تألقت المرأة العنابية عبر العصور، بلباس تقليدي متنوع، يجمع بين الرصانة والأناقة، ويعكس هوية متجذرة في المتوسطية والشرق في آن واحد. وإذا كان التراث الجزائري المتصل بالهندام غني بتعدد أشكاله، فإن الزي النسوي في عنابة ظل محتفظًا بخصوصياته، ليمنح للمدينة سحرًا بصريًا إضافيًا ينسجم مع بحرها وأزقتها القديمة. منذ عقود، استبدلت المرأة العنابية "الحايك" الأبيض الذي اشتهرت به العاصمة ب"الملاية" السوداء، رمزا للستر والهيبة. كانت تُرتدى بعناية، تُثبت على الكتف وتُسدل لتغطي الجسد بأكمله، تاركة نافذة صغيرة للعينين. وإلى جانبها، يوضع "العجار" أو النقاب، ليضفي مهابة إضافية. في أحياء "لاكلون"، "لوري روز"، "بلاص دارم" وبرمة الغاز، كان حضور "الملاية" السوداء مشهدًا يوميًا. وقد أصبحت هذه "الملاية" علامة فارقة للمرأة الشرقية، تقابلها صورة "الحايك" الأبيض في العاصمة، وكأن اللباس كان لغة بصرية تُميز المدن الجزائرية فيما بينها. من القاعات الداخلية إلى بيوت العرائس لكن عالم الأزياء التقليدية لم يقتصر على الشارع، بل ازدهر في الأعراس والمناسبات، حيث تتألق المرأة بأجمل ما لديها من ملابس مزركشة ومطرزة: منها "قندورة الفتلة"، عمل فني بخيوط ذهبية أو فضية يبرز أنوثة المرأة ويمنحها هيبة خاصة. تليها "قندورة القطيفة" من المخمل الفاخر، تُطرز يدويًا وتُلبس في الأعراس الكبيرة. أما "الكراكو" العنابي فهو نسخة محلية من "الكراكو" العاصمي، لكنه يُضاف إليه تطريز مميز يعكس ذوق المرأة العنابية. ويأتي "الجبادور" كلباس أكثر عملية، لكنه يحافظ على طابع تقليدي جميل، ثم "القندورة" الخفيفة، لباس يومي بسيط، لكنه مزخرف، يثبت أن الأناقة كانت جزءًا من الحياة اليومية. كل قطعة تحمل قصة قماش، ويدًا نسوية صبورة، وإرثًا عائليًا تتوارثه الأمهات لبناتهن. الحلي.. ذهب يُحاكي البحر لا يكتمل اللباس التقليدي دون الحلي. المرأة العنابية كانت تُرصع نفسها بالذهب والفضة، في انسجام مع ألوان القنادير. من بين أبرز الحلي: "السخاب"، عقد مصنوع من حبات عطرية تفوح منه رائحة العنبر والمسك، يزين عنق العروس. و"الشوشنة"، تاج صغير يُثبت على الرأس بخيوط ذهبية، يمنحها وقارًا وأناقة. أما الخلاخل والأساور، فتُحدث رنينًا خاصًا أثناء الرقص على أنغام الدف والزرنة. هذه الحلي، لم تكن مجرد زينة، بل كانت أشبه ببطاقة هوية للعروس، تعلن مكانتها العائلية وتُظهر سخاء أسرتها. العطور.. لغة الروح للأزياء التقليدية في عنابة شريك دائم، هو العطر. المرأة كانت تضع لمسات من المسك والعنبر في خيوط "السخاب". كما كان ماء الزهر يُرش في الأعراس ليملأ القاعة برائحة روحانية. أما "الغالية"، فهي عطر تقليدي فاخر، يُصنع من خليط الأعشاب العطرية والزهور المجففة والمسك والعنبر، يُطحن ويمزج مع قليل من الزيوت، ليصبح معجونا عطريا مركزا. كانت النساء يضعنه على الثياب أو في الشعر، فيمنح رائحة قوية ومميزة ترافق العروس ليلة زفافها. "الغالية" لم يكن مجرد عطر، بل هو رمز للفخامة والوجاهة، وطقس تراثي يورَّث من جيل إلى جيل. العطر في عنابة لم يكن كماليا، بل عنصرا من طقس جماعي يضفي أجواء مقدسة على ليلة العمر. الأعراس.. مسرح للتراث الأعراس العنابية كانت ولا تزال مسرحًا تُعرض فيه هذه الأزياء والعطور والحلي. في يوم الحناء، تُرسم نقوش الحرقوس على يدي العروس ومعصميها، وتُغنى الأغاني التراثية في أجواء دافئة. أما ليلة الزفاف، فتُغير العروس ملابسها مرات عديدة، من "قندورة الفتلة" إلى "الكراكو"، وتُزين ب"السخاب" و"الشوشنة". تراث يتجدد مع الزمن رغم هيمنة الموضة الحديثة، ما تزال المرأة العنابية تحافظ على هذه التقاليد، بل إن بعض المصممين الشباب أعادوا ابتكار "القندورة" و"الكراكو" بلمسات عصرية، لتُلبس حتى خارج حفلات الزفاف. وبذلك، أصبح الزي التقليدي وسيلة لربط الأجيال الجديدة بذاكرتها الجماعية. إن الحديث عن الزي التقليدي النسوي في عنابة، هو في الحقيقة، حديث عن امرأة تعرف كيف تمزج بين الحياء والأناقة، بين الأصالة والانفتاح، بين الماضي والحاضر. ف"الملاية" السوداء، و"القندورة" المطرزة، و"السخاب" المعطر، كلها ليست مجرد تفاصيل من الماضي، بل مرآة تعكس شخصية المرأة العنابية: رصينة، أنيقة، وجذورها راسخة في الأرض والبحر.