نظمت المكتبة الرئيسية للمطالعة العمومية "بركات سليمان" بولاية عنابة، في إطار تنفيذ برنامج الخرجات الميدانية للمكتبة المتنقلة، نشاطا ثقافيا وترفيهيا لفائدة أطفال بلدية التريعات، ضمن المبادرة الوطنية "صيفنا لمة وأمان" التي تشرف عليها وزارة الثقافة والفنون. تهدف مبادرة "صيفنا لمة وأمان"، إلى جعل العطلة الصيفية فرصة لترسيخ قيم المطالعة والتربية الجمالية في نفوس الناشئة، خصوصا في البيئات الريفية والمناطق ذات التغطية الثقافية المحدودة. وقد مثل هذا النشاط المتنقل، محطة جديدة ضمن سلسلة المبادرات الثقافية، التي تسعى إلى كسر الطابع التقليدي للمكتبة كفضاء مغلق، وتحويلها إلى مؤسسة متنقلة قادرة على الوصول إلى أبعد نقطة جغرافية، حاملةً معها الكتاب والمعرفة والتفاعل الثقافي، في قالب ترفيهي يراعي اهتمامات الطفل وقدراته الذهنية والوجدانية. استُهل النشاط بتجميع الأطفال المشاركين في ساحة عمومية، وسط بلدية التريعات، حيث تم إعداد فضاء مفتوح مزود بالألوان والوسائل البيداغوجية المناسبة، أشرف عليه طاقم المكتبة المتنقلة، بمساعدة عدد من المنشطين التربويين. وتوزعت الورشات على محطات متنوعة، منها ورشة الأناشيد الطفولية التي ردد خلالها الأطفال أناشيد من التراث المدرسي والوطني، في جو من الحماس الجماعي والعفوية الطفولية. تلتها ورشة الرسم والتلوين، التي فتحت المجال أمام الأطفال، للتعبير بحرية عن خيالهم وأفكارهم، مستعينين بالألوان والورق الأبيض، كلغة بصرية صافية تعكس رؤيتهم للعالم من حولهم. وقد أبرزت رسوماتهم وعيًا بيئيًا واجتماعيًا لافتًا، ما يؤكد قدرة الطفل، متى أُتيحت له الفرصة، على إنتاج خطاب فني يحمل دلالات عميقة. كما نُظّمت ورشة قراءة قصة وتلخيصها، حيث قُرئت قصة تربوية قصيرة، تفاعل معها الأطفال بحيوية، ثم طُلب منهم تلخيص مضامينها بأسلوبهم الخاص، مما حفز لديهم مهارات الفهم والتحليل والربط، وأكسبهم أدوات أولية للكتابة الإبداعية والقراءة النقدية. أما أبرز لحظات النشاط، فكانت ورشة الحكواتي، التي قدمها الأستاذ جموعي عبد الرحمن بأسلوب مشوق مفعم بالحيوية، حيث استطاع أن يأسر انتباه الحضور بقصة تراثية مستلهمة من الحكاية الشعبية الجزائرية، تخللتها عبر تربوية ورسائل أخلاقية، قُدمت في قالب سردي جذّاب مدعوم بالإيماءات والتعبير الصوتي والحوار الحي. وقد تفاعل الأطفال مع القصة بشكل رائع، ورددوا بعض العبارات جماعيًا، مما أضفى طابعًا احتفاليًا على اللقاء. هذا النشاط، في جوهره، ليس مجرد ترفيه صيفي، بل هو مخطط ثقافي مدروس يندرج ضمن استراتيجية شاملة، تسعى من خلالها وزارة الثقافة والفنون إلى تحقيق عدالة ثقافية، تضمن لكل طفل جزائري حقه في الاستفادة من خدمات المطالعة والأنشطة الإبداعية، مهما كانت ظروف منطقته الجغرافية أو إمكانياتها المحلية. ويُلاحظ من خلال الإقبال الكبير والتفاعل الإيجابي، الذي عرفه النشاط، أن هناك تعطشًا حقيقيًا للثقافة في المناطق الريفية، وهو ما يستوجب دعمًا مستدامًا لمثل هذه المبادرات وتوسيع دائرتها، لتشمل مختلف الشرائح وتغطي كامل التراب الوطني. إن المكتبة المتنقلة، بهذا المفهوم، تتجاوز دورها التقليدي كوسيط ناقل للكتب، لتتحول إلى فضاء ثقافي متكامل متنقل، يساهم في تشكيل وعي الطفل، وفتح نوافذ الإبداع أمامه، وتوطيد علاقته بالكتاب منذ سن مبكرة، مما يُمهّد لبروز جيل قارئ، ناقد، ومحب للمعرفة والجمال. وتبقى مثل هذه المبادرات واجهة مشرقة لما يمكن أن تحققه الثقافة، حين تتقاطع مع الطفولة في الفضاءات النائية، حيث تصبح الكلمة أداة للبناء، واللون جسرا للتعبير، والحكاية جذرا يعيد ربط الأجيال بهويتها وتاريخها.