كانت خطواته متثاقلة، وقد استعان بعصا على قهر الزمان له وهو الذي لم تقهره أعتى قوة استعمارية في القرن العشرين، ورغم سنه الذي تجاوز 78 سنة إلا أن ذاكرته ما تزال جيدة وما زال يتمتع بروح الفكاهة، حيث يحاول دائما تلطيف الجو بالضحك والمرح لينسى معاناة سنوات الجمر والاستعمار التي يبكي بحرقة عندما يتحدث عنها. شغل منصب أمين ولائي للمجاهدين بقسنطينة في وقت سابق، وبقي يردد عبارة نفخر أننا سيرنا الجزائر لمدة 50 سنة بكل ما حملته من سلبيات وإيجابيات. عندما أخبرنا بعض المجاهدين أنه رافق الشهيد العقيد عميروش آيت حمودة أخدنا الفضول لمعرفة تفاصيل أكثر عن حياته الثورية وكيف كان لقاؤه مع البطل الرمز العقيد عميروش، حيث جمعنا لقاء معه بمكتب السيد محمد خشة مدير ملحق متحف المجاهدين بقسنطينة، فكانت هذه الدردشة. -المساء: أولا نريد معرفة سر تمسكك بعبارة نفتخر بتسيير الجزائر لمدة 50 سنة؟ *المجاهد عبد القادر زمولي: بعد سنة 1962 كان الأعداء ينتظرون عودة المعمرين من يهود ومسيحيين إلى الجزائر خاصة مع المشاكل التي واجهتنا، ولكن مرت 50 سنة ولم يتمكنوا من تحقيق آمالهم، لقد كانوا يطلقون علينا أسماء بيكو والعمال العرب احتقارا لنا، لكننا رفعنا التحدي وشيدنا المدارس والمصانع والمساكن وأصبح عدد سكان الجزائر يقارب 40 مليون نسمة منهم زهاء 8 ملايين طالب، -بالعودة للحديث عن الثورة، هل لنا أن نعرف العلاقة التي كانت تربطك بالعقيد عميروش؟ * تعرفت على عميروش سنة 1953 بباريس بعد سفري إلى فرنسا صدفة. -صدفة، كيف ذلك !؟ * السفر لم يكن مبرمجا ولأمور معقدة بعض الشيء، فعندما أنهيت دراستي بجامع الزيتونة بتونس وحصلت على الشهادة عدت إلى قسنطينة ولم أكن أشتغل بعد، وقبل أن ألتحق بأي عمل صادف الأمر أن التقيت، وأنا أتجول بوسط المدينة بين الحديقتين اسفل البريد المركزي (باب الواد حاليا)، أحد الأصدقاء وهو بوبربارة عبود رحمه الله، وبعد تبادل أطراف الحديث أخبرني بأنه متوجه إلى فرنسا بعد يومين للعمل فقررت مرافقته دون مشورة أهلي. وبالفعل، سافرنا معا، حيث نزلنا عند أحد معارفه بباريس، يدعى ساعد الذي استضافنا ببيته الكائن بمنطقة باربيس أين مكثنا مدة أسبوع قبل أن نقرر الخروج بحثا عن العمل بالضواحي الباريسية، وقد قصدنا مكتب محاماة بالشارع الأبيض ( لاري بلانش) للسيد أحمد بومنجل الذي كنا نعرفه من خلال ارتياده أحد النوادي بطريق جديدة ( شارع العربي بن مهيدي حاليا) مقابل الجامع الكبير رفقة فرحات عباس الذي كان يشرف على جريدة الجمهورية الجزائرية آنذاك والتي كانت تصدر أسبوعيا من النادي الذي كان يسير من طرف محمود حمروش أخ رئيس الحكومة السابق مولود حمروش، رفقة إسماعيل بورغيدة الذي تربطه علاقة طيبة مع بوبربارة عبود. -إذن بومنجل وجد لك عملا بباريس ؟ *أتذكر جيدا ذلك اليوم عندما وصلنا إلى مكتب بومنجل، رن الجرس ففتح الباب وإذا برجل ضخم يخرج إلينا، وبمجرد رؤيته سألني أقشيش عربي ماذا تفعل هنا؟ إن الأمور جد صعبة وأنت طالب علم لا تستطيع التأقلم مع بقية المهاجرين الذين يعملون كالعبيد. - بعد !؟ *الصدفة خدمتني مرة أخرى، وأثناء تواجدي بباريس فتحت جمعية العلماء المسلمين سنة 1953 شعبة لها وعينت الربيع بوشامة على رأسها، وقد كانت فرصة مناسبة لي ولصديقي المرحوم عبود للانخراط في هذا التنظيم الذي وجدت سهولة كبيرة في التعامل مع أعضائه خاصة وأننا نتقاسم نفس المبادئ التي تجمعنا وهي الدين والوطنية. -إلى حد الآن لم يبرز عميروش!؟ *كان عميروش أيضا من جملة المناضلين في هذا التنظيم الجديد الذي ظهر بباريس، حيث تحول من حركة انتصار الحريات الديمقراطية التي كان مقرها بالمقاطعة الخامسة إلى جمعية العلماء المسلمين بالمقاطعة 18 بعد مشاكل وصلت إلى حد التشابك بالأيدي مع أنصار الحركة الذين تسببوا له في كسر إحدى أسنانه، مما جعله يطلق هذا التنظيم ويلتحق بالجمعية كمسؤول تنظيم. وأتذكر أن أول اتصال مباشر مع عميروش كان عندما طلب مني، كوني من مدينة قسنطينة، أن ألقي كلمة بمناسبة ذكرى وفاة الشيخ عبد الحميد ابن باديس الموافقة ل16 أفريل، في البداية ترددت وقلت مازحا ابن باديس قبائلي وأنتم القبائل أولى بإلقاء الكلمة، وأمام إصرارهم قبلت المهمة وكتبت الكلمة وألقيتها داخل قاعة تم تأجيرها للمناسبة أمام حشد من الجزائريين كان عددهم بين 2000 و3000 فرد، وكان عميروش الذي سهر على عدم انفلات الأمور الأمنية متأثرا بالكلمة وينظر إلي وكأنني الشيخ عبد الحميد ابن باديس رحمه الله، وبعد التصفيق الحار من الحضور، وبعد نهاية الكلمة تم بيع صور العلامة ابن باديس وقد تم جمع مبلغ لا بأس به مكن من شراء شقة جديدة بشارع فوبور سان دوني التي أصبحت المقر الجديد لجمعية العلماء المسلمين وأصبحت كذلك مقرا لي ولزميلي عبود إلى غاية العودة إلى الجزائر. -وماذا عن عميروش ؟ *افترقنا وكل ذهب إلى حال سبيله، حيث عدت إلى الجزائر بعدما تم توقيفي من طرف البوليس الفرنسي بمقهى محطة القطار بشارع سان ميشال رفقة عبد السلام معنصري بحجة العصيان والتهرب من الخدمة العسكرية سنة ,1954 وقد طُردنا مباشرة عبر باخرة من فرنسا إلى الجزائر كانت مليئة بالأفارقة السود وكانت الوجهة الفيلق السادس بسطيف، وعندما أوصلونا إلى قسنطينة افترقت أنا ومعنصري، حيث فضلت العودة إلى المنزل قبل التوجه إلى ثكنة سطيف، وفي اليوم الموالي وصلتني رسالة من الجيش للتقدم إلى الفحص الطبي بثكنة القصبة بقسنطينة، حيث اغتنمت الفرصة ورميت استدعاء ثكنة سطيف. وتوجهت إلى القصبة في حدود منتصف النهار وأول ما لاحظته عدم اكتراث السلطات العسكرية الفرنسية تماما لأمرنا، وجدت الجنود الفرنسيين ينامون فوق الأسرة بينما يفحص الجزائريون في إسطبل الحيوانات، وهو الأمر الذي حزّ في نفسي وجعلني أفكر في خدعة للتملص وقد اهتديت إلى حيلة قبل المرور على غرفة الفحص، حيث أكلت كمية من الشمة (نوع من التبغ) مما جعل نبضات قلبي تزداد وأصبت بالغثيان، وقد انطلت الحيلة على الطبيب الذي منحني إعفاء من الدرجة الثالثة، وباشرت بعدها العمل بمكتبة عن طريق أحد معارفي وتبين فيما بعد أن هذه المكتبة لم تكن سوى مكتب بريد متخف لجيش التحرير الوطني على صلة بالقادة زيغود يوسف وبن طوبال عبد الله. -ألم تسأل عن عميروش خلال كل هذه الفترة !؟ *لا، لقد تبين لي فيما بعد أن عميروش، وبينما كان يعبر المنطقة الثانية متوجها إلى تونس، كان يشغل منصب مسؤول عسكري، التقى بقيادة الولاية الثانية وعلى رأسهم زيغود يوسف، علي كافي وعبد الله بن طوبال، هذا الأخير الذي سأله عميروش عني وأرسل معه رسالة تحمل توقيعه وختم الولاية الثالثة تطلب مني الالتحاق للسفر معه إلى تونس، ولم ير الرسالة سوى أحمد حماني الذي كان يترجاني للذهاب معي، ولكنني رفضت فكرة السفر والالتحاق بالولاية الثالثة إلى غاية اكتشاف أمري من طرف العدو، حيث اضطررت حينها للصعود إلى الجبل، وقد توجهت إلى منزل إبراهيم بن يزار شقيق الحارس الشخصي لبن طوبال الذي أحسن استقبالي بدوار بني تليلان وطلب مني الالتحاق بتونس رفقة مصطفى بوغابة ومصطفى حمروش لكنني رفضت وقررت البقاء، حيث حضرت اجتماع بني فرقان بعد استشهاد زيغود يوسف وقد تم انتخاب عبد الله بن طوبال لخلافته بعد غياب عمار بن عودة، كما حضرت زواج بن طوبال بدار بومود بالجزية بأولاد عطية قبل أن يتم تحويلي إلى دوار عرباون بسرج الغول التابع لميلة رفقة صالح بن دهيلي، صالح بن فرية، السعيد بن زيان والسعيد بن طوبال، وقد أُلحق المكان بالمنطقة الثالثة بعد التقسيم الجديد وعند عودة عميروش من مهمة تونس وجدني هناك وجدد اقتراحه بأخذي معه ورغم رفضي حولني معه بحكم منصبه كمراقب على الولايات، وقد تركت ورائي بشير برغود وعبد الرحمان بلهوى في شدة التأثر من الفراق. وعند تنقلي مع عميروش وجدت مجموعة أخرى مشكلة من 18 طالبا وقد أشرفنا على وضع مجلة وإعداد نشرية داخلية بأمر من قائد الناحية الثالثة ناصري محمدي السعيد. -ماهي الصورة التي تركها عميروش آيت حمودة راسخة في ذهنك ؟ *أشهد له أنه كان رجلا يحب اللغة العربية، كما أفاخر كوني الوحيد من زملائه الذي شاهد والدته بمنطقة القبائل وهي تجمع الحطب حافية القدمين. -كلمة أخيرة ! * أقول إن مستقبل الجزائر لشبابها وعلى الشباب الإيمان بنفسه وتضحيات أجداده وعدم التفريط ولو في حفنة من تراب هذا الوطن، فنحن قمنا بما نستطيع أن نقوم به والمهم أننا حققنا الحرية التي لا تقدر بثمن.