جامعة بجاية، نموذج للنجاح    بحث فرص التعاون بين سونلغاز والوكالة الفرنسية للتنمية    ملابس جاهزة: اجتماع لتقييم السنة الأولى من الاستثمار المحلي في إنتاج العلامات العالمية    بطولة العالم للكامبو: الجزائر تحرز أربع ميداليات منها ذهبيتان في اليوم الأول    السيد مراد يشرف على افتتاح فعاليات مهرجان الجزائر للرياضات    قسنطينة: افتتاح الطبعة الخامسة للمهرجان الوطني "سيرتا شو"    الطبعة الرابعة لمهرجان عنابة للفيلم المتوسطي : انطلاق منافسة الفيلم القصير    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي: حضور لافت في العرض الشرفي الأول للجمهور لفيلم "بن مهيدي"    رئيس الجمهورية يستقبل رئيس غرفة العموم الكندية    السفير بن جامع بمجلس الأمن: مجموعة A3+ تعرب عن "انشغالها" إزاء الوضعية السائدة في سوريا    شهداء وجرحى مع استمرار العدوان الصهيوني على قطاع غزة لليوم ال 202 على التوالي    انطلاق الطبعة الأولى لمهرجان الجزائر للرياضات    إستفادة جميع ولايات الوطن من خمسة هياكل صحية على الأقل منذ سنة 2021    وزير النقل يؤكد على وجود برنامج شامل لعصرنة وتطوير شبكات السكك الحديدية    السيد دربال يتباحث مع نظيره التونسي فرص تعزيز التعاون والشراكة    السيد بوغالي يستقبل رئيس غرفة العموم الكندية    حج 2024: آخر أجل لاستصدار التأشيرات سيكون في 29 أبريل الجاري    رئيس أمل سكيكدة لكرة اليد عليوط للنصر: حققنا الهدف وسنواجه الزمالك بنية الفوز    "الكاف" ينحاز لنهضة بركان ويعلن خسارة اتحاد العاصمة على البساط    بقيمة تتجاوز أكثر من 3,5 مليار دولار : اتفاقية جزائرية قطرية لإنجاز مشروع لإنتاج الحليب واللحوم بالجنوب    رئيس الجمهورية يترأس مراسم تقديم أوراق اعتماد أربعة سفراء جدد    شلغوم العيد بميلة: حجز 635 كلغ من اللحوم الفاسدة وتوقيف 7 أشخاص    ميلة: عمليتان لدعم تزويد بوفوح وأولاد بوحامة بالمياه    تجديد 209 كلم من شبكة المياه بالأحياء    قالمة.. إصابة 7 أشخاص في حادث مرور بقلعة بوصبع    نحو إنشاء بوابة إلكترونية لقطاع النقل: الحكومة تدرس تمويل اقتناء السكنات في الجنوب والهضاب    السفير الفلسطيني بعد استقباله من طرف رئيس الجمهورية: فلسطين ستنال عضويتها الكاملة في الأمم المتحدة بفضل الجزائر    معرض "ويب إكسبو" : تطوير تطبيق للتواصل اجتماعي ومنصات للتجارة الإلكترونية    وسط اهتمام جماهيري بالتظاهرة: افتتاح مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي    رئيسة مؤسسة عبد الكريم دالي وهيبة دالي للنصر: الملتقى الدولي الأول للشيخ رد على محاولات سرقة موروثنا الثقافي    خلال اليوم الثاني من زيارته للناحية العسكرية الثالثة: الفريق أول السعيد شنقريحة يشرف على تنفيذ تمرين تكتيكي    حلم "النهائي" يتبخر: السنافر تحت الصدمة    مشروع جزائري قطري ضخم لإنتاج الحليب المجفف    القيسي يثمّن موقف الجزائر تجاه القضية الفلسطينية    بطولة وطنية لنصف الماراطون    سوناطراك توقع بروتوكول تفاهم مع أبراج    تسخير 12 طائرة تحسبا لمكافحة الحرائق    الجزائر تحيي اليوم العربي للشمول المالي    هزة أرضية بقوة 3.3 بولاية تيزي وزو    ش.بلوزداد يتجاوز إ.الجزائر بركلات الترجيح ويرافق م.الجزائر إلى النهائي    العدالة الإسبانية تعيد فتح تحقيقاتها بعد الحصول على وثائق من فرنسا    جعل المسرح الجامعي أداة لصناعة الثقافة    جلسة للأسئلة الشفوية بمجلس الأمة    معركة البقاء تحتدم ومواجهة صعبة للرائد    اتحادية ألعاب القوى تضبط سفريات المتأهلين نحو الخارج    فتح صناديق كتب العلامة بن باديس بجامع الجزائر    "المتهم" أحسن عرض متكامل    دعوة لدعم الجهود الرسمية في إقراء "الصحيح"    الاتحاد الأوروبي يدعو المانحين الدوليين إلى تمويل "الأونروا"    إجراءات استباقية لإنجاح موسم اصطياف 2024    فيما شدّد وزير الشؤون الدينية على ضرورة إنجاح الموسم    الرقمنة طريق للعدالة في الخدمات الصحية    حج 2024 : استئناف اليوم الثلاثاء عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    حكم التسميع والتحميد    الدعاء سلاح المؤمن الواثق بربه    أعمال تجلب لك محبة الله تعالى    دروس من قصة نبي الله أيوب    صيام" الصابرين".. حرص على الأجر واستحضار أجواء رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حوار مع راشد الغنوشي في الذكرى العاشرة لثورة الياسمين
نشر في الخبر يوم 15 - 01 - 2021

في الذكرى العاشرة لثورة الياسمين، يعود راشد الغنوشي في هذا الحوار المطول مع "الخبر" لكل ما حققته الثورة التونسية وما ينتظر التحقيق.

في 14 جانفي 2011 كنتم في المنفى، لكنكم كنتم تتابعون تطورات الأحداث. باستعادة ذلك اليوم بعد عقد من الزمن، كيف يمكن وصفه؟
المشهد الذي طغى في ذلك اليوم هو مشهد الثورة، بمعنى الآمال التي تحرك الناس، روح العطاء والكرم ونسيان الذات، وكأن الناس تحولوا إلى جسم واحد تحرّكه الآمال العريضة واستشراف المستقبل وروح الأخوة والتضامن، هناك فرحة عارمة بأننا دخلنا عصرا جديدا، وبأن الحرية انتصرت والحق انتصر. لا شك أن تلك المشاهدَ اللافتة مسجَّلةٌ في الإعلام والصحافة عن التضامن بين التونسيين، كان هناك شعور بأن المجتمعَ قد توحَّد في لحظة نصر، وأنه انطلق من سجن إلى الحرية، وأنه يُمسك مستقبله بيده.
طبعا تلك المشاهد بعيدة عنّا اليوم، الشّارع يتحرك للاحتجاج وكأنه يثأر من تلك الآمال، بسبب مشاعر من الإحباط والقلق من المستقبل، حتى وإن كان الاحتجاج الآن ليس عارما، فقد راجت هذه السنة دعوات للتحشيد في 10 ديسمبر الماضي، وحصل كثير من الإضرابات المعلنة، لكنها فشلت وتمّ التراجع عنها، هناك الآن شعور بالإحباط أكثر منه شعور بالغضب، لأن الناس لا يرون مخارج في آخر النفق، لا يرون بدائل، هم محتجون على الواقع وغاضبون ورافضون ومتألمون، ولكن ليس عندهم بديل يجعلهم يضحون كما في السابق، حين كانت هناك آمال معقودة بإمكانية أن يوجد نور في آخر النفق، وكان هناك حلم، هذا الحلم مازال إلى حد اليوم، لكن أمام حجم المشكلات والخيبات انطفأ بعض الشيء، وأمام الخطاب الإعلامي السائد الذي يبشّر باليأس ويسدّ الآفاق، أو بالأحرى يقول "تونس ماشية في الحيط"، بحيث التقت مع خطابات الثورة المضادة وخطابات جرحى الانتخابات وجرحى الحكومات المتكسرة.

إذا اعتبرنا هذا محصلة لمسار بدأ في 2011 بهروب بن علي، ثم العبور الى المجلس التأسيسي وصياغة دستور جديد، هل كان المسار خاطئا؟ أم أن هذا المسار التأسيسي بهذه الكلفة ضرورة عبور تاريخي؟
تونس حصلت فيها الثورة، ومن علامات الثورة التغيير الجذري، كانت هناك دعوى إلى إدخال إصلاحات على دستور 1959 والاكتفاء بذلك، لكن الشعب رفض، وتغلبت اعتصامات القصبة 1 و2 التي نادت بالمجلس التأسيسي، والحركة السياسية نادت أيضا بالتأسيسي، وهنا ألفت إلى أنه قبل الثورة كانت هناك دعوات لتأسيس جديد لأن الواقع في عهد بن علي بلغ من الترذّل والفساد بحيث لا يُبنى عليه، وصار غير قابل للإصلاح، وكان منصف المرزوقي يقول عن نظام بن علي إنه "لا يَصْلُح ولا يُصلَح"، وهذا الشّعار كان سائدا، لأن الوضع بلغ فسادا لم يبق معه رجاء للتّرقيع وللإصلاح، فكان لا بدّ من إعادة بناء النظام السياسي، وإذا كان في النظام القديم في عهد بورقيبة وبن علي تركيز شديد للسلطة في شخص الرئيس وفي قصر قرطاج، فإن الثورة اتجهت إلى نظام برلماني بهدف توزيع السلطة على أوسع نطاق، أي توزيعها على مركزين أو 3 مراكز، القصبة (الحكومة) وباردو (البرلمان) وقرطاج (الرئاسة)، ثم نشر اللامركزية من خلال الحكم المحلي على أوسع نطاق في كل البلاد، بحيث تصبح مشاركة المجتمع في السلطة عبر الحكم المحلّي، لأن هناك صِراعا عميقا في تونس بين الحكم المحلّي والمركزي، والثورة في الحقيقة هي ثورة الداخل على المركز، فكان لِزاما أن يكون التغيير جذريا ولا يكتفي بترميمات وإصلاحات للماضي.

ثمة مكاسب مهمة للمسار التأسيسي ودستور 2014، مثل الحريات والديمقراطية، لكن ثمة جزء آخر من المعادلة وهو التنمية مازال معطلا، كيف نفسر ذلك؟
المسار التّأسيسي جاء بالدّستور، وهذا الدستور انطلق من ورقة بيضاء، إذ لم يُبن على دستور آخر أو على ما سبقه، وإنما انطلق من ورقة بيضاء ومن لجان منتخَبة البرلمان، ومن مجتمع مَدني ومشاورات واسعة، فقد بُني على غير مثال سابِق، بحيث يُعبِّر عن إرادة شعبية حقِيقية. وتونس بمقياس الحريات متقدمة جدا، والشعب التونسي يتمتّع بحريّة لم يتمتّع بها في تاريخه، ليس عندنا صحيفة ممنوعة ولا محاكمات سياسية ولا حزب ممنوع، مرت 10 سنوات دون إغلاق صحيفة ولا محاكمات سياسية ودون حملات على جهة معينة، وهناك انتخابات فيها مفاجآت.. المجتمع المدني يتمتع بحريات مطلقة، نستطيع أن نقول ذلك، صحيح هذه الحريات لم تصنع خبزا حتى الآن، ولم تُقدِّم مناصب شغل للشباب. بمعنى أنه تم تحقق الهدف الأول من الثورة وهو الحرية والديمقراطية، ولا ينقصها إلا بعض المؤسسات المهمة مثل المحكمة الدستورية، إلا أن الهدف الثاني (التنمية)، وإن تحققت منه أشياء كإصلاح النظام الاقتصادي والتنمية وتوفير الشغل، فإن المحصول على هذا الصعيد محدود..
صحيح أن الثورة شغَّلت أكثر من 300 ألف من الشباب، ومددت من الطرقات ما لم يحصل منذ عهد الاستقلال، لكن ما تزال البنية التحتية ضعيفة، والنظام الاقتصادي غير منتج للثروة ولا يوفر شغلا لليد العاملة، مازال القطاع العام يحتاج إلى الإصلاح وصناديق الدعم والضمان الاجتماعي، فالنقلة التونسية في المجال الاقتصادي لم تُوفق حتى الآن، ربما قد يعطينا الحوار التونسي رؤية لاستكمال أهداف الثورة، ورؤية اقتصادية لتحقيق الهدف الثاني من الثورة، وهو التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. نحن نقدّر بأن تضحيات الشعب التونسي لم تذهب هدرا، و10 سنوات ليست كثيرة في عمر الثورات، الثورة التونسية حافظت على جوهر الحرية، عندما خرجنا من الحكم (حركة النهضة) في 2013، إذا بقيت الحرية في البلاد فنحن الرابحون والمنتصرون، وإذا بقيت الحرية سنعود للسلطة، وإذا ضاعت الحرية ضاع كل شيء، ونحن لم نضيع كل شيء في تونس مقارنة مع ما حدث في بعض دول المنطقة. ثورة تونس شمعة حافظنا فيها على رأس المال.. سواء كنا نحن في السلطة أو خارجها السلطة، هذا ليس مهما، ورأس المال هو شعلة الحرية، وأثبتنا أن الديمقراطية ممكنة في العالم العربي، وتونس خير دليل.

على خلفية هذه الإخفاقات الاقتصادية والاجتماعية التي تحدثت عنها، هناك من وجد فيها فرصة ومنطلقا للمطالبة بتغيير النظام الدستوري، وهناك حديث واضح عن حنين سياسي لعهد بن علي؟
هذه النوستالجيا، أو الحنين إلى الماضي، وُجد في كل الثورات، بما فيها الثورة الفرنسية نفسها التي عادت فيها الملكية في مرحلة ما لتقطع رؤوس الثوار، يمكن أن نقول إن تكاليف الثورة التونسية قليلة جدا، بالمقارنة مع دول دفعت الكثير ولم تحصل إلا على القليل، وشيء طبيعي أن تصنع الثورات نموذجا مجتمعيا جديدا، وخلال فترة الانتقال يُصاب الناس بخيبات تدفعهم للتفكير في الماضي وفي نظام الثكنات حيثُ يُصف الناس صفا دقيقا أمام الرئيس. الناس أمام الفوضى التي تأتي بها الثورات ينبعثون إلى الحنين للنظام السابق، خاصة في تونس حيث فكرة الدولة فكرة متجذرة، وبمجرد أن تنتشر الفوضى يحن الناس إلى الماضي، وينبعث الجو المناسب لأنصار الثورة المضادة لأن ينفخوا في هذا الحديث حتى يُتصور أنهم هم الرأي العام، وهناك تيار يستغل كل الظروف الناتجة عن الثورة، لكن معظم التونسيين متمسِّكُون بالحرية ولا يريدون العودة للاستبداد. حتى في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، النظام الجديد في المدينة المنورة لم يوفر الخبز مباشرة، والسيرة النبوية تتحدث عن البطون الجائعة، لأن القوة المسيطرة على المال والاقتصاد حينها كانت المجموعات اليهودية، واحتاج النظام الجديد في المدينة إلى وقت لتأسيس سوق جديد، كل الثورات تمر بحالة شظف وصعوبات اقتصادية في مرحلة البحث عن للبناء الاجتماعي.

تحدثتم عن الثورة المضادة، وعن التيار الذي يمثلها في المستوى السياسي والإعلامي، أليس مفارقة أن يستفيد هذا التيار نفسه من الديمقراطية التي صنعتها الثورة ويعمل بأدواتها؟
بالتأكيد أن الحزب الذي يعادي الثورة (الحزب الدستوري الحر) ويناكفها ويحرض عليها، ويمجد الماضي، ويحاول أن يقدم زمن ما قبل الثورة على أنه العصر الذهبي للتونسيين، وأن كل ما جاءت به الثورة ضلال وفساد وإفلاس، هؤلاء يعملون من داخل البرلمان ويستفيدون من أدوات الثورة، وحكومات الثورة (الترويكا) التي كان يشغلها الإسلاميون، أكبر ضحايا الاستبداد في تونس، هي التي أعطتهم الإجازة لأن تعمل هذه المجموعة، لسنا نادمين على ذلك، هؤلاء يعملون في البرلمان ويطالبون بحلّ البرلمان من داخله، وهي شهادة على أن الثورة ليست خائفة من خصومها، وتفتح لهم منازلة في وضح النهار بدل العمل في الظلام.

لكن هناك من يلومكم، ويلوم حركة النهضة خاصة على عدم إصدار قانون تحصين الثورة والعزل السياسي، بعدما أصبح هذا الحزب والثورة المضادة ومجموعاته تمارس التحريض ضد الثورة..
هذا اللوم يصدر عن قصور عميق وتاريخي، وقصر في النظر، هناك الكثير من التجارب، ولنا أن ننظر للمشهد العربي وننظر أين الخطأ وأين الصواب، كل الثورات تواجه مشكلة كيف تتعامل مع الإرث السابق لها.. في العراق حدث اجتثاث لحزب البعث أفضى إلى عراق ممزق، في ليبيا وُضع قانون العزل السياسي فحكم على من عملوا مع القذافي بالإقصاء، لننظر كيف هي ليبيا، ومصر أيضا.. نحن نتعامل بالديمقراطية، نحن قلنا لهم اُخرجوا إلى ساحة الحرية ونازلونا، لسنا خائفين منكم، أنتم أقصيتمونا بالاستبداد ونحن نهزمكم بالديمقراطية، لذلك أنا لم أكن مع قرار حل التجمع (حزب بن علي)، قلت لهم تعالوا للمنافسة حتى تعلموا يقينا أن نسبة 99% التي كنتم تحصلون عليها في العهد السابق كانت زيفا، تعالوا إلى صناديق الاقتراع لنهزمكم، ولهذا نحن كنا ضد مشروع قانون مطروح في البرلمان اسمه قانون "تحصين الثورة"، قلت دائما إن تحصين الثورة لا يكون بالمنع والإقصاء، ولكن عبر الحرية، لأن هناك نظاما قديما موجودا ستدفعه بالإقصاء إلى العمل السري وللعمالة الخارجية والمؤامرات، نحن قلنا لهم اُخرجوا إلى الشمس لننازلكم بالديمقراطية، وهؤلاء عندهم حزب وأحزاب، ولم نكن نريد لهم أن يجتمعوا تحت مظلة "التظلم" أو الزعم بأنهم مقموعون ومُقصون، فيهم معتدلون وفيهم قريبون منا، وفيهم متشددون مصيرهم أن يُعزلوا بالديمقراطية.

هل على أساس هذه الأرضية السياسية بدأتم مؤخرا مشروع مصالحة مع الدستوريين ورجالات النظام السابق، مع كل الجدل الذي يثار حول هذه الخطوة؟
نعم، في هذا الإطار جاء تكليف آخر أمين عام لحزب التجمع محمد الغرياني، باعتباره مستشارا لرئيس البرلمان، بملف المصالحة، وهو ملف لم يتقدم في السابق كثيرا بسبب تعدد الرؤى والاجتهادات، بعد 10 سنوات بقيت قضايا كثيرة تترنح بين المحاكم، ولم تتقدم كثيرا نحو الحل، فلا الضحايا نالوا حقوقهم، ولا الجناة أُغلق ملفهم على نحو أو آخر. المعالجة لم تكن جيدة رغم أنها سلمية، والملف مازال لم يجد حلولا مجدية، ولهذا كلفنا الغرياني بهذا الملف، وهو الآن يجمع الوثائق ويستشير المختصين في الأمر، وسنصل إلى رؤية معقولة تصل إلى المحاسبة وضبط ما حصل وفتح باب الاعتذار، وكشف الوقائع المؤلمة حتى لا تعاد، وتعويض الضحايا من طرف الدولة.

هناك كثير من الشخصيات كنتم شركاءهم في السجون والمنافي قبل 2011، وفي العهد الديمقراطي أصبحتم خصوما. كيف يُفهم تحول شركاء النضال في زمن الاستبداد إلى خصوم، هل لأنكم تقدمتم في اتجاه، أم لأنهم ظلوا في اللحظة الثورية؟
في تقديري الشخصي بقي العامل الأيديولوجي مؤثرا في العلاقات بين الأحزاب والتيارات، رغم أن التجربة التونسية شهدت تجارب مهمة على صعيد الحوار بين الإسلاميين واليساريين والليبراليين والشيوعيين في العشرية الأولى من هذا القرن، وعندما استفحل استبداد بن علي أدرك الجميع مقولة "أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض"، حيث استخدم بن علي النخبة اليسارية للتخويف والتهويل من الإسلاميين.
ولكن بعد ذلك التقى الجميع في السجون، وبدأت حوارات أفضت في 2005 إلى توافقات 18 أكتوبر، وهي تجربة أنتجت وثائق مهمة، وعندها سقط بن علي وعُزل لأنه سياسته ضرب تيار بتيار أفلست، إذاً كان للحركة السياسية التونسية المعارِضة رصيد مهم كأرضية ثقافية لم يقع استغلالها، ولم تستطع أن تحافظ عليها بعد الثورة، وفي الأشهر الأولى من الثورة كان لي لقاء مع حمة الهمامي (حزب العمال)، وكلانا كنا نستند إلى نفس الوثائق، لكن في زحمة الانتخابات تفرقت الصفوف، ولم ننجح في إدارة الحوار السياسي وفي إدارة اقتسام السلطة، نجيب الشابي (زعيم الحزب الديمقراطي التقدمي) دُعي إلى المشاركة معنا في الحكومة عام 2011، لكنه منذ البداية قال إنه في المعارضة.
ودُعي حمة الهمامي من طرف مصطفى بن جعفر (رئيس المجلس التأسيسي) فرفض ولم يستجب، ربما نحن لم نصبر بما يكفي لإقناعه، وربما قصور ظرفي منا بحيث اكتفينا بما عندنا بالتحالف في الترويكا، وكان ممكنا أن نبذل الجهد الأكبر، وهكذا عاد الصراع الأيديولوجي، وهو ما فتح ثغرةً للنظام القديم ليعود، وعاد ممثلا بنداء تونس مع الباجي قايد السبسي، حيث اجتمع اليسار والحركات الديمقراطية حول الباجي، وكاد التحالف الكبير أن يُسقط البناء في 2013، في ظروف إقليمية مناسبة بعد التجربة المصرية، لولا أننا أنقذنا الموقف بانسحابنا من السلطة. أعتقد أنه أقيمت تحالفات خاطئة وغير استراتيجية، وخلفيتها ثقافية وليست ثورية، وأن هناك خطرا على حرية المرأة، والحريات الفردية وخطر الأصولية، وموضوع الإرث أيضا زاد من إبراز الجانب الثقافي والقيمي، رغم أن الدستور حسم هذا الموضوع.
وظلت الانقسامات التي لم تكن على أساس الثورة ولا على أساس الديمقراطية، ولكن على أساس ما يسمى النمط، أي النمط الثقافي، وهكذا تمزقت الصفوف والنخبة، وانفتحت فتوق لعودة النظام القديم، واليوم عبير موسي تتكلم باسم الحداثة ومقاومة الخوانجية وتجند وراءها المجتمع المدني الحداثي. وأصبحنا نجد صعوبة حتى في اللقاء حزب التيار الديمقراطي الذين كانوا حلفاءنا سابقا ما قبل الثورة وشركائنا في تجربة الترويكا.

في 10 سنوات ظهرت في تونس مشكلة الإرهاب، في لحظة تقييم: كيف يمكن فهم ظاهرة الإرهاب؟ هل هو صناعة أم يد خارجية أم هو منتج تونسي تدخلت فيه عوامل بما فيها عامل الاستبداد السابق؟
الأقرب أنه ظاهرة تم توظيفها من قبل قوى الشر في داخل البلاد وخارجها، حتى الآن لازال الغموض قائما حول أهم حادثتي اغتيال للمرحومَين شكري بلعيد ومحمد البراهمي رحمهما الله، وهناك دوائر تحرص على استمرار هذا الغموض، ما يدل على أن هناك علامة استفهام كبيرة حول علاقة هذه الحوادث التي قلبت اتجاه الريح والأحداث، وعلاقة أجهزة المخابرات الدولية بهذا الموضوع، من أجل إرباك الوضع كثيرا على الربيع العربي.
الإرهاب أثر بالتأكيد على التجربة التونسية، نحن الذين تحاول بعض الأطراف اتهامنا بهذه الجرائم، إذا استخدمنا منطق "من المستفيد من الجريمة؟"، فنحن في حركة النهضة أكثر المتضررين منها، فبعد حادث اغتيال شكري بلعيد في فبراير 2013 سقطت حكومة حمادي الجبالي، وبعد الاغتيال الثاني سقطت حكومة علي العريض، وانتقلنا من حكومة نقودها إلى حكومة عندنا فيها وزير واحد، حكومة النداء في 2015، وانتقلنا من الحزب الأول إلى الحزب الثاني، فما مصلحة حزب حاكم في الإرهاب وهو يحكم؟ هل يُعقل أن يفجِّر الحزب الحاكم أرضيته وهو قائم على غصن فيقوم بقطع هذا الغصن؟ الغريب أنه بعد 7 سنوات من الحوادث، كلما تقدمت القضية للفصل فيها يعمل جهاز الدفاع على تأخيرها، هناك إصرار على أن يبقى الجرح مفتوحا وأن تبقى النهضة متهمة، وكيل النيابة (شكري العكرمي) قال إن قضية الاغتيالات باتت معروفة التفاصيل، نعرف من اغتال وكيف اغتال، لكن محامي الدفاع يصر على التأخير حتى تبقى القضية مفتوحة والجرح نازفا، لماذا؟ لأن هناك مصلحة سياسية.
أعتبر أن الإرهاب ظاهرة معقدة تتداخل فيها أوضاع، وهي ظاهرة دولية لم يسلم منها أي بلد في العالم، والشباب التونسي تم استدراجه إلى ساحات الحرب بالآلاف باسم قضايا تمس فلسطين أو تمس الصراع الدولي، وتم الزج بشباب ذوي مستوى تعليمي منخفض، وفي أوضاع اجتماعية صعبة، ويعيش في حالة ضنك، إلى ساحات القتال بالتلويح بالأحلام وبقيم عليا، وفتح آفاق كاذبة في جدار اليأس الذي يعيشونه.

بخلاف مكاسب إزالة الاستبداد وتكريس الحرية والديمقراطية، بعد 10 سنوات ثمة إخفاقات على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي. كيف يمكن تفسير هذه المعادلة؟
لا شك أن الإخفاق الاقتصادي هو أكبر إخفاقات الثورة، التنمية تحتاج قدرا معقولا من الاستقرار، وحالات الانتقال الديمقراطي في كل ثورة لا تيسِّر هذا الاستقرار، يكفي أن تعلم أنه خلال 10 سنوات كانت 10 حكومات، وسنة 2020 وحدها شهدت 4 حكومات، حكومة الشاهد والجملي التي لم تقم، وحكومة الفخفاخ والحكومة الحالية برئاسة هشام المشيشي، فكيف تريد أن تتحقق التنمية التي تحتاج إلى تراكم الخطط والتجارب؟ لذلك لا يُنتظر من حالات الانتقال الديمقراطي أن تحقق إنتاجا تنمويا معتبرا إذا لم يكن استقرار، هناك ضباب في المستوى التنموي له علاقة بالموقف من القطاع العام الذي هو في حالة إفلاس تقريبا، وبالاقتصاد الموازي، وهناك خيارات وإصلاحات كبرى لم نتجرأ على الإقدام عليها لأن حكومات الثورة ضعيفة وغير مستقرة، تعمل بمنطق يومي، ومنشغلة بكيفية تدبر مرتبات الناس وتوفير الخدمات ولو بالحد الأدنى، ونقدّر أن الحوار الوطني بين الأحزاب الرئيسية والمنظمات المجتمعية سيحسم في الإصلاحات، وتقوم حكومة ائتلافية لتقدم على الإصلاحات التي يمكن أن تكون موجعة، لكنها تحتاج أن يتحملها ائتلاف سياسي اجتماعي.

برأيك هل ساعد المحيط الإقليمي والفاعل الدولي في تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس بعد الثورة؟
نسبيا، السنوات العشر الماضية كانت صعبة على الجميع، لهذا انشغل الناس عن أوضاعها، وتلقت تونس الدعم من شقيقتها الجزائر والاتحاد الأوروبي، ومن تركيا ومن قطر، ولا شك أن نسدي لهم الشكر والتقدير، لكن تونس تحتاج إلى دعم أكبر، وربما التفكير خارج الصندوق هو المطلوب، أفكار جديدة ومشاريع سياسية كبيرة، وبعث حلم المغرب العربي ببعث مثلث الجزائر تونس ليبيا، فالأخيرة متجهة نحو السلم وفيها فرص كبيرة للاستثمار، فهذا المثلث يمثل منطلقا جيدا للتنمية لتحقيق حلم، ولوضع بضع خطوات لتحقيق هذا الحلم لصالح شعوبنا.

حركة النهضة قوة مركزية في التجربة الديمقراطية في تونس. هل يمكن وضع تقييم لأداء الحركة التي كانت معارضة تعيش في المنافي ثم انتقلت إلى السلطة؟ كيف تحكم على هذه التجربة؟
المحصلة أن الحركة نشأت بذورها الأولى منذ 50 سنة (1971)، وبعد 10 سنوات من نشأتها تقدمنا بطلب اعتماد في 1981، لو اعترفوا بنا في ذلك العام لتغيرت تونس ولسارت في طريق الإصلاح بدل الثورة، السلطة حينها اتجهت نحو الإنكار، وبدل الاعتراف بنا، وهو مقصد من مقاصد خلق الله، "وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا"، أي لتتبادلوا الاعتراف والمعرفة والعرفان، استلوا ضدنا سيف الدولة من ذلك العام.
ولمدة 30 سنة والسلطة تجرد أسلحتها لمنع وجود إسلاميين والنهضة، حاربونا داخل البلاد وخارجها، عدد مساجينِنا في التسعينات بلغ 30 ألف سجين، ومحاكمات وشهداء وعائلات تعاني، وفي المنافي بالخارج حوالي 3 آلاف مشرد، الرحلة السياسية التي قمنا بها من عام 1971، وبعد كل التشريد نجد نفسنا في السلطة، هذه حالة نجاح لا فشل، ولو شبهنا السياسة بقطار فإن القطار انطلق منذ عام 1981، هناك أحزاب صعدت ونزلت، لكن الذي صعد ولم ينزل هو النهضة معارِضا، كنا هناك عندما سقط نظام بورقيبة، وكنا هناك في لحظة سقوط بن علي.
أذكر في 1991 أني كنت بباريس في زيارة لبن أحمد صاحب مجلة "جون أفريك"، وهو كان صديقا لحكام تونس، وكان بصدد زيارة لبلده تونس، وكان كلما زار تونس التقى بن علي، سألني بماذا توصي؟ قلت له: قل لبن علي ليس لدينا أي غرض لمواجهته، إننا نريد أن نعيش في بلادنا كمواطنين بنفس الحقوق، لكن إذا ظن أنه سيفنينا فلن يفنينا، وسيبقى ولو نهضوي واحد على قبره.. ذهب بورقيبة وذهب بن علي وبقيت النهضة، نحن نجحنا، صحيح ليس نجاحا مطلقا، لكن بقاء النهضة خلال 50 سنة من نشأتها دال على أن فيها ما ينفع الناس وبعض الحق، ولو غير ذلك لما حافظت على الحد الأدنى من المواجهات العنيفة القاسية التي واجهتها.
أهم ما ميز هذا المسار هو تمسك النهضة بالإسلام، والإسلام باق، وتمسكها بالحرية تأكيد على أن الإسلام هو حرية وديمقراطية، وهما فكرته الأساسية، باعتبار الحرية مقصدا أساسيا في الإسلام، والمقصد من مقاصد الشرع، وأن كل ما يخالف الحرية ويناقضها ليس من الإسلام وإن ادعى البعض ذلك، النهضة تنظيم وفكرة، أتى بن علي على التنظيم بأدوات الدولة، لكن الفكرة هي التي صمدت بالإسلام والحرية والعدل والمساواة والديمقراطية وحقوق الإنسان، ولأنها تعمل على تأصيل قيمة الحرية في الإسلام، وعلى هذا الأساس استطعنا أن نقيم علاقات مع خصومنا في التوجه ومع الخارج، مع التيارات اليسارية والعروبية والليبرالية ومع حكومات في العالم.

إلى أي مدى ينطبق هذا التقييم لأداء حركة النهضة خلال السنوات العشر من التجربة الديمقراطية؟
النهضة كان لها دور كبير في المحافظة على الثورة من خلال تمسكها بالحرية، الحرية هي الأساس الذي نحالف أو نخاصم بناء عليه، ولذلك لم يكن لدينا أي مشكل في أن نخرج من السلطة إذا كان بقاؤنا فيها يهدد الحرية، وقد خرجنا من السلطة دون انقلاب ودون انتخابات، وأيضا مرونتنا فتحت التحالف مع ممثل النظام القديم السبسي، تنازلنا وقبِلنا بمشاركة جزئية في حكومته لأن المهم أن نحافظ على الثورة، كان عندنا 68 مقعدا في البرلمان في انتخابات 2014، ومع ذلك شاركنا بحقيبة وزارية واحدة، بينما كانت المناصب السيادية الثلاثة (الرئاسات) في يد حزب النداء، المهم أن نحافظ على جوهر الحريات والمرونة بدل الدفاع عن حقنا الذي يتناسب حسابيا مع حجمنا الانتخابي، لكننا قبلنا بأي حجم المهم أن يتواصل خط الثورة وخط الحرية.

في مرحلة لاحقة أطلقتم فكرة الإسلامي الديمقراطي، أو الإسلاميين الديمقراطيين. ماذا تقصد بهذا التوصيف السياسي؟
هذا للتأكيد على قيمة الحرية في الإسلام، وأيضا التوافق التام بين الإسلام والحرية والعداوة الشديدة بين الاستبداد والحرية، وبين الإسلام والنظام الفرعوني (حكم الفرد)، الإسلامي الديمقراطي تأكيد على مبادئ المساواة وبأننا يمكن أن نتحالف مع أعداء الاستبداد، وعلى أن الدولة التي ننادي بها هي الدولة الوطنية القُطرية، بينما الدولة التي ورثناها تاريخيا هي "الدولة الأمة" التي تستقطب كل المؤمنين، وتقديرنا أن هذا الدولة غير متاحة، فالدولة الأمة يمكن أن تكون بالمعنى الثقافي وليس بالمعنى السياسي، بحيث لا يحكمنا حاكم واحد، نحن في الدولة القطرية حيث الناس متساوون على أساس المواطنة وليسوا مؤمنين أو أهل ذمة، ولكنهم جميعا مواطنون يستمدون حقوقهم من المشاركة في نفس الأرض.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.