يجسد قطاع السكك الحديدية في الجزائر إحدى صور التحول الاقتصادي المسجل بعد الاستقلال, حيث انتقلت من أداة استعمارية صممت لنهب ثروات البلاد إلى رافعة إستراتيجية للتنمية المستدامة ودعم القطاع الصناعي. وبعد مرور 63 سنة على استرجاع السيادة الوطنية, يواصل قطاع السكك الحديدية مساهمته في مسار التنمية الوطنية, لا سيما من خلال مشاريع عصرنة الشبكة وتوسيعها إلى الجنوب الكبير وكذا مشاريع الربط السككي المنجمي. ويعود تاريخ أول خطوط السكك الحديدية في الجزائر إلى منتصف القرن ال19 من خلال تشييد الخط الرابط بين الجزائر العاصمة والبليدة والخط المنجمي بولاية عنابة الرابط بين منجم حديد خرازة بالميناء الداخلي في وادي سيبوس. وصممت هذه الشبكة وفق هندسة وظيفية استعمارية تهدف بالأساس إلى تسهيل نهب الموارد الطبيعية ونقلها نحو الموانئ, بعيدا عن الاعتبارات التنموية المحلية. وغداة استرجاع السيادة الوطنية, كانت الجزائر أمام تحدي تسيير شبكة متهالكة وغير متجانسة من حيث المقاييس والوظائف, وهو ما استدعى تسطير برنامج سككي خاص ضمن الرؤية التنموية الجديدة للبلاد, وهو ما سمح بتأهيل البنى التحتية وتوسيع شبكة السكك الحديدية تدريجيا لتشمل مختلف مناطق البلاد. وفي سنة 2007, تم إطلاق الوكالة الوطنية للدراسات ومتابعة إنجاز الاستثمارات في السكك الحديدية (أنسريف), والتي تتكفل ببرمجة وإنجاز المشاريع الكبرى لتطوير القطاع, حيث قامت بإطلاق عدة مشاريع هامة من بينها خط الهضاب العليا الذي يمتد على مسافة 1000 كلم من تبسة شرقا إلى سيدي بلعباس غربا, وكذا مشروع تحديث الرواق الساحلي بالشمال, بالإضافة إلى الخط المنجمي الغربي. ويشهد قطاع السكك الحديدية في الجزائر منذ سنة 2020 ديناميكية غير مسبوقة, تجسدت من خلال توسيع الشبكة الوطنية, بشكل يعكس إرادة الدولة في ترقية النقل المستدام, وتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية عبر مختلف جهات الوطن. ومع تعبئة للموارد المالية والبشرية الضرورية, انطلقت الجزائر في مسار طموح لتحديث الشبكة الحديدية, وتطوير بنيتها القاعدية, وهو ما سمح برفع طول الشبكة إلى 4787 كلم حاليا, مع أهداف طموحة لبلوغ 6500 كلم في المدى القريب و15000 كلم مع أفق 2030. ولتجسيد هذه الأهداف, تم في 2024 استحداث المجمع العمومي لإنجاز السكك الحديدية, والذي يضم أربع شركات متخصصة في الدراسات, الكهربة, البنية التحتية والمنشآت, بما يمكن من التكفل بالمشاريع الكبرى على غرار الخطوط المنجمية والرواق العابر للصحراء. ومن بين المشاريع الكبرى الجاري انجازها, نجد خط تقرت - حاسي مسعود على مسافة 154 كم, ومشروع الخط المنجمي الغربي بشار-غارا جبيلات (950 كم) والذي ينتظر تسليمه كليا مع نهاية 2025, إضافة إلى الخط المنجمي الشرقي (عنابة- تبسة), على مسافة 422 كم, والذي تم إنهاء المقطع الجنوبي منه (جبل العنق-وادي الكبريت), مع تقدم في إنجاز مقطعي الشمال والوسط, وهو ما من شأنه تحسين نقل المواد المنجمية من تبسة نحو ميناء عنابة. علاوة على ذلك, يجري العمل على مشاريع ربط المناطق الصناعية ومصانع الإسمنت ومخازن الحبوب والوقود بشبكة السكك الحديدية. وإلى جانب المشاريع القائمة لتطوير أنظمة الإشارة والتسيير الإلكتروني, من خلال اتفاقيات تعاون مع شركات دولية, تم تخصيص أغلفة مالية هامة لتجديد عتاد السكة الحديدية, من خلال اقتناء جرارات وقطارات ركاب حديثة, بما في ذلك قطارات مكيفة موجهة للخطوط الطويلة, فضلا عن عربات نقل البضائع. ولتعزيز جودة خدمات المسافرين, تم إطلاق برنامج وطني لإعادة تأهيل و عصرنة 75 محطة قطار. وتتجه الجزائر بخطى ثابتة لربط الولايات الجنوبية بالشبكة الوطنية من خلال خمسة أروقة إستراتيجية وهي الرواق الممتد من الجزائر العاصمة إلى الحدود النيجرية (2439 كلم), رواق وهران-الحدود المالية (2480 كلم), رواق بشار-غارا جبيلات (950 كلم), رواق جيجل- جانت (2275 كلم)، مع فرع نحو الحدود الليبية, ورواق عنابة-تقرت (780 كلم). وستشكل هذه الأروقة, التي دخلت مقاطع منها الخدمة, وأخرى في طور الإنجاز أو الدراسة, جسرا لربط الشمال بالجنوب ودعامة لتنمية متوازنة وشاملة. وفي انتظار تحقيق هذه الرهانات, تبقى شبكة السكك الحديدية عنصرا محوريا في إستراتيجية الدولة لتنويع الاقتصاد, وتدعيم التنمية, وتوفير وسيلة نقل فعالة ومستدامة تخدم المواطن والمستثمر على حد سواء.