لا تزال تداعيات 11 سبتمبر تتوالى فصولا بعد تسع سنوات على الحدث، وربما سوف تظل تتوالى حتى خمسين سنة قادمة على الأكثر، أو قل أنها سوف تظل تتفاعل وتفجر الأوضاع بين العالمين الغربي والعربي حتى يستشعر الأول ضرورة العدالة ويخفف من علوائه وغطرسته، وحتى يستشعر الثاني ضرورة مراجعة مفاهيمه وسياساته ومعاملته أو قل تصوراته التراثية مراجعة راديكالية شاملة· وفي انتظار أن يحصل ذلك، فإن كل طرف يظل مصرا على موقفه، ويعتبر أن الحق معه تماما، وبما أنه يصعب على الولاياتالمتحدةالأمريكية بما اقترفته يداها في العراق وفي باكستان وفي أفغانستان وفي فلسطين أو حتى ما فعله الغرب بصفة شاملة في زمن الاستعمار السابق، فإن تهدئة الخواطر تظل مستحيلة بما أنه يصعب عليه أن يعترف بمدى جور عدالته الاقتصادية وأنانيته واحتقاره للشعوب الجائعة، فإن الحل بعيد بما أنه يصعب عليه أن يراجع أسس حضارته فيخفف ولو قليلا من نزعتها المادية الاستهلاكية الشهوانية المسعورة، فإن التناقض سوف يظل قائما مع شعوب العالم العربي، ولا أقصد بذلك أن الشعوب العربية لا تصبو إلى الاستهلاك والتمتع بمباهج الحياة الدنيا كبقية شعوب الأرض، ولكن الإسراف في هذا الاتجاه هو الذي يثير الغضب والاستغراب، أن تطمح شعوب الغرب إلى تحقيق الرفاهية، فهذا أمر مفهوم، ولكن لا تشبع من الماديات والثروات وتراكم الرساميل فهذا أمر غير مفهوم، ألا تشعر بالشفقة والرحمة تجاه الشعوب الجائعة، فهذا ما يثير الاستنكار فعلا، أن يصبح معنى الوجود كله مختصرا في مدى حجم حسابي في البنك أو يتحول إلى رقم مصرفي فقط، فهذا أمر يطرح علامة استفهام على انعدام الأبعاد الروحية والإنسانية لهذه الحضارة· وحقيقة أقولها بصراحة مع أني محسوب على الإسلاميين وصديقي ''احميدة عياشي'' يعرف ذلك أكثر من كل الناس إني معجب بهذه الحضارة الغربية من نواحٍ عديدة ولست بحاجة إلى شرح ذلك، فمواقفي معروفة، إني معجب بالتقدم الهائل الذي حققته على كافة الأصعدة والمستويات، ومعجب أيضا بسيادة النظام والقانون والتهذيب في مجتمعات الغرب، نعم إني معجب بالحضارة والحداثة الأوروبية، ومع هذا كله فإنني أقول بأن الكمال مستحيل على هذه الأرض، وكانت أمنيتي لو كانت هذه الحضارة أكثر كرما وأقل أنانية وجشعا، كما أنني أتمنى أن يكون تقدمها الأخلاقي والإنساني على مستوى تقدمها العلمي والتكنولوجي والعمراني لأنني أتصور بأن التقدم العلمي والمادي يؤدي بالضرورة وبشكل أوتوماتيكي إلى التقدم الأخلاقي والمعنوي، وأقل شيء نترجاه أن يحصل تقدم على المستوى السلوكي للفرد حتى لا يصبح الناس همجيين تجاه بعضهم البعض، ويصبحون يتصرفون بشكل حضاري ويتقيدون بالقانون والنظام، وهذا إن تم، فهو تقدم كبير لا يستهان به· ولكن على مستوى السياسة الدولية، نلاحظ أن إرادة القوة والهيمنة لا تزال هي المسيطرة والتنافس المحموم على الصفقات التجارية والمكاسب المادية لا يزال كما هو، هذا في وقت نحن نشتكي من نقص الحريات وتقلصها في الدول التي تزعم أنها سنية، ولكن لا حريات على الإطلاق في الدولة الشيعية في حال وجودها، إذ أن طبيعتها القائمة على الإجماع والتسلط المقرونين بضرورات الطاعة والتصديق والاذعان لا تسمح بوجود الحريات بمعناها السياسي المقترن بتعددية الأحزاب وحق الاختلاف الفردي والجمعي مع سياسات الحكومة القائمة، ويوازي غياب الحرية السياسية ويسبقه غياب الحرية الاعتقادية أو حتى التنوع الخلاق في اختلاف فهم مقاصد الشريعة وتأويل نصوصها، وذلك في موازاة غياب الحريات الفكرية في الدولة التي هي أحادية المنظور، ضيقة الرؤية، حرفية الفهم بالضرورة، فليس هناك تفسير لنصوص الدين سوى تفسير النخبة المتحكمة فيها، وفرضها ما تراه بوسائل من القمع المعنوي والمادي أو بذهب المعز وسيفه على النخب الثقافية فلا تتقلص الحريات الفكرية، فحسب بل تختنق الحريات الإبداعية التي لابد يعاني ناتجها من الرقابة والمصادرة إذا اختلف عن ما تراه النخبة المتحكمة في كل شيء ابتداء من إدارة الدولة وانتهاء بإبداع العقول والقرائح، ويعني ذلك أنه ليس هناك فكر سياسي أو ثقافي أو حريات أكاديمية أو إبداعية في الدولة التي لا تسمح إلا بما تراه، فيما ظلت محتكرة اليقين والحق، فالنخبة الحاكمة فيها تغدو الفرقة الناجية التي هي على الحق دائما، وغيرها على الباطل والضلال في كل أحوال اختلافه عنها، وينتج عن قمع الحريات السياسية والفكرية والإبداعية تخلف رقيب داخلي في أعماق كل مفكر أو مبدع وكل مشتغل بالسياسة مهتم بالشأن العام، خصوصا بعد أن يرى الجميع ما حدث لأقران لهم تم التنكيل بهم ليكونوا عبرة لمن لا يعتبر، ويؤدي ذلك إلى استئصال روح المسالمة ومبدأ الشك أو رغبة التجريب مقابل تأكيد منطق الإتباع وتقليد الخلف للسلف في كل الأحوال، واستبعاد منطق الابتداع وحتمية إضافة اللاحق للسابق وعندئذ يمضي المجتمع إلى الأمام وعيناه في قفاه لا يرى إلا ما هو خلفه ولا يفعل إلا ما سبق فعله، فلا يفكر أو يبدع إلا في الدوائر التي تجعله مقلدا للآخرين السابقين أو المركز المهيمن دائما، وتسيطر على المجالات الثقافية في دوائرها المختلفة نزعة أحادية تسرف في رد كل شيء إلى ما يراه الزعيم وإدخاله فيما يلزم أو لا يلزم سواء في المجال السياسي الذي تصبح الحاكمية فيه لله الذي ينوبه عنه بعض البشر أو المجال الفكري والإبداعي الذي لا تصبح له قيمة إلا بإلزامه بقيم مفروضة عليه من خارجه وبتأويلات أحادية (من صنع بشر يمكن أن يصيبوا أو أن يخطئوا) تتحكم في حركته وتحد من حريته، بل تقضي على هذه الحرية أصلا ويشيع الحديث عن الإعجاز العلمي للنصوص المقدسة التي تنطوي على كل ما وصل إليه العلم في تطوره، وفي ذلك ما يؤدي إلى مزالق قياس الثابت (الدين) على المتغير (العلم) في أغلب الحالات وتدني البحث العلمي في كل الحالات· ويلازم ذلك كله غياب الحرية بمعناها الإجتماعي، فيغدو المجتمع تراتيبا، ''وفضلنا بعضكم على بعض'' وتتمايز الطبقات والطوابق المترتبة تمايزا حادا سواء في علاقة كل طائفة أو طبقة بباقي أفرادها وعلاقة كل طبقة أو طائفة بغيرها، ويتكرر المبدأ الذي أقره ابن المعتز الحنبلي قديما، حين أكد أن جماعة العوام متى وصلت إلى آداب الملوك العظام، بطلت المآثر وسقطت المفاخر وصارت الرؤوس كالأذناب، والأذناب كالأذياب، وصح الخبر المروي عن الرجل المرضي لا يزال الناس بخير ما تباينوا، فإذا تساووا أهلكوا، ويستند هذا التراتب إلى أساس فكري يقوم على تأكيد حقيقة ''الجبر'' في حركة الإنسان الذي لا يختار على سبيل الحقيقة وإنما يختار له استنادا إلى أمثال من قبيل القدر يختار مع سياسات الحكومات القائمة ويوازي غياب الحريات السياسية ويوازي غياب الحريات الفكرية في الدول العربية التي هي أحادية المنظور، ضيقة الرؤية، حرفية الفهم بالضرورة، فليس هناك تفسير لنصوص القانون سوى تفسير النخبة المتحكمة فيه وفرضها ما تراه بوسائل من القمع المعنوي والمادي، وهذا مما يجعل الحريات الفكرية تتقلص والحريات الإبداعية تختنق ويعاني ناتجها من الرقابة والمصادرة إذا اختلف عن ما تراه النخبة المتحكمة في كل شيء إبتداءا من إدارة الدولة وانتهاءا بإبداع العقول والقرائح، ويعني ذلك أنه ليس هناك فكر سياسي أو ثقافي أو حريات أكاديمية أو إبداعية في الدولة التي لا تسمح إلا بما تراه هي ما ظلت محتكرة اليقين والحق، فالنخبة الحاكمة فيها تغدو الفرقة الصائبة وهي على حق دائما وغيرها من المعارضة على الباطل والضلال، في كل أحوال الإختلاف ينتج عن قمع الحريات السياسية والفكرية والإبداعية تخلف رقيب داخلي في أعماق كل مفكر أو مبدع وكل مشتغل بالسياسة مهتم بالشأن العام، خصوصا بعد أن يرى الجميع ما حدث لأقران لهم تم التنكيل بهم ليكونوا عبرة لمن لا يعتبرون ويؤدي ذلك إلى استئصال روح المسالمة ومبدأ الشك أو رغبة التجريب مقابل تأكيد منطق الإتباع وتقليد الخلف للسلف في كل الأحوال واستبعاد منطق الإبتداع وحتمية إضافية اللاحق للسابق وعندئذ يمضي المجتمع إلى الأمام وعيناه في قفاه لا يرى إلا ما هو خلفه ولا يفعل إلا ما سبق فعله، فلا يفكر أو يبدع إلا في الدوائر التي تجعله مقلدا للآخرين السابقين أو المركز المهيمن دائما وتسيطر على المجالات الثقافية في دوائرها المختلفة نزعة أحادية تسرف في رد كل شيء إلى رأيها و إدخاله فيما يلزم أو لا يلزم سواء في المجال السياسي الذي تصبح فيه السلطة للزعيم في كل المجالات الفكري والإبداعي الذي لا تصبح له قيمة إلا بإلزامه بقيم مفروضة عليه من خارجه وبتأويلات فردية وشخصية هي مصنع بشر يمكن أن يصيب وأن يخطئ، نتحكم في حركته ونحد من حريته، بل تقضي على هذه الحرية أصلا وإشاعة الحديث عن الإعجاز السياسي للنصوص الديمقراطية التي تنطوي على كل ما وصل إليه علم السياسة من تطور وفي ذلك ما يؤدي إلى مزالق كبيرة·