قانون معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي.. التعديل يهدف إلى الانخراط في المسعى الدولي للتعاون القضائي    الجزائر- السعودية : بحث سبل توطيد التعاون الأمني الثنائي    غليزان.. توقع إنتاج قرابة 2.2 مليون قنطار من الطماطم الصناعية    المشيخة العامة للصلح في إفريقيا : إشادة بمواقف الثابتة للجزائر في نصرة القضايا العادلة    انطلاق فترة تقديم طلبات النقل للأساتذة والمديرين    تيبازة : الأمن الوطني يتدعم بهياكل أمنية جديدة    ربيقة يشرف على افتتاح ملتقى وطني    نستهدف استقطاب 4 ملايين سائح    اتفاقية بين "سونلغاز" و"بريد الجزائر" للتسديد الإلكتروني لفواتير الكهرباء    عقد اتفاقية "قبل نهاية يوليو الحالي" مع البنوك لمنح قروض للفلاحين لإنجاز غرف التبريد    المكونات الثقافية للجزائر عامل هام في الترويج السياحي    المستوطنون يتوحّشون في الضفة    لماذا يبدو ترامب ضعيفا أمام بوتين؟    استنكار حقوقي وسياسي واسع    الصفقات الأغلى في إنجلترا..    الجزائر تستضيف الألعاب المدرسية الإفريقية الاولى من 26 يوليو إلى 5 أغسطس 2025    وزارة الصحة تحيي اليوم العالمي للسكان    زيارات ميدانية عبر الولايات السياحية    ضبط قنطار الكيف مصدره المغرب    شايب: الجزائر فاعل مهم إقليمياً ودولياً    لا حضارة دون نخب حكيمة تجيد البناء الجماعي الجزء الثاني    شرطان لا يصح الإيمان إلا بهما    وضع حجر أساس مشروع إنجاز وحدة لإنتاج المادة الأولية لصناعة الأدوية المضادة للسرطان بسطيف    الصحراء الغربية: الابتزاز الذي يقوم به المغرب دليل على فشله في تكريس سياسة الأمر الواقع    كرة القدم: مشاركة 25 مترشحا في التكوين الخاص للحصول على شهادة التدريب "كاف - أ"    تلمسان: السيد مراد يشدد على ضرورة رفع مستوى اليقظة لحماية الثروة الغابية من الحرائق    لا خوف على "و ديعة الشهداء" في عهد "الجزائر المنتصرة    موجة حر على العديد من ولايات الوطن    العرض الأولي لفيلم "دنيا" بالجزائر العاصمة    يشارك في أشغال البرلمان الإفريقي بجنوب إفريقيا    ارتفاع حصيلة ضحايا العدوان الصهيوني    المهرجان الثقافي الدولي للرقص الشعبي بسيدي بلعباس: تواصل السهرات مع إقبال جماهيري غفير    رفح.. بوابة الجحيم القادمة؟    الاستثمارات في الصحراء الغربية تدعم انتهاك المغرب للقانون الدولي    ندوة للصحفيين والإعلاميين حول تقنية الجيل الخامس    استشهاد 76 فلسطينيا في غارات للاحتلال على قطاع غزّة    تتويج المولودية    حلول مستعجلة لمشاكل النقل والمياه    مساع حثيثة لتطوير الزراعات الزيتية وتجربة أولى لإنتاج "الصوجا"    مشروعي إنشاء منصة رقمية للتحكم في المياه الجوفية ببسكرة    المدرب البوسني روسمير سفيكو يلتحق بشباب قسنطينة    موكوينا لقيادة العارضة الفنية ل"العميد"    وفد "الكاف" ينهي تفتيش مرافق البلدان المستضيفة    ملتقى فكري حول مسرحية الممثل الواحد في نوفمبر    توثيق وإعلام لحفظ ذاكرة الملحون    سهرة ثالثة تنبض بالبهجة    لجنة تفتيش من الداخلية بوهران    المنتخبون ينتفضون لتغيير الوضع القائم    اختتام المرحلة النهائية بوهران    المسابقة الوطنية الكبرى للقفز على الحواجز نجمتين وثلاث نجوم من 16 إلى 19 يوليو بوهران    فضائل ذهبية للحياء    تلمسان ستصبح قطباً صحّياً جهوياً بامتيازّ    نجاح موسم الحجّ بفضل الأداء الجماعي المتميّز    وزير الصحة: تلمسان على أبواب التحول إلى قطب صحي جهوي بامتياز    تكريم وطني للطلبة المتفوقين في معاهد التكوين شبه الطبي بتلمسان تحت إشراف وزير الصحة    من اندر الاسماء العربية    هذا نصاب الزكاة بالجزائر    جامع الجزائر : ندوة علميّة تاريخيّة حول دروس عاشوراء وذكرى الاستقلال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لا حضارة دون نخب حكيمة تجيد البناء الجماعي الجزء الثاني
نشر في أخبار اليوم يوم 14 - 07 - 2025


مراصد
إعداد: جمال بوزيان
الجزء الثاني
إرهاصات الحركات الثقافية..
لا حضارة دون نخب حكيمة تجيد البناء الجماعي
بين الفكر والفكر الآخر بين الإبداع والإبداع الآخر بين الرأي والرأي الآخر يتباين المثقفون مهمة تكن صبغتهم وذاك طبيعي وفيه من السعة ما يشمل الجميع.. لكن التقوقع بكراهية مقيتة وإقصاء متعمد دون وجه حق من أي مثقف تجاه أي مثقف سواء بين فئات المثقفين أو بين المثقفين والمجتمع أو بين المثقفين والسلطات الحاكمة في أي بلد.. عقبات تواجه تطور الإبداع عموما وتعزز الفئوية المذمومة.
سألنا بعض المثقفين:
هل توجد مشكلات بين المثقفين استعصت على الحل وتركت آثارا سلبية وربما صارت أزمات وأخطارا؟. وألا نريد بناء جسور متينة بين النخبة المثقفة الصفوة بمعناها الواسع لا الضيق؟ وألا يمكن مقاومة تلك الصراعات الوهمية بينهم؟ وإلى متى تظل الخلافات لا سيما المتعمدة أحيانا كثيرة إلى تصنيف المثقفين تصنيفا لا يخدم الثقافة والمعرفة والحضارة؟ وألا نريد من أهل الفكر والتاريخ والأدب والثقافة والفن صفاء بعيدا كل البعد عن الحزازات والحساسيات المؤثرة سلبا عن علاقاتهم ببعض وعن حركة المجتمع وبناء الأمة بما يناسب الحضارة العالمية التي تهتم بتعليم الإنسان وحسن تدريبه وجودة تكوينه؟ وما الحلول الواقعية والمنطقية والعملية بين خلافات المثقفين التي تظهر للعلن أو غيرها من الصراعات السرية التي يحتضنها الكتمان؟ وماذا تقترح؟.
/////
مقالة أنثروبولوجية وفلسفية لخلافات المثقفين..
بين الهُوية والحكمة
أ.إبراهيم ميزي
يُعدّ المثقف فاعلًا محوريًا في تشكيل وعي المجتمعات وتوجيه مساراتها الحضارية. لكنّ المفارقة المؤلمة تكمن في أن التاريخ الثقافي قديمًا وحديثًا لا يخلو من صراعات مريرة بين من يُفترض أنهم دعاة التنوير. هذه الخلافات تتجاوز الاختلاف المعرفي المشروع لتنزلق مع أحيانًا إلى حروب ناعمة تغذيها النرجسية والإقصاء والبحث عن الشرعية الرمزية.
أنثروبولوجيًا لا يعيش المثقف في فراغ نظري بل في وسط تتشابك فيه الهويات الدينية الاجتماعية والنفسية. و الخلاف بينه وبين غيره كثيرًا ما يكون تمظهرًا لصراع على الرمزية والهيمنة لا على الحقيقة. فتُنشأ قبائل فكرية تُقصي كل من لا يشبهها وتدّعي احتكار الفضاء الثقافي.
في ضوء الرؤية الدينية يتضح أن غياب التزكية الداخلية لدى بعض النخب يُحوّل المعرفة من نور إلى أداة للتمييز والغرور. الآية الكريمة: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ لا تُفهم إلا ضمن التواضع لا التفاخر. ويؤكد الغزالي أنّ العلم الحقيقي لا ينفصل عن الخشية لأن ما خلا من الأخلاق أصبح وبالًا على صاحبه ومحيطه.
أما في الواقع الثقافي فيرصد علم الاجتماع ظواهر متكررة تُعيق التثاقف: كالتصنيف المغلق للمثقفين و الشللية التي تُغلق باب الحوار و الاغتيال الرمزي عبر التجاهل أو التشويه. كلها تجليات لما سماه بيير بورديو صراع رؤوس الأموال الرمزية حيث تختلط الرغبة في قول الحقيقة برغبة الظهور.
هنا يمكن للفلسفة أن تقدّم حلولًا علاجية. فهايدغر يرى الحقيقة ك انكشاف متعددة الأوجه ولا أحد يحتكرها. ودريدا يدعو إلى اعتبار الاختلاف لا التنافي وغادامير إلى حوار بلا قوالب وأكسل هونيث إلى الاعتراف المتبادل بدل الغلبة.
إن الخروج من هذه الأزمة يستدعي حزمة من الإجراءات:
إحياء ثقافة النقد الذاتي بوصفها تطهيرًا لا جلدًا للذات.
إنشاء فضاءات فكرية تتجاوز التصنيفات الأيديولوجية.
دعم الإنتاج المشترك بين مثقفين من خلفيات متباينة.
ربط العلم بالحكمة والضمير.
تطوير إعلام ثقافي نزيه يُعلي الفكرة لا الفرد.
في النهاية نحن لا نحتاج إلى المزيد من الأصوات المرتفعة بل إلى مثقفين حكماء يرون في الاختلاف فرصة للتكامل لا سببا للصدام. وحده المثقف المتواضع العارف بحدوده هو القادر على تحويل الجدل من مأزق إلى بصيرة.
/////
للارتقاء بالفعل الثقافي في الجزائر
ضرورة إنشاء حلقات ثقافية تفاعلية
أ.د.سامية غشّير
من أسباب تراجع الفعل الثّقافي في أي وطن نشوء الصّراعات والمشاحنات بين المفكّرين وصُنّاع الثّقافة وتبادل الشّتائم والاتّهامات بصفة مُباشرة أو عبر مواقع التّواصل الاجتماعيّ وهذت ما أدّى إلى تراجع الأداء الثّقافي عند المبدعين والمثقفين الّذين ركّزوا على التّراشق بالكلام أو الإساءة النّفسيّة أكثر من انشغالهم بإنجاز أعمال أدبيّة ترتقي بالثّقافة والأدب وتُحقّق صدىً كبيرا في المشهد الأدبيّ والإبداعيّ على غرار ما نُشاهده عند المثقفين في الدّول الأجنبيّة والغربيّة الّذين يتصدّرون المشهد الثّقافي بإبداعاتهم الفريدة وحُضورهم الفاعل يؤثّرون في المتلقي ويمتّعون الذّائقة الإبداعيّة للمتلقين.
ومن المشكلات العويصة الّتي تحدث عادة بين المثقفين: الرّغبة في الظّهور وتسيّد المشهد ونيل الحُظوة والاحتفاء في المنابر الأدبيّة والإعلاميّة المختلفة. الغيرة من النّجاح والتفوّق خاصّة إذا حقّق أحد المثقفين نجاحا وتألّقا على الصّعيد العربيّ والعالميّ. دخول أطراف عديدة زادت في إشعال الصّراع بين المثقفين. غياب أخلاقيات التّواصل بين بعض المثقفين عدم حماية المثقفين والمبدعين في الجزائر. تفشّي الرّداءة بشكل كبير في المؤسّسات الثّقافيّة وبروز أشخاص يدّعون الثّقافة والأدب والإبداع وهم لا يتمتّعون بالمقوّمات الفنيّة والإبداعيّة والأخلاق الرّفيعة.
ولكي نبني الأواصر الثقافيّة ونعزّز العلاقات الجيّدة بين المثقفين والمُبدعين والمثقفين في المشهد الثّقافي الجزائريّ يلزم على المثقفين:
- احترام أخلاقيات الزّمالة من خلال احترام خُصوصيات المبدعين والمثقفين.
- السّعي إلى الارتقاء بالثّقافة الجزائريّة والسّعي إلى تكوين صُورة مشرّفة عنها محليّا أو عربيّا أو عالميّا.
- المُشاركة في المسابقات الدّولية المختلفة والمنافسة على أكبر نطاق واسع لحصد الجوائز العالميّة.
- المنافسة الشّريفة بين المبدعين في إطار يكفل حقوقهم ويرتقي بهم.
- ضرورة دعم السّلطة والمؤسّسات الثّقافيّة بما فيها الوزارة ومديريات الثّقافة والمسؤولين للمبدعين والدّفع بهم لتحقيق إنجازات ومشاريع وابتكارات أكثر.
- الدّعم الماديّ والمعنويّ للمبدعين الجزائريّ وسنّ قوانين تحفظ حُقوقهم ومُمتلكاتهم الإبداعيّة والفنيّة المختلفة.
- عدم إقصاء أي مبدع ما مهما تكن الصّراعات والخلافات.
- إنشاء حلقات ونواد ومقاه ثقافيّة تفاعليّة حواريّة يلتقي فيها المثقفون والمبدعون لتبادل الأفكار والآراء والانشغالات المتعلّقة بالقطاع الثّقافي وتقدّم
البدائل والحُلول النّاجعة لحلّ مشاكله خاصّة عراقيل القطاع والحَساسيات الموجودة بين مختلف المثقفين.
وفي نهاية المطاف إنّ الثّقافة الحقّة ترتقي بجهود وأفكار المبدعين وطاقاتهم الخلّاقة ومواهبهم وسعيهم إلى نقلها إلى مدارات عديدة تقدّم صورة مشرّفة مشرقة عن الثّقافة المحليّة.
/////
ثقافة مشطورة بين الحواجز والجسور..
حين تخون النخبة فكرها
أ.سعاد عكوشي
في زمن تدفق المعلومات وسرعة الوصول لم يعد من الصعب أن تكون مثقفا لكن أن تكون مثقفا حقيقيا فتلك هي القصة..
لا يكاد يخلو المشهد الثقافي في أي مجتمع من الخلافات والتباينات وهذا في جوهره أمر صحي بل ومطلوب إذ أنّ تنوّع الرؤى واختلاف الاتجاهات هو ما يثري الفكر ويعزّز الحوار. غير أن ما نشهده أحيانًا من صراعات بين المثقفين لا يبدو مجرد اختلاف طبيعي بل يتجاوز ذلك إلى حالة من الخصام المعرفي والإقصاء الرمزي وكأن الساحة الثقافية تحوّلت إلى ميدان مواجهة لا إلى فضاء تفاعل وتكامل أكثر الخلافات والخصومات العلمية والفكرية لا ترجع إلى اختلافات العقول بل إلى اختلالات القلوب فأكثر المسائل الخلافية قابلة للحوار والترجيح والأخذ والرد. لكن سوءَ الأدب ظلامية القلب يوهِمان كل طرف بأن الخلافيّ اتفاقيٌّ وأن المخالف عدوّ.
أزمة بعض المثقفين أنه يُفكر في مكتسبات مواقفه وتصرفاته أكثر من تفكيره في صحتها وخطئها المشكلة لا تكمن في وجود خلافات فهذه سُنّة الحياة والفكر وإنما في طبيعة تلك الخلافات والكيفية التي تُدار بها. فبدل أن يكون الحوار هو الوسيلة كثيرًا ما يُستبدل بالتجريح وبدل أن يكون النقد منطلقًا للفهم يتحوّل إلى وسيلة للوصم. تتكون عندها بيئة مشحونة بالتحفّظات والحساسيات ويسيطر فيها الصمت المتبادل أو الإلغاء غير المُعلن ما يؤدي إلى تآكل الثقة بين المثقفين وتفتت النخبة الثقافية بدل تماسكها.
وفي مجتمعاتنا كثيرًا ما نُصنّف المثقفين كما نُصنّف السلع: هذا مثقف ديني وذاك علماني هذا تابع للسلطة وذاك من المعارضة. هذا يميني والآخر يساري.. نُحاكم الأشخاص قبل أفكارهم ونُقيم الجدران بين العقول بدل أن نبني الجسور بينها.
عند ما نحاصر المثقف بتصنيفات ضيقة فإننا نُطفئ صوته وندفعه إما إلى الصمت أو إلى الانحياز المُجبر أو إلى الردّ بهجوم مضاد لا يفيد أحدًا. والنتيجة؟ مجتمع بلا حوار ونخبة منقسمة وثقافة مُنهكة.
ومثال على ذلك مالك بن نبي أحد كبار المفكرين الجزائريين في القرن العشرين بقي سنوات طويلة مهمّشًا في بلاده بسبب تصنيفه ضمن تيار فكري معيّن. لم يُحتفَ به إلا بعد عقود رغم أن أفكاره كانت تبحث عن خلاص حضاري شامل.
الثقافة الحقيقية لا تحتاج إلى حواجز نفسية أو أيديولوجية بل إلى جسور من التفاهم والاحترام والاختلاف الناضج. الثقافة تزدهر حين نختلف بعقول مفتوحة وقلوب مستعدة للاستماع في مثل هذا المناخ تُصبح الثقافة أداة فرز لا وسيلة وعي. يُصنّف فيها المثقفون بعضهم بعضًا إلى تيارات واتجاهات ودوائر ضيقة.. حتى بات كثير من المثقفين يُقصي المختلف عنه لا لأسباب موضوعية بل لأن حضوره يهدّد موقعه الرمزي أو يربك سرديته التي بناها عن نفسه. وهنا يغيب العقل النقدي وتُغتال حرية الفكر باسم الدفاع عنها.
في الحقيقة تصنيف المثقفين قد يبدو مفيدًا للبعض لأنه ييسر الفهم ويختصر المواقف لكنه في العمق يُفرّق ولا يُجمّع. فبدل أن نقيّم المثقف على أساس أفكاره نُقيّمه بحسب انتمائه أو مظهره أو حتى لهجته.. وكثيرًا ما تحوّلت هذه التصنيفات إلى أدوات إقصاء وتخوين بدل أن تكون وسيلة لفهم تنوّع الأفكار. نُقصي من نختلف معه ونُقرّب من يشبهنا وننسى أن الثقافة لا تزدهر إلا بالاختلاف والحوار.
لا أتحدث عن المثقف المأجور الذي لا يحمل فكرًا حرًا ولا موقفًا شريفًا بل لسانًا يُؤجَّر وقلمًا يُوجَّه حسب الثمن هو أخطر من الجاهل لأنه يتحدث بلغة المعرفة لكنه يُضلّل بها.
لا يبحث عن الحقيقة بل عن منبر أو مكسب أو تقرّب من أصحاب النفوذ. يُبرّر الفساد ويُزيّن الاستبداد ويهاجم الشرفاء خطر هذا المثقف أنه يخدع الناس باسم الثقافة ويهدم القيم من داخلها. يزرع الشك بدل الوعي.. والمجتمع الذي يُصفّق للمثقف المأجور يُخدَر وعيه ببطء.
إننا اليوم في حاجة إلى مثقفين أحرار لا يقفون خلف لافتات مسبقة ولا ينتظرون تصفيق جمهور معيّن. نحتاج إلى عقول ناقدة تنير الطريق لا إلى بطاقات تعريف تُعلّق على صدورهم.
فليكن المثقف من يكون المهم أن يقول الحق ويدافع عن الحرية وينهض بالمجتمعات.
ولا تقف آثار هذه الانقسامات عند حدود النخب بل تمتد إلى المجتمع بأسره. فحين ينشغل المثقفون بصراعاتهم يغيب تأثيرهم الأوسع وتضعف قدرتهم على قيادة الحوار العام أو التأثير في السياسات الثقافية والتعليمية. كما أن هذه الانقسامات تعزّز حالة العزوف الشعبي عن الثقافة وتُسهم في تجذير الفجوة بين النخبة والمجتمع لأن من يُفترض أنهم صوت الضمير يظهرون كمنشغلين بذواتهم أكثر من انشغالهم بقضايا الناس.
ويزداد الأمر سوءًا حين تُسيّس هذه الخلافات أو تُستغل في صراعات النفوذ أو المناصب فيتحوّل المثقف إلى أداة في يد السلطة أو تيار أيديولوجي ما بدل أن يكون ضميرًا ناقدًا لها. كما أن التنافس على الحضور الإعلامي أو التأثير الرقمي في عصر المنصات قد زاد من النزعة الفردية لدى بعض المثقفين بحيث صار بعضهم يفضل النجومية على العمل المشترك و الإعجابات على الفكرة العميقة.
لكن ورغم كل هذا يظل الأمل ممكنًا ومفتوحًا. فما يزال في كل ساحة ثقافية مثقفون يؤمنون بالحوار يبتعدون عن الشخصنة ويؤمنون بأن الاختلاف شرط للنضج لا عائق له. هؤلاء يحتاجون إلى فضاءات تحتضنهم وإلى إعلام مسؤول لا يؤجج الخلاف بل يُنمّي روح التساؤل المشترك.
إن استعادة الثقة بين المثقفين تبدأ من الاعتراف بالآخر المختلف لا نفيه ومن إيمان حقيقي بأن الفكر لا ينهض إلا بالجمع لا بالتفريق وبأن الثقافة مشروع جماعي لا حلبة فردية. نحتاج إلى تعليم جديد يغرس في الأجيال روح الرأي المخالف ليس خطرًا وأن السؤال لا يقل أهمية عن الجواب وأن المثقف لا يُعرَّف فقط بكمية معرفته بل أيضًا بأخلاقيته في التعامل مع المعرفة ومع غيره.
/////
بين المثقف والمثقف الآخر..
أزمة النخبة الثقافية وصراع المعنى
أ.خديجة بن عادل
في كل مجتمع تُعد النخبة المثقفة أحد محركات التغيير وركائز الوعي وقاطرة التنوير. غير أن هذه النخبة التي يُفترض أن تكون جسرا للحوار وبناء التصورات كثيرًا ما تقع في فخ الانقسام الداخلي والصراعات المزمنة فتُضعف رسالتها وتُقلل من تأثيرها وتُفاقم هشاشة المشهد الثقافي العام.
فهل الخلافات بين المثقفين طبيعية؟ أم أنها تجاوزت حدود الاختلاف المشروع إلى التناحر والإقصاء؟ وما الذي يحوّل الفكر إلى معركة لا منتصر فيها؟ ثم ما السبيل لإعادة اللحمة إلى الصف الثقافي وإعادة الاعتبار لدور المثقف في زمن مضطرب؟.
أولا: طبيعة الخلافات بين المثقفين
الخلافات في جوهرها ليست بالضرورة سلبية فالتنوع الفكري واختلاف المرجعيات والرؤى يُثري الساحة ويولّد أفكارًا جديدة. لكن حين يتحول هذا التنوع إلى صراع بين الذاتيات وتتحوّل الأفكار إلى هراوات للتجريح والتصنيف والإقصاء تنتفي الفائدة ويولد ما يمكن تسميته ب الفوضى النخبوية .
تشمل هذه الخلافات:
خلافات أيديولوجية: يساري في مواجهة ليبرالي علماني في مواجهة ديني وهكذا...
خلافات تكوينية ومؤسساتية: مثقف أكاديمي مقابل مثقف حر أو إعلامي مقابل باحث.
خلافات شخصية مقنعة بخلافات فكرية: حيث يتم تغليف مشكلات الغيرة والتنافس في ثوب الفكر والنقد.
خلافات إنتاجية: من الأجدر بالمنبر؟ من يملك شرعية تمثيل المشهد الثقافي؟.
ثانيًا: انعكاسات هذه الخلافات على المجتمع
غياب المشروع الثقافي الجماعي: تُهدر الجهود في الجدل البيزنطي بدلًا من التوجه لبناء وعي مشترك أو إنتاج معرفي يخدم الأمة.
تضاؤل ثقة المجتمع بالمثقفين: حيث يُنظر إليهم كمجموعة نُخب معزولة تتصارع فيما بينها بدل تقديم حلول.
استغلال السلطة لهذه الانقسامات: السلطات السياسية تجد في هذه التفرقة غطاءً لتهميش دور المثقف واستبداله بمروّجين أو مهرّجين.
سوء تمثيل الثقافة عالميًا: فغياب الوحدة بين المفكرين والمبدعين يؤثر على تموقع الفكر العربي في المحافل الدولية.
ثالثًا: المثقف وسؤال الأنا
في كثير من الحالات يُهزم المثقف أمام ذاته ويُصبح أسير الأنا المتضخمة. بدلًا من أن يبحث عن جدوى أفكاره في تأثيرها المجتمعي يركّز على مكانته حضوره صدى اسمه عدد المرات التي يُستشهد بها. هذا التمركز حول الذات يغذّي النزعة الإقصائية ويمنع الحوار ويحوّل الفكر إلى حلبة تصفية حسابات.
رابعًا: ما العمل؟
ترسيخ ثقافة الحوار داخل النخبة: من خلال تنظيم منتديات ومنصات فكرية تحترم الاختلاف وتؤمن بأن التنوع لا يعني الخصومة.
تبني أخلاقيات النقد البناء: يجب إعادة الاعتبار لمفهوم النقد الموضوعي الذي لا يستهدف الأشخاص بل يناقش الأفكار باحترام وعمق.
الابتعاد عن التبعية السياسية أو الإيديولوجية العمياء: فالمثقف الذي ينخرط في المعارك الحزبية الضيقة يفقد استقلاليته.
بناء شبكات تواصل ثقافية جديدة: تعتمد على جيل جديد من المثقفين القادرين على تجاوز الحزازات القديمة وتأسيس فضاء حيوي للحوار.
تشجيع مؤسسات ثقافية مستقلة: تكون حاضنة للأفكار لا منابر للتنافس وتؤمن بالعمل الجماعي لا الفردانية.
خامسًا: نحو تجديد دور المثقف
ما نحتاجه اليوم ليس مجرد مفكر أو أديب يملأ الفضاء بمقالاته أو كتبه بل نحتاج إلى مثقف عضوي بالمعنى الغرامشي للكلمة مثقف يُناضل بفكره يُمارس تأثيره على الأرض يُؤمن بالمسؤولية الاجتماعية للثقافة ويُشارك في النقاش العام وهموم الناس.
في الختام:
تبقى الثقافة رئة الأمم والمثقف قلبها النابض. فكلما انشغل هذا القلب بصراعاته اختنقت الأمة وذبل الوعي. لكن الأمل باق ما دامت هناك عقول تؤمن بأن الاختلاف رحمة وأن المثقف الحقيقي لا يُقصي بل يبني. لا يُهمّش بل يُلهم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.