هل سقط نهائيا من أجندة الحكام العرب، خيار الحرب كحل آخر بديل للمسألة الفلسطينية بعدما َسَّد الصهاينة كل مداخل السلام ؟ أم أن هذا الخيار ما زال قائما بقوة، حتى ولو أراد أصحاب الفخامة والجلالة والسمو من ذوي النزعات الاستسلامية ؟ ُتكدِّس بعض الحكومات العربية أطنانا ضخمة من الأسلحة، بقيمة عشرات الملايير من الدولارات، مما يوحي أن حربا وشيكة يعتزم حكام تلك الدول القيام بها ضد العدو التاريخي، وإن كانت أقل فاعلية مما تمتلكه إدارة الكيان الصهيوني، فإذا تجاوزت التكنولوجيا العسكرية تلك الأسلحة، أنفقت ملايير أخرى من أجل اهتلاكها، وتظل الجيوش العربية تنجز انتصاراتها بالتخلي عن شعوبها، دون أن تفرِّط طبعا في تعليق الرتب والناشين التي قد لا تكون اكتسبتها الجيوش العاملة في ميادين الحرب، ويجتهد زعماء التيئيس العرب، في إيجاد المبررات الواهية لهذه الحالة الشاذة، التي تنذر بإنهاء المسألة الفلسطينية وطيِّ صفحتها، بتحويل المنابر الإعلامية التي يحتكرونها، إلى بوق يردِّد فقط ما ذهب إليه هذا الزعيم المحنَّط على كرسيٍّ تهزه رياح الانفجار، أو ذاك الذي استلذ السلطة فلم يعد يتصوّر نفسه خارج دوائرها، حتى ولو ذهبت أمته أو شعبه أو عائلته إلى الجحيم، مع توظيف متخصصين في الترويج للأفكار الشاذة، التي لم يعد يؤمن بها إلا حلفاؤهم الصهاينة أو من يعتقدون أنهم كذلك، حفاظا على الكرسي المتهرئ، وليس تأمينا للقضية الفلسطينية العربية الإسلامية والإنسانية كذلك، ولم يكتفِ هؤلاء التيئيسيون بهذه المواقع الدعائية العديدة، بل راحوا يجتهدون في خلق وجود لهم في الفضاء الإعلامي المستقل أو الخاص، إما إغراء بإعطائها سبقا صحافيا مزيَّفا، أو ترهيبا بتحجيمها أو منعها من العمل داخل الجغرافية التي ُيحكِمون قبضتهم عليها. لقد تراجع الحديث عن استعمال القوة في استرجاع ما احُتل بها، إلى أن سقط من حسابات كل المفاوضين الذين اختطفوا الواجهة، وأصبحوا المتكلمين الوحيدين باسم الفلسطينيين والأمة العربية والإسلامية، بل انفردوا بالكلام كله، وخوّنوا أو سفّهوا كل من يقول بعدم جدوى محادثات لم ُتثمِر غير قضمٍ للأرض لم ينقطع يوما، إلى حد أن ما احتلته إسرائيل بالمفاوضات هو أكثر مما احتلته بالحرب، ولم يعد غريبا أن يظهر بدون حياء، مرتزقة مثقفون أجّروا أقلامهم وأصواتهم وما يدّعون أنه بحث لا يدعو إلا إلى سلام الذل والاستسلام، كخيار وحيد في هذه المرحلة، باسم الحكمة مرّة، والواقعية مرة ثانية، والحفاظ على المقدرات الأساسية للأمة مرة أخرى ! وكل الأساليب القذرة مباحة لديهم، فلا عيب عند عمالهم الموظفين في الصحافة أن ُتفبرَك الأخبار والصوَر، لصالح من توَّجوه داعية سلام المنطقة، فإذا اكتُشِف أمرهم وثار ضدهم حماة المهنة والمدافعون عن الحقيقة، قالوا إن ذلك مجرد »فعل تعبيري« ولا ُيعَدُّ طعنا في نبل الصحافة، ثم يذهبون بعيدا في الترويج لقوة العدو التي لا تضاهى، والتي لن تصمد معها أية قوة إقليمية أو قومية مقابلة، بهده زرع الخوف واليأس في نفسية المواطن العربي والمسلم، مما يجعل أي عمل مسلح نوعا مستهجنا من أنواع الانتحارات، وهدرا لإمكانيات الأمة بلا مقابل، وسلوكا متعمَّدا لإبقائها في التخلف ! وغير ذلك من التبريرات التي يرفضها الواقع والأخلاق والكرامة الإنسانية. لم يستسغ هذا النوع من الساسة، أن تفتك المقاومة الشعبية العربية- سواء في لبنان أو فلسطين- المبادرة منهم، كما لم يتقبلوا أن ُتتفِّه بعملها البطولي توجهاتهم، وقد فضحتهم أمام شعوبهم وأمام العالم كله، في اللحظات المصيرية التي وقفوا فيها يتفرجون، على أمل أن يقضي العدو الصهيوني على َمنْ يسبِّب لهم الصداع، عندما وقفت ندًّا قويا في وجهه، غير أنه لم يجد بدا من الاعتراف بالهزيمة التي ألحقتها به خاصة في لبنان، كما لم يهضموا أن تهب ثورة سلمية عالمية شاملة تريد اقتلاع هذا الكيان الدخيل، الذي ظل يدجِّل على العالم منذ اغتصاب فلسطين، في حين يعملون هم على إعادة تثبيته، وتقديم طوق النجاة له، بعدما أصبح محاصَرًا من طرف معظم المجتمعات التي كانت إلى وقت فريب، سندا له سياسيا وإعلاميا وماليا. لقد عطّل هؤلاء عمل جيوشهم الجرارة في تحرير الأرض والعرض، ولم يقبلوا في الوقت نفسه أن تأخذ شعوبهم المبادرة، وتنتهج الطريق الذي يؤدي وحده إلى فرض السلام المنشود، بعدما تبيّن أن النظام العربي، لم يعد- فعلا- قادرا على خوض معارك الانتصار، وربما يكون الرئيس الراحل هواري بومدين، قد استشفَّ ما ستصير إليه تلك الأنظمة، فاقترح حسبما ُرويَ عنه، إنشاء مجموعات صغيرة مقاتلة، على درجة عالية من الإرادة والعزيمة والتأهيل والتسليح، تنتشر على طول حدود دول الطوق- قبل أن تتحوّل إلى حزام واق للكيان الصهيوني- يمكن أن تضرب في وقت وفي أكثر من مكان، فتشتت قوة الترسانة العسكرية الصهيونية الأمريكية وتستنزف جهدها، في حرب لا يحدها مكان ولا زمان، ُتسقِط من جهة، أسطورة الجيش الذي لا ُيقهَر وتقلل من فعاليته، ومن جهة أخرى، تحد من موجات الهجرة التي ما زالت المموِّل الأساسي لما يسمى المستوطنات، التي التهمت أرضا يكذب الإسرائيليون بالتفاوض حولها على الطرف العربي والفلسطيني، الذي يبدو أن مهمته الحالية والوحيدة وهو يجري من البيت الأبيض الأمريكي إلى شرم الشيخ المصري، هي التخلص من القضية الفلسطينية المقدّسة نهائيا، ولا شيء غير ذلك. إن تسويق الهزيمة على أنها طريق السلام الوحيدة، هو أخطر ما تتعرض له الأمة، كما أنه أسوأ حالات ضعفها، وإن لم يفسخ المثقفون والمبدعون والسياسيون عقودهم مع النظام الرسمي العربي، الذي لم يعد بإمكانه حتى تحقيق الحد الأدنى من طموحات الشعوب العربية بوجه خاص، فإنني أكاد أقول إننا مقبلون على مرحلة من الظلام الدامس الذي سيغرق الحاضر، ويلقي المستقبل في المجهول...