روى لي الرئيس الجزائري الراحل هواري بو مدين يوما جانبا من حوار جرى بينه وبين الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر إثر هزيمة يونيو .1967 وكان من بين ما قاله ناصر لبو مدين بكلمات تعبر عن مرارة شديد أنه ليس هناك جندي واحد بين القوات الإسرائيلية ودلتا مصر (وهي المنطقة التي كلف بحمايتها بعد أيام لواء جزائري. ويقول الرئيس الجزائري لنظيره المصري مُطمئنا بأن الجيش الإسرائيلي لن يجرؤ على الدخول إلى منطقة الدلتا ذات الكثافة السكانية العالية لأنه سيغرق فيها، فالإسرائيليون لا يجرؤون على المواجهة المباشرة، وقد كشفهم المولى عز وجل في سورة الحشر وهو يقول: »لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة، أو من وراء جدر، بأسهم بينهم شديد، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، ذلك بأنهم قوم لا يفقهون« (الآية 14 كانت كلمات بو مدين انعكاسا لأسلوب التفكير الجزائري فيما يتعلق بالشأن الفلسطيني وأسلوب التعامل مع العدو الصهيوني، وهو ما كان مختلفا تماما عن أسلوب التفكير على مستوى القيادات العسكرية العربية. كانت القيادة المصرية تجسد نظرة مسؤولها الأول، الذي كان، بحكم تكوينه، عسكريا نظاميا يرى أن المؤهل لمواجهة العدو هو الجيش المحترف، وكان، بحكم رتبته، ضابطا عظيما لا يرى دورا للجموع الشعبية إلا دور الخطوط الخلفية. وكانت القيادة الجزائرية، بحكم تجربتها في مواجهة الاستعمار الفرنسي، ترى أن الحرب الشعبية التي لا تتقيد بالأساليب التقليدية للقتال هي الوسيلة المثلى لهزيمة العدو الإسرائيلي. وكان هذا كله سببا في شنآن كبير بين القيادتين، وإن كان تأثيره على التضامن بينهما محدودا جدا، وهو ما تناوله كثيرون من بينهم الفريق سعد الدين الشاذلي والسيد محمود رياض والأستاذ محمد حسنين هيكل. وواقع الأمر أن تلك لم تكن نظرة جديدة للصراع العربي الإسرائيلي، فقد سبقتها نظرة المجاهدين الفلسطينيين منذ قرار التقسيم الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر ,1947 وسارت على هداها فصائل الإخوان المسلمين ومجموعة المجندين المصريين التي طلبت عطلة بدون مرتب من الجيش للمساهمة مع عبد القادر الحسيني وحسن سلامة والقاوقجي وغيرهم في قتال العصابات الصهيونية، وهي المجموعة التي كانت بقيادة البكباشي (المقدم) أحمد عبد العزيز. وتأكد للجميع بأن دخول الجيش المصري إلى فلسطين في 15 مايو 1948 كان خطأ كبيرا ارتكبه الملك فاروق بتشجيع من عروش عربية كان لكل منها أهداف لم يكن أهمها تحجيم الوجود الصهيوني في فلسطين. وجاءت المواجهة مع العدو الصهيوني في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات لتؤكد بأن التعامل مع شبه جزيرة سيناء كان بعيدا كل البعد عن فهم طبيعة الصراع مع إسرائيل ومتطلباته، وبدلا من تعمير سيناء بتجمعات تشبه تنظيمات زالكيبوتزس تواصل التعامل معها بما جعلها مرتعا لعصابات تهريب المخدرات، وأصبحت في نهاية القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة مجرد ساحة يقوم الجيش المصري فيها بحماية إسرائيل من المهاجرين الأفارقة، وتعلن الصحف المصرية دوريا وبدون خجل أعداد من قتلتهم وهم يتوجهون إلى إسرائيل، وكانت المفارقة المضحكة المبكية أن إسرائيل لم تعلن يوما عن تصديها للباحثين عن اللجوء إليها، ربما لأنهم كانوا يسقطون قبل تخطيهم لحدودها مع سيناء. ولم يدرك كثيرون أن الجيش المصري، وهو، طبقا للحديث المتواتر، خير أجناد الأرض، يكون كما تريد له قيادته، فلم يعد الجيش هو جيش أكتوبر العظيم، ولكنه جيش اتفاقية السلام التي ترجمت نظرة الرئيس أنور السادات إلى حرب أكتوبر بأنها آخر الحروب، وهو خطأ إستراتيجي رهيب، بدأه الرئيس السادات برسالته الشهيرة يوم 7 أكتوبر ,1973 التي أخطر فيها واشنطن، وبالتالي، تل أبيب، بعدم نيته تطوير الوجود المصري على الضفة الشرقية لقناة السويس. وكانت المواجهة بين حزب الله وإسرائيل في العشرية الأولى درسا لم تحاول الجيوش العربية النظامية الاستفادة منه، تماما كمحاولة غزو غزة في نهاية العشرية والعدوان عليها في منتصف العشرية الثانية، ربما لأن التنظيمات العسكرية أصبحت في معظمها أقرب إلى المهنة والارتزاق منها إلى النضال ومواجهة العدوّ. وحقيقي أن الثمن الذي دفعه الشعب الفلسطيني كان باهظا، لكن إسرائيل اضطرت إلى سحب قواتها البرية، بعد أن أثبتت للعالم أجمع أنها فشلت في القضاء على المقاتلين الفلسطينيين الذي كبدوها خسائر بشرية لم تكن تتوقعها في جنودها، في حين أنها كشفت جبنها وخستها في استهداف المدنيين من كل الأعمار، بل ودور العبادة والمستشفيات والتجمعات السكنية، وبما لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يقدم كأضرار جانبية لم يمكن تفاديها، لأن حجم الدمار كان هائلا ووحشيا بكل المقاييس. هكذا يتأكد أن أسلوب مواجهة إسرائيل بالجيوش النظامية كان خاطئا منذ البداية، وهو ما يعني أن أسلوب المقاومة الشعبية هو الأسلوب الأمثل لتحرير الأرض، برغم كلفته البشرية العالية. لكن هذا هو ثمن الحرية. وبالتالي فإن من حق المواطن العربي البسيط أن يتصور وجود اتفاق ما بين المصالح الصهيونية وكل من حاول الإساءة للمقاومة واستهجان تعاملها مع العدو لتبرير التخلي عن دعمها ومساندتها، وهو ما كان فضيحة خلال العدوان على لبنان وتكرر بشكل أكثر مأساوية خلال العدوان على غزة. وعندما أتابع التظاهرات الأوربية الحاشدة التي تندد بالعدوان الإسرائيلي وأتابع في الوقت نفسه الفتاوى الإسلامية والتعليقات العربية المنددة بردود الفعل العربية على الهمجية الإسرائيلية والتي وصل بها السقوط إلى حضيض التهجم على التظاهرات الشعبية في الوطن العربي أتساءل عن مدى قرب أصحاب العمائم عندنا من المفهوم الحقيقي للجهاد، ومدى تواطئ من يأمرونهم بذلك مع التخطيط الإسرائيلي. وجزى الله الشدائد كل خير، فقد فضحت دور زالبترودولاراتز في إقامة تنظيمات تنتسب إلى السَلفية الدينية ولكنها تمارس السُفلية الوطنية، ووضعت أهم الهيئات الدينية العربية في موقع التبعية الإدارية للسلطان الحاكم، فلم تمارس دورها الطلائعي كرائد لأمة تعيش وضعية غثاء السيل. ولن أتحدث عن الإعلام في أهم الدول العربية المنتجة للإعلام، فالفضيحة هنا كانت، كما يقول أشقاؤنا المصريون، فضيحة بجلاجل.