكرة..    شراكات وطنية ودولية ورهان على المقاولاتية    "المحاربون" يشرعون في التحضير ل"كان 2025"    الجزائر تؤكد الريادة قاريا    لسعد الدريدي يخلف روسمير سفيكو المستقيل    الرئيس تبون أسس لمناخ سياسي واقتصادي مناهض للفساد    غرس شجرتي "الأرقان" و"السيكويا" بجبل الوحش    نحو إنهاء كل مظاهر التشوه العمراني بالعاصمة    القبض على محترفي سرقة الهواتف    لا مصالحة إلا باعتراف واعتذار فرنسا والتعويض    منصة رقمية للمشاريع الاستثمارية قيد الإنجاز    وزير العدل يؤكد من الدوحة التزام الجزائر الراسخ بمكافحة الفساد وتعزيز التعاون الدولي    بوشكريو يكشف عن قائمة تضم 33 لاعباً    الاحتلال الصهيوني يستهدف الحرم الإبراهيمي    السودان : مقتل 9 أشخاص وإصابة العشرات في قصف لقوات الدعم السريع    مجلس الوزراء يقر زيادات تتراوح بين 5 و10 بالمائة في معاشات التقاعد    الرئيس تبّون يُوقّع على قانون المالية لسنة 2026    انطلاق أشغال إنجاز مصنع تحلية مياه البحر    أسبوع للمساعدة الاجتماعية بولايات الجنوب    الأطعمة المدخّنة.. إقبال ومُخاطرة بالصحة    التجارة الإلكترونية والتسويق الرقمي محور لقاء وطني    تتويج صرخة صمت    جيش الاحتلال يقصف أنحاء متفرقة في قطاع غزة    افتتاح الأيام الوطنية للديودراما بالشلف بمشاركة فرق مسرحية من عدة ولايات    الجزائر تحتضن اجتماعًا استشاريًا إفريقيًا لخبراء مكافحة الإرهاب    مظاهرات 11 ديسمبر 1960 جسدت وحدة الشعب الجزائري    جهود لحماية التنوع البيئي بالشريعة    إطلاق منصة للتواصل بين المؤسسات    الجزائر بذلت جهودا جبارة لترقية قيم العيش معا في سلام    هذه المحاولات تمثل اعتداءً على العقد الاجتماعي الوطني    المذكرات الورقية تنسحب من يوميات الأفراد    الملتقى الوطني الموسوم بعنوان الكتابة السردية النسائية الجزائرية (الوعي والتحول)    انطلاق التسجيلات لدورة فيفري 2026    وفاة الفنان الموسيقار والملحن نوبلي فاضل    دعم السيادة الصحية بتبادل المعطيات الوبائية والاقتصادية    مغامرة انسانية عمادها البساطة والإبداع    هل إقالة المدير هي الحل؟    فتاوى : سجل في موقع مراهنات وأعطوه هدية    من أسماء الله الحسنى .. الحليم    اللعبان بركان وبولبينة ضمن قائمة"الخضر"في ال"كان"    أبو يوسف القاضي.. العالم الفقيه    الدور ال16 لكأس الجزائر:اتحاد الحراش يطيح بشبيبة القبائل، جمعية الشلف ووفاق سطيف يحسمان تأهلهما    عودة مفاجئة وثنائي جديد..بيتكوفيتش يعلن عن قائمة "الخضر " لكأس أمم أفريقيا 2025    الجزائر تُنسّق مع السلطات السعودية    40 فائزًا في قرعة الحج بغليزان    الاستغفار.. كنز من السماء    الاستماع لمدير وكالة المواد الصيدلانية    صهيب الرومي .. البائع نفسه ابتغاء مرضاة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ويستعجلونك بالعذاب
نشر في الحياة العربية يوم 01 - 08 - 2018

فمع ضراوةِ المعركَةِ ضدَّ الظلمِ واشتدادِ المحنةِ وانتفاشِ الباطلِ وشِدَّةِ بطشِه، ربَّما دارتْ في داخلِ نفوسِ بعضِ المؤمنينَ معاركُ صاخبةٌ مؤْلِمَةٌ عن سِرِّ تأخُّرِ النصرِ للحقِّ على الباطلِ، والإبطاءِ في نَصَفَةِ المظلومِ من الظالمِ مع شِدَّةِ البغْيِ والعدوانِ وسَفْكِ الدِّماءِ وانتهاكِ الحُرُمات {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}.
وفي ذات الوقتِ يمضي الظالمُون في غَمْرَةٍ وغفْلةٍ وغُرورٍ، يسخَرُون بمَنْ يُذَكِّرُهُم بعذابِ اللهِ أو يُخَوِّفُهم بعقابِه، ومُبَالَغَةً فِي التَّكْذِيبِ، وَاسْتِهْزَاءً بِالْوَعِيدِ، وزيادةً في الاستكبارِ والتحدِّي {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} في الدنيا، ويقولون: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرَ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ}، {وقالوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} أي عَذَابَنَا {قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ}، ويتخذون من مرورِ الأيامِ بانتفاشِهم بُرْهانًا على أنهم على الحقِّ ويقولون {ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}، ومنْ لمْ يستعجلوا منهم بألسنتِهم فإنهم يستعجِلُون بِذُنُوبِهِمُ الْمُقْتَضِيَةِ لَهُ مِنْ ظُلْمٍ وَفَسَادٍ فِي الْأَرْضِ وَفُسُوقٍ {بِمَا كَسَبُوا}.
فكلا الفريقين المظلومينَ والظالمين يستعجلُ النهايةَ المحتومةَ؛ بمقتضى الطَّبْع {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ}، لكنَّ أحدَهما –تحت وَطْأَةِ شِدَّةِ المحنةِ- يستعجلُها مؤمِنًا بها، والآخرُ -في غَمْرَةِ الجهلِ والعُلُوِّ- يستعجلُها استكبارًا واستنكارا.
واللهُ تعالى يُجيبُ الفريقين: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} في الدُّنْيا ولا في الآخرة {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} إنه تَعَالَى لَا يَعْجَل، فَإِنَّ مِقْدَارَ أَلْفِ سَنَةٍ عِنْدَ خَلْقِهِ كَيَوْمٍ وَاحِدٍ عِنْدَهُ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى حُكْمِهِ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ عَلَى الِانتِقَامِ قَادِرٌ، وَأَنَّهُ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ، وَإِنْ أجَّلَ وأنظَر وَأَمْلَى؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ هَذَا: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ}، فالذي يَعْجَلُ هو الذي يخافُ أنْ تفوتَه الفُرصة!
…لماذا يستعجل الظالمون؟!
أولا: بسبب الجهل والغرور:
إنَّ هذا الجهلَ والغُرورَ أوَّلُ أسبابِ استعجالِ الظالمين للعذابِ، بدلَ استعجالِهم للخير {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} الْمُكَذِّبُونَ الْآنَ؟ أَعَذَابَ الدُّنْيَا أَمْ قِيَامَ السَّاعَةِ؟ أَيًّا مَا اسْتَعْجَلُوا فَهُوَ حَمَاقَةٌ وَجَهَالَةٌ.
وهذا ما أدركه مؤمنُ آلِ فرعون وحذَّرَ منه قَوْمَه: {يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ. فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا}.وهو يحاولُ أنْ يُشْعِرَهم أنَّ بأسَ اللهِ إنْ جاءَ فلا ناصرَ منه ولا مُجِيرَ عليه، وأنهم إِزَاءَه ضِعافٌ ضِعَاف. وهكذا كلُّ مَنْ عرفَ كمالَ القُدْرةِ لمْ يَأْمَنْ فجأةَ الأخْذِ بالشِّدَّة، ومَنْ توسَّد الغفلةَ أيقظتْه فُجَاءَةُ العقوبةِ، وعندئذٍ لا عُذْرَ بعد وُضوح الحُجَّة. وبدلًا من أَنْ يَقُولُ الظالمون: «اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَاهْدِنَا لَهُ، وَوَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِهِ»؛ فإنهم بجهلِهم اسْتَفْتَحُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَاسْتَعْجَلُوا الْعَذَابَ {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ. لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ. مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ}، وَكَذَلِكَ قَالَ الْجَهَلَةُ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، كَمَا قَالَ قَوْمُ شُعَيْبٍ لَهُ: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.
ثانيا: عدم الاتعاظ بالسابقين:
السبب الثاني في استعجال الظالمين: عدمُ اعتبارِهم بالسابقين مِنْ أمثالهم {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ} أَيْ: مَضَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ فِي الْأُمَمِ الَّتِي عَصَتْ رَبَّهَا وَكَذَّبَتْ رُسُلَهَا الْعُقُوبَاتُ. ولا يزالُ الرسلُ والدعاةُ يحاولون رَدَّ الشارِدين وتنبيهَ المغرورين دونَ جَدْوَى {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ويرفضُ الرسلُ والدعاةُ الدخولَ في سِباقِ التحدِّي الذي يُعْلِنُه الظالمون؛ لأنَّ الرسلَ وأتباعَهم ليسوا المعنيِّينَ بإنزالِ العذاب {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}، {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}.
..العذابُ نازلٌ، ولَاتَ ساعةَ مَنْدَمِ!
إذا كانت العجَلَةُ طبعًا في الإنسانِ مؤمنًا كان أو كافرًا، فإنَّ القرآنَ يؤكِّد {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي فلا تستعجِلُوا العذاب، أو فلا تستعجِلوا اللهَ في إنزال العذاب {سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ}.
فأما المؤمنونَ فيُطَمْئِنُهم أنَّ ما وعدَ به حاصلٌ لا محالةَ، ويقول لهم: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ}. وأما الظالمون فيقولُ لهم: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ}. وحين ينزلُ بالظالمين وعدُ الله في الدُّنْيا يغلِبُهم النَّدَمُ الذي لا فائدةَ منه {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ} أَيْ هَلْ نَحْنُ مُؤَخَّرٌ عَنَّا الْعَذَابُ، وَمُنْسَأٌ فِي آجَالِنَا؛ لِنَتُوبَ وَنُنِيبَ إِلَى اللَّهِ، فَنُرَاجِعَ الْإِيمَانَ بِهِ، وَنُنَيبَ إِلَى طَاعَتِهِ؟. فيأتيهم الجوابُ: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ. أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ. ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ. مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}. لَوْ أَخَّرْنَاهُمْ وَأَنْظَرْنَاهُمْ، وَأَمْلَيْنَا لَهُمْ بُرْهَةً مِنَ الزَّمَانِ وَحِينًا مِنَ الدَّهْرِ وَإِنْ طَالَ، ثُمَّ جَاءَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ، أَيُّ شَيْءٍ يُجْدِي عَنْهُمْ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ النِّعَمِ، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا}.
ل..ِنُزولِ العذابِ موعِدٌ مُحَدَّدٌ ومُفَاجِئ:
سيأتي وعدُ اللهِ في الميعادِ الذي حدَّده، لا في الوقتِ الذي يقترحُه المؤمنون، ولا في الوقتِ الذي يستعجلُه الظالمون {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا. وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا}.
وسيكونُ نزولُ العذابِ مُفاجِئًا للجميعِ في توقيتِه وفي كيفيَّتِه {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ}، ويقول سبحانه: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} أي: لَوْلَا أَنِّي ضربتُ لكلّ شيءٍ أجلًا لعجَّلْتُ لهم ذلك، وليأتينَّهم العذابُ -حين يأتيهم- بَغْتَةً وفجْأَةً {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} بِوَقْتِ مَجِيئِهِ قَبْلَ مَجِيئِهِ {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} أَيْ: يَسْتَعْجِلُونَ بِالْعَذَابِ، وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ. فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ}.وحين يبدأُ العذابُ في النُّزولِ قد لا يتصوَّرُ الظالمون أنَّهُ العذابُ الموعودُ؛ لشِدَّةِ استبعادِهم نُزُولَه {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
.. حكمةُ اللهِ في عدمِ تعجيلِ الشَّرّ:
يكشفُ القرآنُ هذه الحكمةَ {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} بِإِهْلَاكِهِمْ قَبْلَ وَقْتِهِ الطَّبِيعِيِّ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَاسْتَعْجَلُوهُمْ بِالْعَذَابِ مِنْ قَبْلِهِمْ، ولكنه لا يفعلُ ذلك؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَذَابَ إِذَا نَزَلَ يَكُونُ عَامًّا، بَلْ يَذَرُهُمْ وَمَا هُمْ فِيهِ إِلَى نِهَايَةِ آجَالِهِمْ {فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي: يَتَرَدَّدُونَ فِيهِ مُتَحَيِّرِينَ. هَذِهِ سُنَّتُنَا فِيهِمْ: لَا نُعَجِّلُ شَيْئًا قَبْلَ أَوَانِهِ الْمُقَدَّرِ لَهُ بِمُقْتَضَى عِلْمِنَا وَحِكْمَتِنَا. وقد جعلَ اللهُ لهلاكِ الظالمين أسبابًا، أهمُّها: إيمانُ الصادقينَ بقضيَّةِ الحقِّ التي يحملونها، وصِدْقُ لُجُوئِهم إلى اللهِ، وتَوَحُّدُهم في الميْدَانِ، وصُمودُهم أمامَ كلِّ محاولاتِ الظَّلَمَةِ والفَسَدَةِ، وإِبْداعُهم في الحركةِ، واكتسابُ أسبابِ النصرِ المتاحةِ والممكنةِ، مِنْ غيرِ إخلالٍ بشيءٍ من قواعدِ الشريعةِ الغَرَّاءِ وأحكامِها.
..فلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا
إنَّ كلَّ يومٍ يَمُرُّ يَنْقُص من أيامِ غَمْرَةِ الظالمين وغفْلَتِهم، ويَذْهَبُ مِنْهَا بِشَطْرٍ، ويُدْنِيهم من مصيرِهم المشؤومِ وهم لا يعلمُون، مثلَما أنه يَنْقُصُ من البلاءِ الذي يصيبون به المؤمنين وَيَأْخُذُ مِنْهُ بِنَصِيبٍ، حَتَّى يَنْجَلِيَ بإِذْنِ اللهِ، ويقترِبُ موعدِ النصرِ عليهم وَهُم عَنْه غَافِلون. حُكِيَ أَنَّ أميرا حَبَسَ رَجُلًا، ثُمَّ سَأَلَ عَنْهُ بَعْدَ زَمَانٍ، فَقَالَ المحبُوسُ لِلْمُتَوَكِّلِ بِهِ: «قُلْ لَهُ: كُلُّ يَوْمٍ يَمْضِي مِنْ نِعَمِهِ يَمْضِي مِنْ بُؤْسِي مِثْلُهُ، وَالْأَمْرُ قَرِيبٌ، وَالْحُكْمُ لِلَّهِ تَعَالَى”.
أَتَحْسَبُ أَنَّ الْبُؤْسَ لِلْحُرِّ دَائِمٌ .. .. وَلَوْ دَامَ شَيْءٌ عَدَّهُ النَّاسُ فِي الْعَجَبْ
وَسُئِلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ الدُّنْيَا؟ فَقَالَ: “تَغُرُّ، وَتَضُرُّ، وَتَمُرُّ”.
إنَّمَا الدُّنْيَا هِبَاتٌ وَعَوَارٍ مُسْتَرَدَّهْ .. .. شِدَّةٌ بَعْدَ رَخَاءٍ وَرَخَاءٌ بَعْدَ شِدَّة
ولهذا قال الله تعالى {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} قال كثيرٌ من أهل العلم: نَعُدُّ عليهم الأنفاس.
فيأيها المؤمنون ثِقُوا بنصرِ اللهِ لأنَّ الأمرَ كلَّه بيدِه، وهو الذي سلَّط هؤلاءِ الظالمين عليكم فتنةً وتمحيصًا {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا}، ولا تَدْفَعَنَّكم شِدَّةُ المحنةِ إلى العجَلة، فما تَرَوْنَ من إمهالِ الله وحِلْمِه ليس إهمالًا، ولا يلبثُون أنْ يأتيهم أمرُ الله ويَحِلَّ بهم عذابُه الَّذي لا يُرَدُّ عن القومِ المجرمين. فهو المنتقِمُ الجبَّارُ الذي يَعُدُّ للظالمين عَدّا!
فلا تَضِقْ صدورُكم أيها المؤمنون; فإنَّ يوم الظالمين قريبٌ، وكلَّ شيءٍ من أعمالِهم مرصودٌ محسوبٌ عليهم ومعدودٌ بالأنفاس، وترقَّبُوا ساعةَ النصرِ للحقِّ وأهله، والسقوطِ المُدَوِّي للظلم وأهله، ولينصرنَّ اللهُ الحقَّ وأهلَه بعِزِّ عزيزٍ وذُلِّ ذليل {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.