انتهاء الحرب العالمية الثانية، وعندما شعر الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول أن بعض الأحزاب السياسية لا تريده، استقال من منصبه رغم أنه كان في أوج تألقه السياسي، وعندما ألحّ عليه بعض أعوانه ليعدل عن استقالته لأن فرنسا لا يمكنها الاستغناء عن خدماته، أجابهم بحسم قائلا: إن مقابر مونتمارت تضم رجالا لا يمكن لفرنسا أن تعيش بدونهم. أخبار وقصص وملابسات الاستقالات عند جيراننا في الضفة الأخرى من البحر المتوسط كثيرة ولو قمنا باستقصاء جميع الأمثلة منذ نضجت الحياة الديمقراطية عندهم؛ لوجدنا أنفسنا أمام قائمة طويلة تضم وزراء ومدراء وسياسيين ورؤساء حكومات ومسؤولي أمن، التقوا جميعا على صفة الشجاعة والاعتراف بالخطأ وتحمّل المسؤولية، وجسّدوا سلوكيات أساسية لا غنى عنها للعملية الديمقراطية بأي حال من الأحوال. تذكرتُ الاستقالات والحديث عنها، ونحن في شهر رمضان المبارك، وبعد أن توالى الحديث في الصحف الوطنية عن ذلك التقليد الذي دأب عليه رئيس الجمهورية في هذا الشهر الكريم حيث يقابل وزراءه وجها لوجه ويتباحث معهم، كلٌ على حدة، حول قطاعاتهم ومشاريعهم وإنجازاتهم وإخفاقاتهم وآفاقهم المستقبلية ومدى انسجامهم مع البرنامج الذي كان عماد الحملة الانتخابية للرئيس خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة. ولأن جلسات المساءلة هذه تشهدها أيام هذا الشهر الفضيل؛ فإن لنا أن نتفاءل خيرا بأداء وزرائنا، لأن شحنات الصدق والإيمان وروح المسؤولية ستكون أقوى وأوضح لدى الطاقم الوزاري، وهكذا نتمنى أن يصدق الوزراء مع أنفسهم أولا ثم مع رئيس الجمهورية، ويتحدثوا بالتالي بشجاعة أكثر عن الإخفاقات والمشاكل والعقبات والتقصير البادي للعيان في كثير من القطاعات.. لا لنتغنى بتلك "المثالب" وننسج على منوالها قصائد هجاء في حق هذا الوزير أو ذاك، كما تفعل بعض صحفنا الوطنية، لكن لتكون خطوة نحو أداء أفضل وأقرب إلى مصلحة الوطن والمواطن.. فدون الاعتراف بأخطائنا لن نتقدم إلى الأمام قيد أنملة. في رمضان هذا العام طفت إلى السطح من جديد مأساة الأسعار والمضاربات التي تدور حولها، وتقاذفت عدة جهات المسؤولية كالعادة، وحاولت بعض الإدارات التي تملك الحلّ والعقد في هذا الشأن أن تمسح السكين كاملة في التجار واستغلالهم غير السوي لفرصة رمضان، والحقيقة أنهم يتحملون قسما مهما من أعباء المشكلة، لكن أخطاءهم تظل نتائج لمقدمات ومعطيات صنعها غيرهم من أصحاب القرار الذين يفترض أنهم يشرفون على الأسواق والتجار وما ارتبط بهم. وقبل رمضان وخلاله، وحتى بعده، ما زالت هناك ملفات عالقة ومشاريع ضخمة تقترب أحيانا وتبتعد أحيانا أخرى حتى تصير أشبه بالأحلام، ومنها الطريق السيار وما تحقق منه، وميترو الأنفاق وموعد انطلاق أول قاطراته، والترومواي ومراحل إنجازه، وغيرها من المشاريع الحيوية في مختلف أنحاء الوطن. وقبل رمضان اكتوت الطبقات المحرومة من الشعب بتلك الأرقام التي أوردتها الصحافة الوطنية عن تلك المبالغ الضخمة التي أُنفقت على مهرجانات الرقص والعريي.. الملايين تنطح الملايين.. والعنوان الذين يرمي به المعنيون بالأمر في وجه المعترضين هو الثقافة والمعاصرة والانفتاح. تحديات مضاعفة للوزارات ذات الصلة المباشرة بالمواطن وجيبه، فرمضان والدخول الاجتماعي والعيد المبارك... ثلاث مناسبات مهمة ولا مفرّ منها، لكنها في حاجة إلى دراهم ودنانير، خاصة لتلك العائلات ذات العدد الكبير والدخل المحدود في الوقت ذاته. كما أن الدخول المدرسي يحمل معه كل عام الكثير من الجدل سواء ما تعلق بالمؤسسات التعليمية ومدى جاهزيتها لاستقبال التلاميذ، أو المعلم والأستاذ وحالته المادية والاجتماعية، أو المناهج وما تثيره من جدل بين المعنيين بها مباشرة وهم بين التلاميذ في قاعات الدروس. إن شعبنا على غرار غيره في حاجة ماسة إلى من يخدمه أكثر، والعالم كله يتجه نحو عصر المسؤول الذي ينتخبه الناس ليخدمهم، لتزول تلك الصورة القديمة حيث الحاكم السيد المطلق والرعية المطيعة على طول الخط.. لقد تطور وعي الشعوب المتقدمة وتغلغلت بينها ثقافة الاعتذار والاستقالة من أبسط المستويات إلى أعلاها، وأدركت تلك الشعوب أهمية الشعور بالمسؤولية والاعتراف بالخطأ، وهي بالتالي تحترم المسؤول المستقيل وتقدره، وتحتقر ذلك الذي يحاول استغفالها والالتفاف حول حقوقها الأساسية. عدد من وزرائنا الحاليين، إن لم يكونوا كلهم، شاركوا في الحملة الانتخابية للرئيس عبد العزيز بوتفليقة.. تلك الحملة التي أوصلته إلى عهدة رئاسية ثالثة، وهؤلاء الوزراء تحدثوا عن أن تعديل الدستور جاء أساسا لتعزيز المسار الديمقراطي في البلاد، ونريد من هؤلاء السادة أن يبرهنوا عمليا على ذلك وأن يعزّزوا مسار الديمقراطية عبر ترسيخ ثقافة الاعتذار والاستقالة من المنصب وترك المجال للغير، لتصدّق الأجيال الصاعدة أن التداول متاح وأن الفرصة سانحة أمامها لخدمة الجزائر يوما ما عبر المناصب العليا. نعترف جميعا بحساسية الوضع والمرحلة التي تمرّ به البلاد، وهكذا فرغم المشاكل والإخفاقات التي تعرفها معظم الوزارات فإن الاستقالة الجماعية أمر غير ممكن، وقد تكون غير مقبولة، وعليه لا نريد الكثير منكم معاشر السادة الوزراء.. استقالة واحدة فقط لوجه الله.. تكون لنا مثل الضوء الذي يظهر في نهاية النفق.. استقالة واحدة، يقول صاحبها أو صاحبتها: أخطأت، أخطأت، وهاهي أمانتكم بين أيديكم سلّموها لمن هو أهل لها.. وليكن ذلك الوزير، أو الوزيرة، مرتاح البال تماما، وليثق أنه سيكون محل تقدير من الجميع، بل وسيفوز في أول انتخابات نيابية قادمة، ودون حملة انتخابية سوى لافتة الاستقالة والاعتراف بالخطأ.