يتميز الكيان الجزائري باستمرارية وجوده منذ العهد النوميدي بالرغم من خضوعه في عهود مختلفة إلى سيطرة قوى خارجية في إطار الصراعات التي شهدها حوض البحر المتوسط. فقد شكّل البحر المتوسط بؤرة دائمة للصراعات بين مختلف القوى المتنافسة على النفوذ، وباعتبار الجزائر جزءا من حوض المتوسط فإنها تأثرت بمجمل الصراعات التي دارت فيه بمثل ما أثرت فيها في بعض الفترات من تاريخها. إن تعرض الكيان الجزائري لاعتداءات خارجية في بعض مراحل تاريخه وتعدد النّظُم الحاكمة التي أسست دولا متعاقبة ضمن مجاله مع تغيّر مراكز الثقل السياسي فيه لا يمس به ولا باستمراريته في الزمان والمكان. لقد شكّل العهد النوميدي الذي برز فيه قادة كبار كصيفاقس وماسينيسا ويوغرطة بدايات تبلور الكيان السياسي الجزائري. وبعد زوال الاستعمار الثلاثي الروماني/الوندالي/الرومي على أيدي العرب حَمَلَة رسالة الإسلام في منتصف القرن السابع الميلادي، حافظ الكيان الجزائري على استمراريته عبر ظهور الممالك والإمارات الإسلامية التي تشكّلت في المغرب الأوسط. لم يكن وصف الجزائر بالمغرب الأوسط من طرف الجغرافيين والمؤرخين العرب تمييزًا لها عن المغربيْن الأدنى والأقصى ولكنه مثّل تعبيرا حيًّا عن كينونتها الخاصة. فقد تشكّل المغرب الأوسط تاريخيا عبر التوسّط بين كيانيْن آخريْن هما المغرب الأدنى والمغرب الأقصى، وسعى كل منهما في بعض الفترات إلى التدخل في شؤونه الداخلية وهو ما دفع بساكنيه إلى الوقوف ضد تلك المحاولات والحفاظ على استقلاليته عبر الدفاع المتواصل عن خصوصيته مما جذّر وجوده عبر التاريخ وعمّق انصهار المجموعات المكوّنة له والمدافعة عنه. لقد توالت الأنظمة الحاكمة ضمن المجال الجزائري واستمرت عملية الدفاع عنه ضد أي اعتداء خارجي لكن تميّزه لم يخل بوجوده الفاعل ضمن محيطه الجغرافي وفضائه الحضاري. لقد شكلت الجزائر ضمن فضائها الإقليمي وعبر تاريخها العريق ملتقى لحضارات تعاقبت عليها منذ القدم بدءاً بالوجود الأمازيغي مرورا بالحضور الكنعاني والروماني والبيزنطي والعربي والعثماني. وهي كلها حقب تاريخية شكلت في تعاقبها الإنسان الجزائري المعاصر باعتباره خلاصة لها. وهي بالتالي لم تكن مجرد أرض للغزوات كما أشاع مؤرخو الاستعمار الفرنسي. في العصور الوسطى، كان اعتماد الكيانات السياسية التي قامت في الجزائر وعموم المنطقة على الطابع القبلي ثم أضيف العامل المذهبي إلى ذلك بعد اندماج الجزائر في الفضاء الإسلامي. فأصبحت العصبية القبلية والانتماء المذهبي فاعليْن رئيسييْن في الحياة السياسية طيلة تلك العصور. وقد شكّل ذلك صُلب المفهوم الخلدوني القائم حول تأسيس الدول وسقوطها وتعاقب الحضارات. كان مفهوم الدولة كما يعرف حاليا لم يتبلور بعد ولذلك ارتبطت الدولة بالقبيلة، حيث كان الكيان السياسي الذي تؤسسه القبيلة ينسب في الغالب إلى مؤسسه. كان ذلك الكيان يتوسع ويسود أو يضيق ويندثر تبعا لقوة القبيلة الحاكمة والديناميكية التي تحدثها في محيطها وبحكم عوامل أخرى كتكتّل القبائل المنافسة لها ومدى فاعليتها. فالدولة الرستمية كانت أول إمارة إسلامية قامت في الجزائر تحت قيادة عبد الرحمن بن رستم الفارسي على أيدي قبائل أمازيغية اعتنقت المذهب الإباضي، لكنه تم القضاء على الرستميين من طرف دولة العُبيْدييّن التي تُنسب إلى عُبيْد الله الملقب بالمهدي والمعروفة تاريخيا بالفاطمية، وهي دولة شيعية قامت على أكتاف قبائل كتامة الأمازيغية. كان جنْد كتامة هم سيوف بني عُبيْد لبسط هيمنتهم على بلاد المغرب ومصر والشام. الدولة الحمادية التي تأسست بمنطقة المسيلة متخذة قلعة بني حماد عاصمة لها ثم انتقلت في فترة لاحقة إلى بجاية، أسسها فرع من قبيلة صنهاجة وتنسب إلى حمّاد بن بُلُكّين{الكاف تنطق قافا معقودة} بن زيري بن منّاد وتم القضاء عليها من طرف الموحّدين. المرابطون الذين اعتمدوا في بعث دولتهم على قبيلة لمتونة الصنهاجية أقاموا دولة سنية مالكية المذهب في شمال أفريقيا. أما الموحدون الذين أطاحوا بالمرابطين والحمّاديين والزّيريين فأقاموا دولة كبرى تحت سيوف قبيلة مصمودة وفق مذهب خاص بهم وكانوا مناهضين للمذهب المالكي الذي تبناه المرابطون. الدول التي تأسست على أنقاض الموحدين كانت تحركها العصبية القبيلة. فالحفصيون الذين انفردوا بحكم تونس ومدوا نفوذهم إلى منطقتيْ قسنطينةوبجاية كانت النواة الصلبة في حكمهم تتكون من قبيلة هنتاتة وهي فرع من مصمودة. وتبنت هذه الدولة اسم الحفصية نسبة إلى أبي حفص عمر صاحب المهدي بن تومرت مؤسس الحركة الموحدية بالرغم من شيوع نسبها إلى أبي حفص عمر بن الخطاب، بينما قامت دولة بني زيان التي كانت تلمسان هي عاصمتها على أكتاف قبيلة بني عبد الواد الزناتية وانتسبت إلى والد مؤسسها يغمراسن بن زيان. أما دولة بني مرين التي أسقطت حكم الموحدين واستولت على عاصمتهم مراكش فتنسب إلى فرع زناتي آخر. كانت القبيلة التي تستأثر بالحكم تسعى لإبعاد القبائل الأخرى باعتبارها مناوئة لها ولعل أبرز مثال في التاريخ على ذلك الصراع القبلي هو العداء الذي استحكم بين صنهاجة وزناتة خلال القرون الوسطى والذي أوّله المؤرخون الفرنسيون إلى صراع بين الحضر والبدو. أدى الخلاف القائم بين الطرفين إلى قيام صنهاجة، على سبيل المثال، بمنع زناتة من تربية الخيول وقتل كل زناتي يربي حصانا لأن الخيول كانت في تلك الحقبة الأداة الرئيسية للحرب. نتج عن ذلك العداء المرير بين المجموعتين هجرة عدد من القبائل الزناتية إلى المغرب الأقصى والأندلس. نذكر من بين القبائل الزناتية التي انتقلت إلى المغرب بنو يفرن وبنو مرين وبعض فروع مغراوة، بينما انتقل بنو برزال إلى الأندلس رفقة عائلة بني حمدون أمراء المسيلة. كان بنو برزال يقيمون بمنطقة المسيلة. كانت القبائل التي تعاقبت على الحكم في الجزائر عادة ما تلجأ إلى إقامة تحالفات محدودة مع قبائل أخرى، لكن تلك التحالفات كثيرا ما تتغيّر ومع تغيّرها تضعف السلطة المركزية وتسقط النّظم الحاكمة أي الدول. ومع سقوطها تبرز قبائل أخرى وأسَر أخرى حاكمة وبالتالي تسود نُظُم أخرى أي دول أخرى. أدى هذا النوع من الحكم خلال العصور الوسطى إلى ضعف قيام سلطة مركزية قوية تتميز بالديمومة والثبات. وهو ما يعني أن ضعف وجود خصوصية أمازيغية موحّدة لا يرجع إلى ما يوصف بتسلط العنصر الأجنبي على البلاد بل تكمن الإشكالية في الصراع الدائم بين القبائل المتنافسة والذي أعاق قيام سلطة مركزية. فكل قبيلة كانت خارج الحكم تسعى لإسقاط القبيلة الحاكمة وبسقوطها تسقط الدولة القائمة. ومثلما لعب الصراع القبلي دورا محوريا في عدم تأسيس دولة مركزية في بلاد المغرب بالرغم من محاولات المرابطين والموحدين بعث فضاء مغاربي كبير، أدّى تبنّي كل قبيلة لمذهب معيّن على تجذّر طابع التشرذم في البيئة المغاربية بالرغم من أن الإسلام يحمل طابعا توحيديا يتجاوز الشعوب والقبائل. فقد ثارت القبائل الزناتية التي كانت خارجية المذهب على بني عبيد الشيعة تحت قيادة أبي يزيد مَخْلد بن كَيداد الذي عرف بصاحب الحمار وآزرتها القبائل السنيّة. وكادت هذه الحركة أن تنهي الحكم الشيعي في بلاد المغرب، وتوصلت لحكم القيروان لفترة وجيزة. كما تأسست الدولة الرستمية على كاهل قبائل كانت تتبع المذهب الإباضي. وكان تأسيس دولة بني حماد على يد قبيلة صنهاجة الموالية لبني عُبيْد الشيعة وهو ما أدى إلى تحالف قبائل زناتة المناهضة لصنهاجة مع الأمويين السنة في الأندلس. أما دولة الموحدين التي قامت على أكتاف قبيلة مصمودة فاعتمدت مذهبا خاصا بها معاد للمذهب المالكي السني ويأخذ بفكرة عصمة الإمام التي تعتبر عماد مذهب الشيعة. بعد سقوط دولة الموحدين قام على أنقاضها ثلاث دول متناحرة. بنو حفص في تونس مع مد نفوذهم إلى شرق الجزائر وبنو زيان في القسم الغربي والقسم الأوسط من الجزائر وبنو مرين بالمغرب الأقصى. تصارعت هذه الدول فيما بينها بتصارع القبائل التي تقودها في سعيها لخلافة إمبراطورية الموحّدين. عمّقت الخلافات القائمة بين الدول الحفصية والزيانية والمرينية، وهي خلافات قبلية في جوهرها، من عدم توحيد بلاد المغرب مما يعني أن العامل الخارجي لم يكن له شأن كبير في عدم بروز كيان أمازيغي موحد في المنطقة.