بقلم: إسماعيل الشريف كانوا يسرقون حتى الذكريات حتى تلك اللحظات الصغيرة التي لم يكن لأحد غيرنا أن يعيشها- غسان كنفاني عن رواية عائد الى حيفا. لم يكتفِ الصهاينة بسرقة الأرض بل امتدت أيديهم إلى البساتين والبيوت إلى الأثاث وصور الأجداد المعلّقة على الجدران. لم يتوقفوا عند ذلك فنهبوا التاريخ وطمسوا أسماء القرى واستولوا على الطعام والثقافة والكوفية والدبكة والحنّة. حتى الحكايات الشعبية التي كانت الجدّات يروينها قرب مواقد الحطب سرقوها بل ونسبوا إليهم الوجع والنكبة أيضًا. حتى في أحلك الأنظمة العنصرية وأعتى الديكتاتوريات دموية وفي أبشع حروب الإبادة تبقى هناك حدود مقدّسة لا تُمس منها حرمة الموت والجثث. لكن هذا الكيان البشع لا يعرف حدودًا فهو يسرق حتى جثث الموتى! في عام 2009 اعترف الطبيب الشرعي الصهيوني يهودا هِس بأنه منذ أواخر الثمانينيات وحتى التسعينيات أشرف على انتزاع الأعضاء والجلد من جثامين الشهداء دون تمييز بين طفل وامرأة مدني أو مقاوم ومن دون علم عائلاتهم. كانت الأسر تتسلّم أبناءها وقد سُلبت منهم أعينهم أو قلوبهم وأحيانًا جلودهم. في معهد أبو كبير تُمدَّد الجثث الباردة على الطاولات وتُسلخ منها جلود الأرجل والظهور لتُخزَّن في بنك للجلد تديره المؤسسة العسكرية. تُنقل القرنيات والصمامات والقلوب والعظام إلى مستشفيات إسرائيلية وتُستخدم أيضًا في الأبحاث العلمية. يتم كل ذلك تحت إشراف أطباء عسكريين نزعت من قلوبهم الرحمة ونكثوا بقسم أبقراط فلم يصونوا كرامة الإنسان ولم يعاملوا العدو كالصديق ولا البريء كالمذنب كما أقسموا. لقد انتهكوا كل القيم والشرائع وداست أفعالهم على جميع المواثيق الدولية. كثيرًا ما يُرفض تسليم الجثامين لأن ما تبقّى منها لا يكاد يُذكر فيقدّم الاحتلال عشرات الذرائع لتبرير الرفض. وأحيانًا حين تُسلَّم الجثث توضع في تابوت يُشترط دفنها دون فتح التابوت بعد إجراء عمليات تجميل لإخفاء آثار السطو. فتُدفن الأجساد دون أن تعلم العائلات أن بقايا أحبّتهم قد نُهبت. أن تفقد طفلًا لا قدّر الله يعني أن يموت جزء كبير منك معه. لكن أن تكتشف أنه تحوّل إلى قطع غيار فذلك يُضيف إلى الفقد فقدًا وإلى الموت موتًا. حين تبدأ بالتفكير أن جزءًا من جسده ربما زُرع في جسد مستوطن يسرق الأرض أو جندي يقتل الأطفال أو متحرش وما أكثرهم في ذلك الكيان يتحوّل الموت إلى رعب دائم وقلق لا يهدأ. أول من كشف هذه الفضيحة كان الصحفي السويدي دونالد بوستروم فتعرض فورًا لحملة شيطنة شنّها عملاء الكيان لأن تحقيقه هزّ صورة الاحتلال. ووصفت مؤسساتهم الصحفي بأنه فلسطيني جدًّا ثم سرعان ما اختفى التحقيق من خوادم الإعلام المؤسسي ولم يبقَ له أثر سوى على بعض المواقع التي يتداولها الناشطون وينشرونها. بعد نشر ذلك التحقيق بدأ بعض الأطباء المتورطين في القضية الاعتراف لكن لم يُحاسَب أحد ولم تُنشر تلك الاعترافات في أي من وسائل الإعلام الدولية. لم تُحرّك المنظمات العالمية ساكنًا فكان اعترافًا آخر دُفن مع الجثث المسروقة. ما يرتكبه الاحتلال يتجاوز الشرّ بمعاييره المعروفة وحدوده المفهومة. فهذا كيان لا يكتفي بقتل أصحاب الأرض وإبادتهم بل يمتد إلى نهش أجسادهم وسرقة أعضائهم وتحويلهم إلى مخزون لقطع الغيار. لم يكتفِ بتدنيس الأرض بل دنس الإنسان ذاته فلوّث الجسد كما دنّس التراب.