بلقاسم القطعة [email protected] بدا التعديل الدستوري وكأنه فرصة تاريخية لم تغتنمها المعارضة لكسب ثقة المواطن الجزائري، أمام النظام القائم الذي ترتفع الأصوات يوميا لانتقاد أدائه سياسيا واقتصاديا، وسط غموض في الخطة الحكومية للخروج من تبعات انهيار أسعار النفط في السوق العالمي، من منطلق أن فصل النفط عن السياسة في الجزائر أمر غير واقعي، اختارت العديد من القوى من المعارضة أن تواكب أطروحة النظام لبناء أسمى قوانين الدولة، الذي يراد له في الظروف الطبيعية أن يعبر عن صوت الهوية الوطنية، وقواعد اللعبة السياسية داخل الدولة، وكذا ميكانزمات ضبط الصراع المجتمعي حول السلطة هذا الموقف المساند لتوجهات صانعي الدستور قد يكون مخيبا لأمال المعتقدين بوجود قوة سياسية تقابل النظام، وقادرة على مواجهته، ومتابعة أدائه، سواء من داخل المؤسسات كالبرلمان، أو من خارجها، عبر القنوات الاتصالية المتاحة بالنسبة للشخصيات والأحزاب التي لا تعتبر جزءا من المؤسسات المنتخبة. اليوم، تقتضي الضرورة إعادة فحص قدرات المعارضة السياسية في الجزائر، من حيث قدرتها على الوقوف في موقع تناظر مع القوى الحاكمة، وكذالك من حيث قدرتها على تصويب تصورات النظام وتقويمها، وكذا معارضتها أو رفضها، أي مدى تمكن المعارضين من التعبير عن تطلعات المتعاطفين والمنتسبين لهم، هذه الأسئلة المنطقية تقودنا إلى سؤال مهم وجوهري يبحث في مدى استقلالية المعارضة عن النظام، فمن الناحية البيروقراطية والإدارية المعارضة السياسية المؤسسة هي امتداد لفلسفة السلطة الإدارية، وبموجبها تتحرك الأحزاب وتتفاعل مع قواعدها الشعبية والنضالية ، لكن المقصود بالاستقلالية هنا، هي استقلالية الموقف والخط السياسيين، أي هل أن تصورات المعارضين هي تصورات شخصية، أم أنها تولد من تفاعلات وحسابات مصلحية تجمعها بالنافذين داخل دوائر صنع القرار الحالية. لا يمكن الحديث عن المعارضة في الجزائر ولو مثلنا ذلك، بصفة الكيان الموحد، لأنها في الحقيقة مجموعة من التصورات والآراء والرؤى، تختلف في مدى قربها أو بعدها من السلطة، لكنها تتشارك في كونها تعيش انفصاما بين الخطاب والواقع ، يحكمها قانون السوق المتمثل في ثنائية العرض والطلب فيعرض المعارضون ما تطلبه تطلعات المواطن وحاجياته عن طريق أسلوب خطابي وتنديدي، لكن في الواقع لا يضيع أي فاعل الفرصة من التقرب من مهندسي النظام، بحثا عن التموقع في خطوط متقدمة في أي هندسة سياسية مستقبلية قد تعرفها الجزائر، فمع الإبقاء على مسافة الاستثناء لما تفرضه واقعية الطرح، يبدو المعارضون وكأنهم يعيشون حالة من التردد في علاقتهم مع النظام، ضمن مأزق القوة والضعف، ففي الوقت التي تحس بعض الجهات المعارضة أن النظام ضعيف وأنها قادرة على تقديم نفسها كبديل تبرز قدرات النظام التبريرية، وسرعته في التأقلم مع الأوضاع والمستجدات فتعود مشاعر المعارضة المهادنة، أو الناصحة، أو غير ذلك من صناعات خطاب المعارضين داخل الجزائر. في الحقيقة، ومن منطلق أن السياسة هي وجه من أوجه التفاعلات الاجتماعية، تتغير المعطيات وتتغير المواقف، فليس هناك معارضة دائمة، ولا موالاة عمياء، لكن هناك حد أدنى من أخلاق المعارضة وكذا أخلاق الموالاة، فنظريا هدف المعارضة الأسمى هو تغيير أطراف المعادلة السياسية، أي أن تصل إلى السلطة، وتأخذ مساحة زمنية لتطبيق برنامجها التي ناضلت وانتخبت من أجله، ووجود المعارضون في كرسي المعارضة، ليس عطلة مدفوعة الأجر، وإنما هي فرصة لمتابعة أداء الجانب الآخر الحاكم، من حيث تثمين المنجز، وتسليط الضوء على الأخطاء الواقعة والمحتملة، مع الارتباط الدائم بتطلعات المجتمع وحاجياته، أي معارضة النظام بمصلحة الشعب، وليس في إطار قيم يفرضها النظام ذاته، أو تفرضها مصالح وحسابات تموقع، يعني أن التحجج بكون السياسة فن الممكن للتلون حسب ما يفرضه السياق المصلحي هو تخييب لآمال القواعد الجماهيرية، وحرق لفرص التموقع الشرعي في السلطة، لأن الثقة المواطنية يعبر عنها عمليا بصوت رافض أو قابل ضمن عملية ديمقراطية تنتقل عبرها السلطة من فاعل إلى آخر. ما يلاحظ في بعض القوى المعارضة في الجزائر هي امتلاكها لنظرة تفكيكية لعناصر النظام، أي التفاوت في معارضة طرف على آخر كلاهما يكونان شخصية النظام الحاكم، كمعارضة وزير على حساب الحكومة، أو جعل السلطات العليا تبدو مثالية، وربط الأخطاء بمستويات دنيا منها، هذه النظرة ترتبط بما قلناه سابقا بالتردد تجاه وضعية النظام من حيث الضعف والقوة، كما يمكن ربطها بحالات من الانفعالية العاطفية تبنى حتى على حساب مصالح الحزب المعارض، فالسياسية لا تعرف تجربة وزارية موقفة وأخرى فاشلة، بقدر ما تعرف حكومات فعالة، وأخرى فاشلة، والمعارضة الحقيقية تريد السلطة طبقا للدستور، ولا تعارض كرسيا وزاريا ليملأه أحد منتسبيها أو مقربيها، فالصراع السياسي هو صراع حزب ضد حزب، ومعارضة ضد موالاة، وليس موقف أو انفعال شخصي توجهه المصلحة الضيقة. لا يمكننا التطرق إلى الحديث عن المعارضة في الجزائر، دون التوقف عند مشكلة الموسمية السياسية، أي العمل والنضال السياسيين يرتبطان بفترات الانتخابات، والتسويق الانتخابي، هذا السلوك الذي يعتبر قاسما مشتركا بين الطرفين الحاكم والمعارض، أصبح أمرا تفهمه القواعد الجماهيرية التي أصبحت مدركة أنه ينظر إليها كأوراق انتخابية، وكأصوات أكثر مما ينظر إليها كجماعات مواطنية لديها حاجات ومطالب يجب أن تفعل على أرض الواقع، أغلبها متعلقة بالسياسة العامة من تعليم وصحة وأمن اقتصادي، فالعمل السياسي هو جهد اجتماعي متواصل، دائم ومتجدد يتأقلم مع التطور الطبيعي لمتطلبات المجتمع ومواقفه من قضايا الداخل والخارج، ويشمل مواطني الدولة المقيمين بها والمقيمين على أراضي دول أخرى للضرورة الاقتصادية أو الاجتماعية، فالعمل السياسي، نظريا، هو عمل يتوجه إلى المواطن أينما كان، وبديمومة تجعل السياسيين ملمين بمستجدات مجتمعاتهم، ومتشاركين معها في رسم حلول لها تشكل جوهر برامجهم الانتخابية. هناك سؤال ملح ينبغي أن يتم طرحه على مستوى السياسة واقعا وأكاديميا، لماذا لم تحظ المعارضة بفرصة الوصول الفعلي للسلطة، رغم أنها موجودة على الساحة السياسية، ورغم أن الإدارات المتعاقبة على الجزائر لم تجعل المواطن يعيش وضعا يتناسب مع قدرات الجزائر كدولة، هذا السؤال بالذات يملك إجابتين، الأولى تتعلق بهيكلة الحياة السياسية داخل الجزائر، والثانية قد تتعلق بتلقي المواطن للأداء المعارض، فيما يخص بناء الحياة السياسية في الجزائر، فإنها تسير وفق فلسفة تقوية القوي إلى درجة احتكاره تعريف المصلحة الوطنية، وإضعاف الضعيف إلى درجة تحويله إلى فاعل منبره الوحيد هو صفحات التواصل الاجتماعي، أي أنها تعمل دون أدنى توازن سلطوي من الداخل، ويشار إلى أن هذا المشكل هو لصيق بالنظام السياسي الجزائري منذ الاستقلال وليس وليد اللحظة، أما مسألة تقييم المواطن لأداء القوة المعارضة، فيمكن القول أنه ينظر إلى الحكام والمعارضين بنفس النظرة التقليدية لذوي السلطة، مع وجود حالات قليلة جدا تحظى بإعجاب الجماهير، لكن هذا الإعجاب لا يعمر طويلا بسبب أخطاء سياسية، أو مواقف معينة تجاه الشأن العام. رغم أن المعروف في الجزائر أنه لا سلطة دون توفير أدنى متطلبات إرضاء النظام، ومواكبة أطروحاته ، يجب على المعارضة أن تفهم أن السلطة الحقيقية، والعمل السياسي القويم يكمن في إرضاء المواطن وحده بكل أطيافه وتوجهاته، والعمل على مواكبة التطور الطبيعي لحاجياته ومطالبه بكل تفرعاتها وتعقيداتها، ومساعدته وتأطيره لبناء ضمانات ديمقراطية مستديمة تجعل الأجيال الحاضرة والمستقبلية تعيش في ديمقراطية تشاركية عصرية، المرجعية فيها للفرد المواطن، غير هذا الخيار تبقى المعارضة مجرد امتداد للسلطة شكلا ومضمونا.