تشابهت احتفالات المسلمين- أينما كانوا- بعيد الأضحى المبارك، وإن كانت وحَّدتهم هذه السُّنَّة المحمدية المباركة، فإن مظاهر التخلف في إحيائها قد جمعت بينهم أيضا. مر عيد الأضحى على المسلمين وهم بين مَن يلوِّك- ككل عام- أحاديثه الماضية، حول الغلاء الذي أطاح بالقدرة الشرائية لكثير منهم، فأبعد كبش العيد عنهم، وبين مَن يحاول تجاوز آلام الأمراض الاجتماعية التي نشر ميكروبَها فيه، الجشعون اللاهثون وراء كسب المال، لا يردعهم عن تحصيله بأية طريقة ضمير ولا قانون، وبين مَن يتحايل عن حالته البائسة المفضوحة، بالاستدانة أو الشراء بالتقسيط، إرضاء لأطفاله، ثم تقرُّبا إلى الله، وخلق فرصة مبرَّرة لتناول وجبات متنوعة نادرة من اللحم، الذي يعز عليه في بقية أيام السنة، وهم- أي المسلمون- في هذه الحالة أشبه بحلقة الدراويش، حيث تتحوّل مدن البلاد الإسلامية، إلى إسطبلات مفتوحة للبيع والشراء والفُرْجة. إن المتجوِّل في مختلف المدن الإسلامية، سواء ُقبيل يوميْ العيد، أو أثناءهما، أو بعدهما، تصفعه حقيقة مُرَّة، ظلت تتكرّر دون أن تثير شيئا، في سلوك أو توجُّه سياسة أية دولة، بما ينقلها من وضعية التخلُّف التي تعيشها، إلى مرحلة التقدُّم التي تدَّعي أنها تسعى إلى بلوغها، وتتجلّى هذه الحقيقة عبر واجهتين كبيرتين، تؤشِّران إلى مكانة العالم الإسلامي الذي يتأخّر رغم إمكانياته وثرواته الكبرى، بشريا وماديا وجغرافيا، في وقت يتقدَّم فيه غيره، وهو يفتقر إلى أبسط إمكانيات التقدُّم: 1- تكشف الواجهة الأولى عن حالة التقهقر التي انتشرت بشكل مخيف، وهي انتقال الدولة الوطنية- بمدنها وقراها وتجمعاتها البشرية- من حالة التمدُّن إلى حالة البداوة، حيث تجتاح الأغنام كل شيء، فأينما ولَّيت وجهك فثمة شياه، وحيثما مددت سمعك فثمة صياح، ولا تحتاج إلى حاسة شمٍّ قويّة، كي تعرف أنك مسيَّج بالخرفان، فروائح مشاريع الأضاحي تلاحقك إلى أي مكان، حتى لتكاد تصرعك، وتحوّلت كل الطرق المعبَّدة، إلى مسالك »للغزاة« الجدد، من الرعاة المؤقتين أو الموسميين، وأصبحت معظم الساحات المفتوحة، إسطبلات مغلقة على الأغنام، وغيَّرت بعض المحلات من طبيعة تجارتها، إلى بيع الخراف أو الكباش، ولم تستطع الدولة أن تفعِّل قوانينها الكثيرة الرادعة، في حماية المدينة من الآثار السلبية الخطيرة التي علقت بهذه السنة المباركة، التي مازالت- لحس الحظ- تجمع المسلمين، حتى ولو تحوّلت إلى عادة اجتماعية عند البعض. 2- ويتجلّى في الواجهة الثانية، الوجه الآخر للمدينة الإسلامية، حيث تبدو أغلبية المدن مجرّد تكتلات بشرية، تمارس الحل والترحال في أوقات معلومة، وهي الصفة البدويّة الراسخة، وتشيع دعاية ندرة هذه المادة أو تلك، وربما تختفي فعلا، مما يجعل الناس يهيمون على وجوههم في كل الاتجاهات، بحثا عن المادة التي ستصبح عزيزة، ويرتفع سعرها، وما تكاد تظهر في مكان، حتى تختفي في بقيّة الأمكنة، وتتخلّى المدن عن أكثر من تسعين من حجم خدمتها العمومية، لأن معظم العاملين بها هم مِن خارجها، إنهم أشبه بالمستأجَرين المؤقَّتين، ولا يكاد المار في شوارع المدن المهاجرة، يرى غير محلات مغلَقة الأبواب، وكأن أهلها قد ارتحلوا، بل هم كذلك، إنهم ذهبوا لقضاء العيد مع أهاليهم، في مدن أخرى بعيدة، وتركوا مدنهم التي يعشون فيها ومنها، مشلولة إلى حد الموت. إن حماية السنّة المحمديّة، يبدأ أولا بحماية المدن والقرى وكل التجمعات البشرية، من موجة الترييف الحادة، التي يأتي بها القادمون على رأس آلاف الكباش، من خلال إيجاد آليات ناجعة وفعالة، يشترك فيها الفقيه وعالم الاجتماع والخبير الاقتصادي ورجل السياسة وضابط الأمن، تحقِّق الغاية من ذبح أو نحر الأضاحي، وتحافظ- في الوقت نفسه- على معالم المدينة التي بلغها تطوُّر الدولة، ولو استمرّ الوضع على ما هو عليه، لازداد سكان المدن انحرافا بالمدينة، ولأصبحت الدولة المدنية- التي هي نتاج تراكم عمل أجيال متعاقبة- تجمعاتٍ سكانيةً فقط، أو دولة بدوية خارج أنماط العصر، وبعيدا عن طموح أبنائها، وعكس ما تروِّج له شعارات حكامها ...