الجزائر تشارك بشكل فعال في العديد من مشاريع التعاون الإقليمي وتدعو لبناء نموذج تنموي جديد    فلسطين: ارتفاع عدد الشهداء الصحفيين في غزة إلى 214 منذ بداية حرب الإبادة الجماعية    6000 ناجح في مسابقة سوناطراك    إصلاحات كبرى في المناجم    عناية أكبر بذوي الاحتياجات الخاصة    عرض حول واقع الإعلام بالجزائر    قويدري يعرض الإستراتيجية الجديدة    الصحراء الغربية: لا مفر من تمكين الشعب الصحراوي من حقه في تقرير المصير    وهران: المسؤولية التاريخية والأخلاقية للجرائم التي ارتكبها المستعمر الفرنسي لن تسقط بالتقادم    حج: انطلاق أول رحلة من غرداية إلى البقاع المقدسة يوم 22 مايو    إطلاق منصة رقمية مخصصة للتراث الوطني المادي واللامادي    أخي المسلم…من صلاة الفجر نبدأ    أشهر الله الحُرُمٌ مستهل الخير والبركات    علامات التوفيق من الله    حتى لا يتآكل مفعول الفظائع المصورة    الجزائر تترأس اللجنة الفنية للملكية الفكرية بجامعة الدول العربية: تتويج دبلوماسي وثقافي يعزز الحضور الإقليمي    شرفي تؤكد من معسكر بأن الجزائر تشهد "خطوات كبيرة" في مجال حماية الطفولة    البليدة: إقبال كبير للجمهور على تظاهرة أبواب مفتوحة حول الرياضة العسكرية    الجزائر تعرب عن "بالغ قلقها" إزاء الاشتباكات "المأساوية" بين الهند وباكستان    برمجة 22 رحلة إلى البقاع المقدسة انطلاقا من المطار الدولي لوهران    الموافقة على تعيين سفير الجزائر الجديد لدى انتيغوا و بربودا    تصفيات شان-2025/الجزائر- غامبيا : "الخضر" على بعد 90 دقيقة من المرحلة النهائية    أمطار رعدية مرتقبة على عدة ولايات بشرق البلاد يومي الأربعاء الخميس    البطولة الجهوية لكرة القدم داخل القاعة لفئة الصم يومي الجمعة والسبت بالشلف    مؤتمر سيم كونيكت بمونتريال: طافر تعقد لقاء مع الخبير الجزائري كريم زغيب    سعداوي يشرف على انطلاق امتحانات إثبات المستوى ويؤكد التزام القطاع بالتحديث الرقمي والتربوي    السيطرة على حريق مهول بمركز تجاري في البليدة دون تسجيل خسائر بشرية    خلال محادثات مع "ماتيلاك" اللبنانية، عجال نشجع على توطين النشاط الصناعي بالجزائر وتوسيعه    بعد تلقيه اتصالا هاتفيا من نظيره الباكستاني، عطاف " نسعى إلى الارتقاء بعلاقاتنا الثنائية إلى أسمى المراتب المتاحة "    تجسيدا لمذكرة التفاهم الموقعة بالجزائر تأسيس شركة جزائرية- عمانية لتقديم خدمات حقول النفط المتكاملة    سعداوي يعطي إشارة انطلاق امتحانات إثبات المستوى    على الحجاج شراء سندات الهدي من الجهات الرسمية    استقرار أسعار الخضر والفواكه بأسواق الجملة والتجزئة    20 مليار دولار خسائر الجزائر من الشراكة مع الاتحاد الأوروبي    مكافحة الفساد مسؤولية جميع الهيئات    دعوة لتنظيم ورشات تكوينية دورية في المؤسسات    الجزائر تبهر تنظيميا وتبعث جيلا رياضيا واعدا    قمة تنافسية على اللقب بين بلوزداد والمولودية في أجواء "باردة"    دعوة لرص الصفوف لتكوين جبهة موحدة    تحذير من السباحة في السدود والبرك والمجمّعات المائية    صناديق توظيف جماعي لتمويل المشاريع قريبا    لا وجود لمقاتلين صحراويين في سوريا    وهران تنظم ثاني عملية إعادة إسكان بأرزيو    شراء سندات الهدي بالبقاع المقدّسة من الجهات المعتمدة فقط    رامي بن سبعيني ضمن تشكيلة الأسبوع    الكتابة الإبداعية فضاء أقلّ تقييدا    الإعلان عن تأسيس مهرجان للفيلم الوثائقي التاريخي    "لعوينات" تخلد ذكرى مجازر 08 ماي    الذكاء الاصطناعي منافس افتراضي لعمل الصحفي    ضرورة التصدي لمخططات الصهيونية الخبيثة    تفكيك شبكة إجرامية تروج المهلوسات    الجزائر تتوج ب53 ميدالية.. منها 18 ذهبية    تنصيب التشكيلة الجديدة للمجلس الوطني للفنون والآداب..بللو يدعو إلى توفير بيئة مستقرة ومحفّزة لتكوين ودعم الفنان    في ظل التحولات التكنولوجية المتسارعة : يوم دراسي حول أهمية الاستثمار في الذكاء الاصطناعي لحماية التراث الثقافي    غويري يواصل تألقه    800 نقطة بيع للأضاحي المستوردة    قبس من نور النبوة    ماذا يحدث يوم القيامة للظالم؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكونية والخصوصية.. الحد الفاصل بين الحقيقة والوهم
نشر في الحياة العربية يوم 25 - 02 - 2020

يمارس بعض من يحسبون أنفسهم على الليبراليين والحداثيين تضليلا في استخدامهم لبعض المصطلحات من قبيل الدفاع عن الكونية في مقابل الخصوصية، وذلك من أجل إسقاط حق المجتمعات الإسلامية وغيرها من المجتمعات -التي لها خلفيات ثقافية وحضارية مختلفة عن الخلفيات الغربية- في أن يكون لها مسار نهضوي يرجع إلى أصولها الثقافية والحضارية، كما فعلت النهضة الأوروبية حين رجعت إلى التراث الإغريقي، ومحاكمة اختياراتها إلى تجربة تاريخية لها سياقاتها وملابساتها.
ويعتبر هؤلاء أن لا مجال لنهضة مجتمعاتنا إلا بأن تتبنى منظومات فكرية وأخلاقية تنطبق أكثر على بعض التجارب الغربية التي اختارت أقصى صور العلمانية تطرفا، منكرين على أمتنا أن تكون لها هويتها المتميزة في نطاق انتمائها إلى المجتمع الدولي، وداعين إلى تحييد كل ما له علاقة بالدين من المجال العام.
لا جدال في أن البشرية قد راكمت وتوافقت -عبر تاريخها الطويل- على عدد من القيم الإنسانية التي لم تعد ملكا للشرق أو الغرب، من قبيل العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية والحرية، والحق في الحياة والحق في التنقل والحق في التملك، والحق في التعبير عن الرأي وحرية المعتقد… وهلمَّ جرًّا.
وفي كل هذه القيم يوجد قدر كبير من الاتفاق، حتى إن الدارس أحيانا يكاد يجزم بأن مساحة الالتقاء بين مضامين “خطبة الوداع” النبوية مثلا مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مساحة واسعة جدا، رغم اختلاف الأزمنة واختلاف المرجعيات. لكن هل يعني ذلك أن التوافق تام ومطلق؟ هل يعني التوافق أنه لم تعد هناك مجالات بقيت غير خاضعة للتوافق؟
الواقع أن مجالات عدم التوافق لا تزال قائمة، ليس بين دول الغرب والدول الإسلامية فقط وإنما بين الدول الغربية نفسها، بل حتى داخل نفس الدولة. فمثلا قضية إباحة الإجهاض وما يرتبط به من تفصيلات نجد اختلافات بشأنها بين الدول الغربية، بل ربما داخل نفس الدولة أحيانا بحيث لا يوجد اتفاق على أنه داخل في مشمولات الحرية الفردية والحق في التصرف في الجسد.
ونفس الشيء بالنسبة لقضية إلغاء عقوبة الإعدام؛ حيث يتفاوت الموقف فيها مثلا داخل الولايات المتحدة نفسها بين ولاية وأخرى، بسبب أن الدستور الأميركي يولي صلاحية سن القوانين الجزائية إلى الولايات وحكوماتها وهيئاتها، ويقدمها في ذلك على الحكومة الاتحادية.
ولذلك لا يسع الكونغرس بواشنطن إلغاء عقوبة الإعدام إلا عن طريق تعديل دستوري. ولا يتحصل تعديل دستوري إلا بغالبية موصوفة في الكونغرس يعضدها إبرام ثلاثة أرباع الولايات مشروع التعديل المقترح.
فكيف يمكن أن ننكر أنه بالانتقال من ثقافة لأخرى سيقع الاختلاف في اعتبار ممارسة ذلك حرية فردية وحقا من حقوق الإنسان، أم إنه اعتداء على حق آخر ألا وهو الحق في الحياة؟ مما يعني أنه إن كان هناك قدر معيّن في هذا الحق يمكن اعتباره متوافقا عليه عالميا، فإن هناك قدرا آخر توجد فيه مساحة تكبر أو تصغر هي مجال للتباين الذي يرجع إلى اختلاف السياقات الثقافية والمرجعيات الدينية والفكرية والفلسفية؟
وباختصار؛ فإنه لا يمكن باسم كونية حقوق الإنسان مصادرة الاختلاف في تنزيل هذه الحقوق الراجع إلى اختلاف المنظومات الثقافية والفكرية، لأن السعي إلى تنميط العالم والمجتمعات في منظور سكوني واحد لهذه الحقوق هو مصادرة لواحد من الأسس التي تقوم عليها حقوق الإنسان؛ ألا وهو الحق في الاختلاف.
ترفع طائفة من “الليبراليين ” و”الحداثيين” -في دعوتها لتنميط المجتمعات البشرية وحق المجتمعات الإسلامية وغيرها من المجتمعات غير الغربية في إلغاء الخصوصيات الثقافية والحضارية- دعوى الامتثال لحقوق الإنسان بالصيغة المتعارف عليها عالميا وكونيا، والواقع أن ذلك الفهم هو افتئات وقلب للمصطلح ومضمونه الحقيقي.
فالمتعارف عليه من حقوق الإنسان هو المساحة المشتركة التي لا خلاف فيها، ولا يؤثر فيها اختلاف السياقات الثقافية والحضارية. وتبعا لذلك؛ فإن الالتزام بقضية حقوق الإنسان -بالصيغة المتوافق عليها عالميا- لا يعني التطابق الكلي، أو الخضوع لتأويلات فلسفية أو أيديولوجية أو ثقافية لقضية من قضايا حقوق الإنسان، وكذلك الأمر لبعض مضامين الاتفاقيات الدولية.
وحيث إن القانون الدولي واعٍ بوجود هذا الهامش من عدم التوافق الكلي؛ فإنه أعطى الدولَ الحقَّ في التحفظ مراعاةً للتنوع الحضاري والخصوصية الثقافية، وهو ما فصلته وتوسعت فيه اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات، التي نصت على عدد من المقتضيات الهامة في قواعد المعاهدات الدولية منها مثلا:
1- ما نصت عليه ديباجتها من أن مبادئ حرية الإرادة، وحسن النية، وقاعدة العقد شريعة المتعاقدين؛ هي مبادئ معترف بها عالميا، مما يدل على أن الانضمام إلى المعاهدات والاتفاقيات يتم ضمن سيادة الدول.
2- التنصيص على مفهوم التصديق كحق للدول، مع تحديد المصطلح تحديدا دقيقا في (المادة 2) من الاتفاقية؛ حيث جاء فيها بالحرف: “يقصد ب‘التصديق‘ و‘القبول‘ و‘الموافقة‘ و‘الانضمام‘ الإجراء الدولي المسمى كذلك، والذي تقر الدولة بمقتضاه على المستوى الدولي رضاها الالتزام بالمعاهدة”.
3- الإقرار بحق الدول في التحفظ الذي عُرِّف في الفقرة (د) من نفس المادة بالشكل التالي: “يقصد ب‘التحفظ‘ إعلان من جانب واحد -أيا كانت صيغته أو تسميته- تُصدره دولة ما عند توقيعها أو تصديقها أو قبولها أو إقرارها أو انضمامها إلى معاهدة، مستهدِفة به استبعاد أو تغيير الأثر القانوني لبعض أحكام المعاهدة من حيث سريانها على تلك الدولة”.
“لا شك في تهافت الأطروحة المبنية على تصور خاطئ ومضلل لمفهوم الكونية لأن التوافق على حقوق الإنسان لا يعني وجود تصور مطلَق ونهائي مغلَق لكافة القضايا أو التأويلات، ومن ثم يبقي هناك قدر منها موضوع تباينات ثقافية وأيديولوجية، مما يعني أنه إن كان هناك قدر كبير من التوافق حول القيم الحقوقية الكبرى، فإن هناك قدرا آخر -هو الأقل دون شك- يرجع إلى السياقات الحضارية والثقافية والدينية”
4- تضمين الاتفاقية إمكانية التعبير عن رضا الدولة الالتزام بمعاهدة ما بالتصديق على الاتفاقية في عدد من الحالات، منها الحالة التي تنص فيها الاتفاقية نفسها على هذا المقتضى، أو إذا اشترطت الدولة التصديق أو وقع ممثلها بشرط التصديق، أو عبرت الدولة أثناء المفاوضات عن مثل هذه النية. وهو ما تفصل فيه (المادة 14) من اتفاقية فيينا التي تتضمن كثيرا من الإجراءات التفصيلية التي تسير في هذا الاتجاه، وليس المجال مجال وقوف عندها.
لنقرر إذن تهافت الأطروحة المبنية على تصور خاطئ ومضلل لمفهوم الكونية لأن التوافق على حقوق الإنسان لا يعني وجود تصور مطلَق ونهائي مغلَق لكافة القضايا أو التأويلات، ومن ثم يبقي هناك قدر منها موضوع تباينات ثقافية وأيديولوجية، مما يعني أنه إن كان هناك قدر كبير من التوافق حول القيم الحقوقية الكبرى، فإن هناك قدرا آخر -هو الأقل دون شك- يرجع إلى السياقات الحضارية والثقافية والدينية.
ولنقرر ثانيا أنه أحيانا باسم كونية حقوق الإنسان تسعى دول كبرى أو توجهات سياسية أو أيديولوجية لفرض قراءتها وتأويلاتها الخاصة لقيم وحقوق الإنسان، في خرق سافر لأحد أعظم مقومات حقوق الإنسان، وهو حق الاختلاف.
ونفس ما قلناه عن الكونية والخصوصية يمكن أن نقوله عن مفهوم “الحرية الفردية”، التي يريد بعض ليبراليينا وحداثيينا أن يجعلوها مطلقة لا حدود لها، ولو اصطدمت ممارستها بقيم المجتمع ونظامه العام. وهذا التصور “للحرية” لا يوجد حتى في تعريف الدساتير الغربية التي تجعله منضبطا بضابط النظام العام، ولنا عودة إلى هذا الموضوع.
الجزيرة نت


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.