الأكيد أنك تتابع ما يدور من أخبار حول صحة الرئيس بوتفليقة. ما رأيك في عودة هذا الجدل؟ ليس لدي معلومات حول هذا الموضوع، والمعلومات المتوفرة لدي هي نفس المعلومات المتوفرة لدى سائر الجزائريات والجزائريين، وهي المعلومات التي تضمّنها البيان الصادر عن رئاسة الجمهورية بمناسبة إلغاء أو تأجيل زيارة المستشارة الألمانية إلى الجزائر.
بررت الرئاسة تأجيل زيارة المستشارة الألمانية أنجيلا ماركيل، بوجود مانع طارئ للرئيس بوتفليقة. هل ما جرى يمكن وصفه بالحدث السياسي العادي، أم أن له أبعادا ودلالات أخرى؟ قد يحدث في العلاقات بين الدول أن تلغى زيارات للمسؤولين لأسباب قاهرة مختلفة، لكن إلغاء زيارات من هذا المستوى لا يمكن أن يمر دون إثارة استقراءات وتساؤلات في كل الأوساط المتابعة للشأن الدولي، ولا يمكن بالتالي اعتباره حدثا عاديا. وهذا بالضبط ما حدث مع تأجيل زيارة المستشارة الألمانية الذي أعاد إلى الواجهة، داخليا وخارجيا، إشكالية ممارسة الحكم في الجزائر، وهي الإشكالية المطروحة منذ مدة لأنها في صميم الانسداد السياسي الشامل الذي يواجهه البلد راهنا.
لكن خطاب شغور السلطة الذي تحملونه، لوحظ مؤخرا أنه لم يعد يحظى بالإجماع، فهناك أحزاب معارضة تراجعت عنه؟ أنا أحترم سيادة الأحزاب وسيادة قراراتها السياسية وليس لي تعليق بما يصرح به الآخرون. بالنسبة لي كشخصية وطنية ومسؤول سياسي، الجزائر اليوم هي في حالة أخطر من شغور السلطة، فهي تعيش حالة الانسداد السياسي الشامل الذي أضعف الدولة الوطنية وتعيش انسدادا اقتصاديا خطيرا وآخر اجتماعيا لا ينكره أحد، وأنا مسؤول عما أقول.
من موقعك كمسؤول سياسي.. الأكيد أنك تلتقي مسؤولين ودبلوماسيين أجانب، ما هي نظرتهم لما يجري في الجزائر على ضوء التطورات الأخيرة؟ لما أستقبل دبلوماسيين أجانب مقيمين في العاصمة الجزائرية يكون ذلك بطلب منهم، وأعبّر لهم كوطني عن المواقف المعلنة لطلائع الحريات لا غير. أثارت تصريحات مرشح الرئاسة الفرنسية إيمانويل ماكرون حول ارتكاب المستعمر الفرنسي جرائم ضد الإنسانية جدلا واسعا. هل تعتبرون هذه التصريحات خطوة من الجانب الفرنسي في طريق المصالحة التاريخية بين البلدين؟ كل خطوة تبعدنا عن خرافة الفعل الحضاري للاستعمار وتقرّبنا من الاعتراف بحقيقته كعدوان وهيمنة عرقية وجريمة ضد الإنسانية، هي خطوة مرحب بها لأنها تنصف الأجيال بعد الأجيال من الجزائريين الذين لم يقاوموا حضارة مزعومة جاء بها إليهم ساعون خير أسخياء، وإنما قاوموا الاعتداء والإبادة والاستيلاء على الأرض وخيراتها ومحاولات محوهم من وجه المعمورة كشعب وكأمة.
لماذا توقفت السلطات الجزائرية بشكل رسمي عن مطالبة فرنسا بالاعتذار عن جرائمها وهل الوقت مناسب لإحياء قانون تجريم الاستعمار الذي تم السكوت عنه في وقته؟ سؤالكم موجّه للسلطات الجزائرية، فهي أدرى مني بمسببات ودوافع تخليها عن المطالبة بالاعتذار عن جرائم الاستعمار. لا يوجد وقت أنسب من وقت آخر لرفع القناع عن حقيقة الاستعمار وإظهاره في وجهه البشع، فهذا واجبنا الثابت والدائم والمستديم وهو دين علينا.
تشهد هيئة التشاور والمتابعة خلافات كبيرة بين أعضائها بسبب الموقف من التشريعيات، هل تعتقدون أن هذا التكتل المعارض قد انتهى عمليا ولم يعد له ما يبرر وجوده؟ على عكس هذا تماما، فإنني أعتبر أن تكتل المعارضة مكسب بالغ الأهمية، ويجب الحفاظ عليه مهما كانت حدة الاختلافات الظرفية العابرة، كما أعتبر أن علة وجود هذا التكتل لا تزال قائمة ولم تسقط مع تباين المواقف من التشريعيات القادمة. لقد صرحت في عدة مناسبات بأن الحكمة والتبصر يمليان علينا في هذه المرحلة بالذات أن لا نضحي بالكبير بسبب الصغير، وأعني بهذا عدم السماح لاختلاف المواقف من التشريعيات أن يعصف بما هو أكبر من هذا الاستحقاق وهو المشروع المحوري والمفصلي المتمثل في الانتقال الديمقراطي، وفي عدة مناسبات كذلك توجّهت بالنداء تلو النداء إلى كل مكونات المعارضة الوطنية بعدم الإفراط بمشروع الانتقال الديمقراطي مقابل استحقاق تشريعي ستثبت الأيام، وهذا في أحسن الأحوال، أنه عديم التأثير والمفعول على الانسداد السياسي الراهن وعلى الأزمة الاقتصادية المتفاقمة وعلى تنامي التصدع الاجتماعي الذي تزداد وتيرته وتتوسع رقعته. أعتقد جازما ومخلصا أن الاستراتيجية السياسية الملائمة لمقتضيات هذه المرحلة تلزمنا بالتمسك بمشروع الانتقال الديمقراطي الذي اجتمعنا حوله قبل الاستحقاق التشريعي والذي سنواصل التفافنا حوله بعد الاستحقاق ذاته.
هل تؤيدون طرح الأحزاب والشخصيات التي ترى استعداد بعض الأحزاب السياسية المعارضة للمشاركة في الحكومة بشروط بعد التشريعيات، أمرا مناقضا لما جاء في وثيقة مازافران والآليات المنصوص عليها؟ تعبر الجسور بعد الوصول، فالسياسة بالنسبة لي ليست تنبؤات وتكهنات وإنما هي تعامل مع الواقع كما يتبلور وكما يتجسد وكما يفرض نفسه. وفي السياسة يمكن للحكم على النوايا أن لا يصيب ويمكن لمحاولة استباق الأحداث أن تؤدي إلى عكس ما كان مرتقبا، فالسياسة كذلك تأني وصبر وحيطة وترك المجال لعنصر الزمن ليرفع الغموض عن المواقف والتموقعات السياسية. أما عن أرضية مزفران، فلكل واحد منا حقه في استقرائها وتفسيرها وأحترم شخصيا حق الاستقراء والتفسير هذا. على صعيد آخر، يثير سؤالكم موضوع المشاركة في الحكومة؟ عن أي حكومة نتحدث؟ إن كانت هذه الحكومة من صنع النظام السياسي الحالي بهدف الإبقاء على الوضع القائم، فالمشاركة فيها من طرف أي تشكيلة من تشكيلات هيئة التشاور والمتابعة تعتبر تلقائيا خروجا عن المعارضة ودخولا في صف الموالاة، وفي هذه الحالة إن وقعت ستتوضح الأمور من تلقاء نفسها. ومهما يكن من أمر فلهيئة التشاور والمتابعة اجتماع مبرمج بعد التشريعيات وستكون لها في هذا الاجتماع فرصة تقييم الوضع الجديد والاتفاق على صيغة العمل المشترك التي تراها مناسبة.
لا يزال السيد علي بن فليس رغم خروجه للمعارضة محسوبا لدى بعض الأطراف على النظام (يقولون إنك ابن النظام) بسبب مشاركاته في العديد من مراكز المسؤولية وارتباطه الوثيق في فترة معينة بالرئيس بوتفيلقة، ألا تعتقد أن هذه النظرة تؤثر في مصداقية انتقاداتك للسلطة حاليا؟ أنا ابن أمي وأبي قبل كل شيء، ثم أنا ابن الجزائر كسائر الجزائريات والجزائريين ووفائي وولائي للجزائر، ولا أقول سمعا وطاعة إلا لها، لست ولم أكن ولن أكون أبدا ابن منظومة أيا كانت أو ابن نظام أيا كان. ماذا يعني أنك ابن نظام أو منظومة؟ هذا يعني أن هذا النظام أو هذه المنظومة هو الذي أنجبك ورباك، وأنك أطعته طاعة عمياء مصيبا أو مخطئا، وأنك طبّقت إملاءاته عليك دون تقييم أو فرز أو تمييز، وأنك قبلت بتغليب انتمائك إليه وبقائك فيه على القناعات والالتزامات والمبادئ والقيم المترسخة في أعماقك، لم يسبق لي وأن غلّبت المنصب على المهمة، وكلما عاقت العائقات المهمة التي جئت من أجلها لم أتردد ولم أتأخر وعرفت كيف أنسحب مرتاح البال ومطمئن الضمير. مسيرتي السياسية والمهنية دامت أربعين سنة نصفها في المحاماة و14 سنة في المعارضة و6 سنوات في خدمة الدولة. إن السلطة بالنسبة لي مجرد وسيلة وأداة وليست إطلاقا غاية في حد ذاتها، فهي وسيلة لتحسين أوضاع الناس وأداة للدفع بالبلد نحو الأفضل والأرقى. مصداقية خطابي السياسي تكمن في هذا وسر رواج مشروعي السياسي هو أيضا في هذا.
أطلق أمين عام الأفالان جمال ولد عباس، تهديدات للمترشحين الذين "خانوا الرئيس" في إشارة إلى مساندتهم لك في رئاسيات 2004 بأنه سيتم إقصاؤهم من الترشيح. هل لا يزال للسيد علي بن فليس رغم انسحابه من الأفالان تأثير على الحزب حاليا؟ إن وصولي إلى منصب الأمين العام لجبهة التحرير الوطني لم يأت من العدم، حصل ذلك على أساس برنامج سياسي واضح المعالم والمحطات والأهداف، ودعني أذكّر بالركائز الأساسية لذلك البرنامج التي كانت تتمثل في تجديد البرنامج السياسي وعصرنة الخطاب السياسي ودمقرطة صنع قرارات الحزب وبعث دم ونفس جديد في التركيبة البشرية للحزب ولا سيما في كل مستويات المسؤولية قاعدية كانت أم قيادية. إن التاريخ يشهد على أن هذا البرنامج كان محل استحسان واسع وسند قوي داخل صفوف جبهة التحرير الوطني في تلك الحقبة المعينة. ولحد الساعة هناك في جبهة التحرير الوطني مناضلات ومناضلون في القاعدة وفي القيادة يؤمنون بتبصر وصواب ورشاد ذلك البرنامج. هل حقا "خان الرئيس" كل من اقتنع باستقامة وسداد هذا البرنامج وساعدني على حمل أعبائه؟ أم أن هذا من باب العمل السياسي النبيل الذي يعتبر فيه مواجهة الفكرة بالفكرة والمشروع بالمشروع سنّة حميدة. ويعتبر فيه أيضا الاختلاف فرصة لإثراء النقاش العام ولإخصاب الحقل السياسي؟ صحيح أن بعض الخطب السياسية في بلدنا قد أفقدت المصطلحات معناها، وأدخلت في القاموس السياسي الوطني تهم الخيانة والتخابر والعمالة التي لا تسمح بها إطلاقا أدبيات الاختلاف الراقية.
ما رأيك فيما يثار حول استفحال ظاهرة المال السياسي في الانتخابات التشريعية؟ بغض النظر عن موقفنا من الانتخابات، فما يجري من استشراء لظاهرة المال السياسي هو تطور خطير لا يمكن السكوت عنه لأنه يمس بالقليل من الممارسة السياسية المتبقية .. وسيواصل هذا المال الإتيان بمؤسسات فاقدة للشرعية والأخلاق السياسية..
تعرف منطقة القبائل منذ سنوات ظهور منظمات ذات نزعة انفصالية. ظهور "الماك" مثلا (2002) جاء في فترة كنتم فيها على رأس الحكومة وشهدت فيها البلاد أحداث الربيع الأسود الذي أوقع العديد من الضحايا. هل تشعرون بمسؤولية ما إزاء المشاركة بفعل السياسات التي انتهجتموها في ذلك الوقت، في تغذية هذه النزعة؟
لا يحق ولا يصح تاريخيا تحميل أي شخص بعينه المسؤولية الفردية على التطورات التي تشير إليها، هذه التطورات ليست وليدة سنة 2002 بل هي نتاج تراكمات تاريخية. انطلاقة هذه التراكمات كانت داخل صفوف الحركية الوطنية في الأربعينيات من القرن الماضي، وتواصلت بعد الاستقلال مباشرة ثم في سنة 1980 و2002 وأنا مستعد لأخوض معك في كل مرحلة من هذه المراحل المؤسفة والمحزنة في تاريخنا الوطني، لنرى كيف غذت كل واحدة منها الشعور بالغل والغبن والضغينة الذي غمر أبناء جلدتنا في منطقة القبائل، فهذا الشعور لم ينفجر فجأة في 2002 فهو آت من بعيد. ولنعد للتاريخ الوطني القريب ولنعترف بأن هذه المنطقة كانت السباقة في رفع راية قضية الديمقراطية والهوية الوطنية لبلدنا. وعلى مدى أربع وثلاثين سنة فرض عليها تنكيس هذه الراية والعدول عن هذين المطلبين المشروعين، وذلك من الاستقلال إلى غاية صدور دستور 1996. لقد تأخّرنا وتأخرنا كثيرا في رفع الغل والغبن والضغينة عن أشقائنا في منطقة القبائل ودفعنا كلنا كأبناء الوطن الواحد التكلفة غالية بسبب هذا التماطل والتقاعس والتشنج. واليوم، فإن المطلوب منا هو ألا نكرر نفس الأخطاء، فالتضخيم من حجم "دعاوى الانفصال" خطأ سياسي جسيم وتخوين منطقة بأكملها خطأ لا يغتفر، ومحاولة ترهيب أو ترعيب منطقة بأكملها بسبب مطالب خاصة بها خطأ سياسي فادح. فالخطاب السياسي الصادر عن السلطة بخصوص منطقة القبائل ومنطقة المزاب خطاب غير معقول وغير مقبول ولا يمت للحكمة السياسية بصلة، إن هذا الخطاب يكرر أخطاء الماضي ويمثل بالتالي قمة الخطأ السياسي.
أثير مؤخرا قضية خرق الدستور فيما يتعلق بمنع علي بن حاج من التنقل في الولايات بتعليمة رئاسية، وقد ذكر أمين عام الرئاسة أحمد أويحيى أنه يتحمل مسؤولية ذلك. هل يمكن إيجاد مبررات لهكذا تصرف في اعتقادك؟ هناك خرق للدستور ولقانون الإجراءات الجزائية ولقانون العقوبات. ويمكنني أن أؤكد لك بأن العقوبات السالبة لحرية التنقل لا يمكن أن تصدر سوى بحكم من القضاء وبسبب مخالفات محددة قانونا. فبهذه التعليمة تكون رئاسة الجمهورية قد وضعت نفسها فوق الدستور والقوانين والمفارقة أن المنتظر منها هو أن تحمي الدستور وتسهر على احترام القانون. إن البلد يعاني من غياب دولة الحق والقانون وهذه التعليمة تثبت هذا الغياب بما لا يدع مجالا لأدنى شك أو تشكيك.
ما رأيك في نتائج اجتماع الثلاثية بين الحكومة وأرباب العمل والمركزية النقابية؟ بعد ثلاثة أشهر من اليوم ستدخل الأزمة الاقتصادية سنتها الرابعة، والثلاثية قد عقدت ثلاث اجتماعات في هذه المدة، والجزائر على خلاف الدول الأخرى المصدّرة للمحروقات لا تزال تفتقر لرؤية للخروج من الأزمة الاقتصادية، فأين هي إذا فاعلية ونجاعة ومردودية أو حتى علة وجود الثلاثية، وهي قد برهنت بما يكفي عن عجزها على تزويد البلد بتصور وبمشروع يعوّل عليهما. وهكذا لم يختلف اجتماع عنابة عن سابقيه من اجتماعات الثلاثية. ففي عنابة فسر الماء بالماء، وقدمت المسلمات والبديهيات على أنها قمة في التحاليل الاقتصادية، وكأن الثلاثية أرادت أن توهمنا بأن اخترعت العجلة من جديد.