للحضارات التي عرفتها البشرية جمعاء صعود وهبوط، وانخفاض وارتفاع في منحناها البياني المحدد لمدى تقدمها أو تضعضعها، ومراحل هذه الحضارات شبيه بأعمار الأفراد، فمن هذه الحضارات من عمرت قرنا ومنها من بقيت صامدة لقرون ، لكن الدارس لهذه الأعمار سيلحظ ولا شك كيف أن الحضارة التي ننتمي إليها صمدت قرونا وقرونا، ماكان لأمة غيرها أن تصمد مثلما صمدت، ولا أن تكون عصية على الفناء مثلما استعصت، بل إن عشر معشار ماسقط على رأسها كفيل بأن يمحو ذكرها للأبد، ولك أن تتساءل : فما سر البقاء والخلود فيها، وسوف لن يعييك الجواب إذا علمت أن قيما وطاقة روحية نادرة هي التي كانت المعتصم والملاذ ضد النوازل والإحن ، والتي إن افتقدت كان ماتراه أمامك من بهرج هو الشبح الذي لا روح معه، والمادة التي لا قيمة لها في عرف النقد الصحيح، وليقارن المرء بين خلق العدل و التسامح لدى قومنا وكيف تجسد يومها في أمر من الحاكم يومها لقائد الفتح بأن يخرج من بلاد اشتكى أهلها أنهم روعوا واغتصبت الأرض منهم عنوة ، وكيف تغزى الآن بلدان ويؤخذ الجار فيها بذنب الجار. ولعل الأمثلة الآن تترى تبين قيمنا وأخلاقنا التي مثلها أحدهم بقوله شعرا: ملكنا فكان العفو منا سجية فلما ملكتم سال بالدم أبطح ولا عجب هذا التفاوت بيننا فكل إناء بالذي فيه ينضح ثم إن توجه أولي الأمر من بيننا وإيلائهم اهتماما للقيم وجانب الروح موازاة بالاهتمام البين بالإنعاش الاقتصادي لهو المسعى الأمثل الذي يجب أن يشد فيه كل ذي عقل وحرقة على أزرهم، ابتغاء الوصول إلى حضارة تطير بجناحين وارفين ، وتسعى على قدمين سليمتين، نعيد فيها زمانا كنا فيه سادة، وميدانا كنا فيه قادة.