بقلم: موسى رابح موايسي إن أفكار [مالك بن نبي] في الفكر الإنساني والحضاري قد لقيت صدى كبير عند كثير من عمالقة الفكر الإسلامي وغيرهم. حيث درس [مالك بن نبي] كل المذاهب الدينية والفلسفية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية. ولكنه لم يتأثر بمذهب من تلك المذاهب ولم يخضع لواحد منها ولم يكن تابعا على الإطلاق حتى لايكون طرفا في نزاع أصحاب التكتلات الحزبية والمذهبية. وحتى لايكون محرضا لجهة على أخرى أويكون مستغلا من طرف جهة من الجهات وهوعلى حسن نية كما وقع لكثير من المفكرين ذوي النوايا الطيبة ولكنهم يجهلون قضية الصراع الفكري كما عبر عن ذلك هو نفسه. كما لم يكن منتميا لحزب من الأحزاب سواء ذات إتجاه ديني أو أحزاب سياسية ذات توجه ثوري. وقد أستطاع بذكائه الوقاد وحساسيته المرهفة أن يشيد مدرسة خاصة به أهتم فيها بقضايا فكرية متنوعة قام بتنظيمها حول محور رئيسي وهو (مشكلة الحضارة). عالج فيها قضايا كثيرة شكلت المحور الرئيسي لفلسفته. وهي المشاكل التي ظلت تتخبط فيها أمتنا العربية والإسلامية دهرا من الزمن إستعصت على المفكرين البسطاء. حتى جاء العملاق [مالك بن نبي] رحمه الله. حيث كشف عنها الداء ووصف لها الدواء. ومعرفة الداء أبلغ من وصف الدواء. إذا كان وصفنا للدواء دون المعرفة الجيدة للداء. نكون بفعلنا هذا قد زدنا في إطالة عمر داء المريض وزدنا لأوجاعه أوجاعا أخرى هو في غنى عنها. لذلك قيل: معرفة الداء تساوي نصف الدواء. وهي المسألة المحورية التي تعني فيما تعني الوعي بالذات ومواجهة خطر الذوبان في ذات الآخر والإضمحلال والتلاشي.. لقد كان [مالك بن نبي] فيلسوفا إنسانيا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى ومتصوفا ليس بدعيا ولكنه سنيا في حياته الخاصة والعامة على منهج (السلف الصالح) أهل السنة والجماعة الملتزمين (بالكتاب والسنة) وهما القرآن الكريم وسنة الرسول (صلى الله عليه وسلم). كما قال إبن باديس رحمه الله: عقيدتنا تستند على مرجعية (عقيدة الأشعري وفقه الإمام مالك وطريقة الجنيد السالك). وقد قال [مالك بن نبي] نفسه: أن الشخصية الوحيدة التي تأثر بها في حياته الفكرية والنضالية وأتخذها قدوة له في تطلعاته وتأملاته وقد جسدها في سلوكه ومعاملاته. هي شخصية: (محمد صلى الله عليه وسلم). وقد شهد على صحة هذا الكلام الطيب والإعتراف الجميل. أحد أصدقائه وهو الإستاذ (صالح سعيد) الذي لازمه مدة طويلة من الزمن بأنه يمثل في العهد الحاضرالمسلم الكامل المتبع للخطة المحمدية. وهو نموذج المسلم المثالي في تصرفاته وسلوكاته ومعاملاته مع غيره من الأقارب والأباعد في كل حياته العامة والخاصة. ولذلك أحبه كل من عرفه أو سمع به من قريب أو من بعيد. ولاسيما المفكرين الصادقين وكرهه المنافقون أعداء الدين وعملاء الصهيونية الماسونية.. لقد كان [مالك بن نبي] رائعا في فكره وهو يجادل أطروحات الغرب ومغالطاتهم حول الفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية. وكان أكثر من رائع وهو يعرض المقومات العلمية والفكرية والإنسانية للحضارة الإسلامية مستندا الى أوثق المصادر والى شهادات الأعداء قبل الأصدقاء في إنسانية الحضارة الإسلامية وسبقها وأصالتها.. إن المتأمل في تراث [مالك بن نبي] الفكري والعلمي لايخطيء إذا قال أنه صاحب منهجية علمية مميزة في دقتها تمثل مدرسة فكرية قائمة بذاتها. تجعله دائما في طليعة العمالقة شامخا وتجعل فكره باقيا مابقت السماء سماء والأرض أرضا.. لقد أمتاز [مالك بن نبي] عن أقرانه بنظرته الشمولية لما يدور حول العالم باعتباره مهندسا مكنته دراسته الهندسية الدقيقة القائمة على الدقة وضبط النفس للتركيز في الأمور الفيزيائية والرياضية ذات المسائل المعقدة الصعبة التي تأثرعلى الدماغ أحيانا وتوتر الأعصاب أن يقسم العالم بعد المجهود الجبار الذي قام به في الدراسة والتحليل في هذا المجال الذي يشمل الصراعات المتطاحنة بين تكتلات القوى الإستكبارية المتغولة من أصحاب النفوذ والإستحواذ على ثروات الأمم والشعوب الضعيفة التي مازالت تئن تحت ضربات الفاقة والإملاق الى قسمين: عالم الكبار وعالم الصغار. فعالم الكبار يتمثل في خط يمتد على محور (واشنطنموسكو). وعالم الصغار يتمثل في خط يمتد على محور (طانجا جاكارتا). وقد طالب الكبار أن يكونوا في مستوى الإنسانية. كما طالب الصغار أن يكونوا في مستوى الحضارة. ليكون التقارب والتواصل بين الأثنين معا في إطار التعاون شمال جنوب. وفي إطار حوار الحضارات بين المسلمين والغربيين. ولكن هذا المطلب لم يلق رواجا بل لقي معارضة شديدة من قبل القوى المتغطرسة المتمثلة في الصهيونية العالمية المدعمة من طرف أمريكا وحلفائها. وهم يعملون على معارضة ورفض كل ما من شأنه أن يسوي بين شعوب العالم المحبة للسلام ويقارب فيما بينهم في إطار القوانين الدولية التي تعمل على إزالة التفرقة بين الشعوب ومحاربة الميز العنصري والسعي لإيجاد حلا ناجعا لتسوية الخلافات ومعالجة مشاكلها بنفسها بواسطة القوانين التي تطالب الأطراف المتصارعة بالتعاون الأخوي والوحدوي وفق الأعراف الإنسانية بين الأمم ضمن مشروع الوحدة الإنسانية الرافضة للعنف والداعية للحوار البناء من أجل إيجاد حلا في أسرع وقت لتسوية جميع الخلافات المتنازع عليها من أجل التعايش السلمي.. فالصهيونية العالمية تعمل ضد هذا المبدأ وتسعى لتحطيم كل ما من شأنه أن يقرب يين المتصارعين في إطار سلمي وتسوية مشاكلهم بالتي هي أحسن في إطار القانون. فهم يريدونها بالتي هي أخشن حتى يبقى الصراع والتطاحن بين الشعوب قائما ومستمرا دون توقف. ومادام الحرب قائمة بين الشعوب والأمم. فبالنسبة لهم السلام الذي يبحثون عليه. لذلك هم يبذلون كل ما في وسعهم من الوسائل المادية والمعنوية وما فيها من المكر والخبث والدهاء لأجل معارضة ورفض أو تعطيل كل مشروع يسعى الى التسوية بين الناس للعمل على محو أثره جملة وتفصيلا وإزالته من الوجود كلية.. هذه هي الحقيقة عرفها من عرفها وجهلها من جهلها.. ولكن عندما يموت الضمير في الإنسان وتموت الأخلاق يصير كل شيء ممكن !.. إن أي طرح من هذا القبيل يعتبر عمل عدواني مضاد يهدد حياتهم وكيانهم. بل يرونه على غرار إعلان الحرب ضد مصالحهم لذلك فإن أي عمل إنساني يدعو الى الوحدة أو يدعو للتقارب بين الشعوب كما ذكرت فهو بالنسبة لهم بمثابة إعلان الحرب ضدهم. لأنهم يرون أن مصالحهم مهددة بالخطر. وأي عمل مثل هذا يشق عليهم ولايستقيم مع سياستهم الإستراتيجية التي تعمل على المدى البعيد لإستغلال الضعفاء والإستحواذ على أرزاقهم وثرواتهم بأبشع أنواع الإستغلال والمكر والعمل على تحطيم كل ما من شأنه أن يرفع من قيمة إقتصادهم. أو يجعلهم يسيرون في طريق النمو تدريجيا وبخطى وئيدة ثابتة. فيمنعونهم بشتى الوسائل والطرق الممكنة ويخربون لهم كل ماشيدوه من بناءات تحتية وأسس قاعدية ليقوم عليها أي بناء نافع ويجعلون البلاد قاعا صفصفا خالية على عروشها. وهذا الفعل الشنيع في غالب الأحيان يتم بالتواطوء مع عملائهم من الداخل وهم أشخاص معينون ومكلفون للقيام بمهمة التخريب القذرة. فأي عمل نافع ومفيد يرونه منافسا لهم. بل يرونه خطرا يهدد سياستهم الرامية الى التغول على الضعفاء وإحتواء العالم والسيطرة عليه للإستحواذ على ثرواته الطبيعية وقهر شعوبه الضعيفة لتزداد فقرا الى فقر بواسطة وضع اليد على ثروات تلك الشعوب والتحكم فيها وفق سياستهم الهادفة الى إبعاد الآخرين من ساحتهم والعمل على تهميشهم وإفقارهم وإبعادهم من الدائرة السياسية التي يعملون فيها ثم يعملون على زعزة إستقرارهم بواسطة إثارة نعرات جهوية وعرقية أو دينية ومذهبية. لتقوم بينهم حروب إما داخلية وإما خارجية. حتى لاتقوم لهم قائمة تذكر ولا كلمة تنشر. ليكونوا دائما وأبدا مجرد زبائن مفضلين لأنهم لايرفضون شيئا من خردواتهم وهي منتوجات معاملهم الصناعية الفاقدة لصلاحيتها بالنسبة لجميع الأشياء بما فيها الأدوية والمواد الغذائية.. هذه هي المشاكل التي ظل [مالك بن نبي] ينادي بشأنها ويصدع بأعلى صوته منبها إليها ومحذرا من مخاطرها. ولكن لامستمع لما كان ينادي به. لأن الأذان بها صمم والسبب في ذلك أن في البيت حرامي على حد التعبيرالمصرية بتواطوء من أهل الدار !.. هذه هي المناسبة الملائمة التي من شأنها أن تقودنا الى إعادة النظر في حساباتنا التي كانت مبنية على تخمين أعتباطي تنقسه الجدية ولم تكن مؤسسة على تدبير علمي وعقلاني. حيث كانت الصفة الغالبة على حياتنا الإجتماعية هي روح الإتكالية السلبية وهي الخضوع لسياسة الأمر الواقع التي هي سياسة المتخاذلين في كل زمان ومكان. وهي السياسة التي كان يسميها أحد المفكرين الجزائريين رحمه الله الفلسفة التقاعدية التي جعلتنا ندفع ضريبة موجعة من دمنا وأرواحنا. فهؤلاء المتخاذلين أصحاب الثواني الأخيرة الذين تسربوا في حين غفلة من أهل الأمر والنهي وسط الصفوف وقدموا أنفسهم على أنهم أصحاب العقد والحل. وقد تم ذلك في غياب أولياء الأمر الشرعيين الذين كانوا منشغلين بلم شعثهم وتهيئة أنفسهم. فهؤلاء كانوا يترقبون من بعيد ما ستسفر عنه الأحداث ليضمنوا لأنفسهم حق الرجعة للإستلاء على المكانة اللائقة بدون أن يقدموا أي ثمن حتى اذا جاء الوعد الحق أنضموا الى الركب وتظاهروا بالحماس وصاروا بين عشية وضحاها هم أهلها الشرعيون ولا يقفون عند هذا الحد بل صاروا هم الذين يشفعون في أصحاب الحق الشرعي. وصار في حينها الدخيل هو الأصيل والأصيل تحول الى دخيل منبوذ !.. يتبع..