خالص التعازي إلى فخامتكم وإلى الشعب الروسي الصديق    الولايات المتحدة الأمريكية تولي أهمية بالغة لعلاقاتها مع الجزائر    ضمان اجتماعي: لقاء جزائري-صيني لتعزيز التعاون الثنائي    الرئيس تبون مستشار ترامب : إلتزام قوي لتعزيز العلاقات التجارية والأمنية    تحقيق صافي أرباح بقيمة مليار دج    الوكالة تشرع في الرد على طلبات المكتتبين    إطلاق مشروع لإنتاج قطع غيار المركبات والشاحنات    الجزائر تسعى إلى جعل الجنوب الكبير قطبا زراعيا استراتيجيا    إقامة شراكة اقتصادية جزائرية سعودية متينة    المجلس الوطني الفلسطيني: اعتراض الاحتلال للسفينة "حنظلة"    إستشهاد 12 فلسطينيا في قصف على خانيونس ودير البلح    الاتحاد البرلماني العربي : قرار ضم الضفة والأغوار الفلسطينية انتهاك صارخ للقانون الدولي    حماس تعلق على الخطوة "الشكلية والمخادعة":إنزال مساعدات جوا في غزة خطوة شكلية لتبييض صورة إسرائيل    رغم الاقتراح الأمريكي لوقف إطلاق النار.. استمرار القتال بين كمبوديا وتايلاند    وهران.. استقبال الفوج الثاني من أبناء الجالية الوطنية المقيمة بالخارج    3,4 مليون تلميذ يستفيدون من المنحة المدرسية    شرطة الشلف تسترجع مركبتين محل سرقة    وفاة 8 أشخاص وإصابة 261 آخرين    ترقب استمرار موجة الحر    الجزائر العاصمة.. حملة لمحاربة مواقف السيارات غير الشرعية    الابتلاء.. رفعةٌ للدرجات وتبوُّؤ لمنازل الجنات    ثواب الاستغفار ومقدار مضاعفته    من أسماء الله الحسنى.. "الناصر، النصير"    وزير الثقافة والفنون يشدد على "ضرورة بلوغ أعلى درجات الجاهزية" لإنجاح الصالون الدولي للكتاب بالجزائر (سيلا 2025)    بيسط: الشعب الصحراوي سينتصر    مصارعة /الألعاب الإفريقية المدرسية: المنتخب الوطني يحرز 10 ميداليات منها 7 ذهبية في مستهل المنافسة    المولودية تتسلم الدرع    أشبال بوقرة يستأنفون تحضيراتهم للمنافسة القارية    لا يوجد خاسر..الجميع فائزون ولنصنع معا تاريخا جديدا    إنجاز مشاريع تنموية هامة ببلديات بومرداس    المخزن يستخدم الهجرة للضّغط السياسي    عنابة تفتتح العرس بروح الوحدة والانتماء    خطوات استباقية لإنجاح الدخول المدرسي بالعاصمة    870 ألف مكتتب اطلعوا على نتائج دراسة ملفاتهم    هدفنا تكوين فريق تنافسي ومشروعنا واحد    الألعاب الإفريقية المدرسية (الجزائر 2025): القافلة الأولمبية الجزائرية تحل بعنابة    البطولة العربية للأمم ال 26 لكرة السلة /رجال/ الجولة الثانية: فوز كبير للمنتخب الجزائري على نظيره الاماراتي (99-61)    تحذيرات تُهمَل ومآس تتكرّر    مهرجان الأغنية الوهرانية يسدل ستاره    "المادة" في إقامة لوكارنو السينمائية    مشروع السكة الحديدية أم العسل – تندوف: وتيرة إنجاز متسارعة نحو تحقيق الربط المنجمي الكبير    كان "شاهدا وصانعا ومؤثرا" في تاريخ الصحافة الجزائرية    اختتام مهرجان الأغنية الوهرانية في طبعته ال16: تكريم الفائزين ولمسة عصرية على النغم الأصيل    جثمان المخرج سيد علي فطار يوارى الثرى بالجزائر العاصمة    الجزائر تحتفي بعبقرية تشايكوفسكي في حفل موسيقي عالمي بدار الأوبرا    تعزز الجهود الوطنية لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية    الجزائر تشارك في قمة الأمم المتحدة لمتابعة أنظمة الغذاء بأديس أبابا    الجزائر رافعة استراتيجية للاندماج الاقتصادي الإفريقي: معرض التجارة البينية 2025 فرصة لترسيخ الدور الريادي    استشهاد 1200 مسن نتيجة التجويع خلال الشهرين في غزّة    الألعاب الإفريقية المدرسية (الجزائر-2025): برنامج ثقافي وترفيهي وسياحي ثري للوفود الرياضية المشاركة    افتتاح واعد مُنتظر هذا السبت بسطيف    شبكة ولائية متخصصة في معالجة القدم السكري    منظمة الصحة العالمية تحذر من انتشار فيروس شيكونغونيا عالميا    وهران: افتتاح معرض الحرمين الدولي للحج والعمرة والسياحة    النمّام الصادق خائن والنمّام الكاذب أشد شرًا    إجراءات إلكترونية جديدة لمتابعة ملفات الاستيراد    استكمال الإطار التنظيمي لتطبيق جهاز الدولة    رموز الاستجابة السريعة ب58 ولاية لجمع الزكاة عبر "بريدي موب"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يا جزعي عليك يا ولدي يا نبيل(الحلقة الرابعة)
نشر في صوت الأحرار يوم 27 - 07 - 2008

أمكتوب على أبيك يا ولدي معاشرةَ الأحزان نفسا وفكرا وجسدا، وفي فترات متعاقبة متقاربة ممسكةً بتلابيب بعضها، يتجرَّعها كأسا علقما يفيض ويستفيض حتى يخالَه بلغ حدا لا بعدَه حيزٌ من فراغ لمزيد، وها هو ذا مرضك المفاجئ والخطير يخطفه مضاعفا من واقع الحال، ويرمي به لسنواته العجاف في أيام الطفولة والشباب، وها هو يتذكرها لحظات ودقائق أليمة ومؤلمة منقوشة في الذاكرة لا تبرحها، مغروزة في الخاصرة كأنها موسى حادة تحركها الحوادث والأحداث كلما ظن أن الجرح برأ والتأم، يتذكر أمام خبر مرضك المفزع بخوف والتياع، كيف رافقته الأرزاءُ صغيرا طرّا يافعا، في بيت كان ميسورا يتراوح بين الغنى والثراء، بين السؤدد والجاه، بين الهناءة والرضا، بين الأمن والسكينة لكن الدهر كان يتربص بنا وبغيرنا من الجزائريين، وما كادت تنقضي سنوات ستٌّ من أهوال الحرب العالمية، وما عرفه الأهلُ من تقتير في العيش، وبيع للمواشي والخيول والأبقار والأرض، لسدّ فراغ البطون المتضوِّرة بالجوع، حتى كان جدُّه قد أفرغ يده من بيع ما يملك من عقار ومنقول وحيوانات، ولامس حدَّ العوز والفاقة في ظرف قياسي يكاد يعد بالشهور، بلهَ بالسنوات، فانقلبت أحوالُ العائلة رأسا على عقب من غنى يُثير حسدَ الحانقين، إلى فقر مُدقِع يُشفي صدورَ الناقمين.
وهذا الامتحان العسير المرير عرفته في حياتي شخصيا سبعَ مرات متعاقبة، وكنت ألقاه بنفس لا تهب ولا تجِل لكثرة ما عركتْها الأيام في خضم الابتلاء والتجارب، وفي معمعان الصراع والشدائد، حتى ظننتُ حقا أو توهُّما بأن غريزة الخوف قد انتفت و مُحيت من بين الأحشاء أو تكاد، لتعرُّضها لصنوف من المهالك لا تُعد ولا تحصى، وعبر دروب من المسالك البالغة الوعورة والخطورة يفترض ألا منجاة بعدها، يصادفه الموت غيَر ما مرة على ميعاد، ويمدُّ يديْه بخشونة وقسوة نحو عنقه ليكتُمَ أنفاسَه حتى يخالَ القدر المجلَّى هلَّ وحلَّ، لكن الأجل المرقون ليوم معلوم يجعله يتراجع بلباقة وأناقة، وبيسر ومجاملة، كأنه غير الذي كان منذ لحظات مهيئا لكتم الأنفاس ووقف النبضات، وربما يكون تراجعه ذاك المهذب تنفيذا لأمر ممن له حق الإماتة والإحياء، فيُطيع وينصاع، أو لقراءة من سجل المعنَّى الذي بين يديه، فيتأكَّد من خلاله من أن ساعة الرحيل لم يحن أوانُها، قلتُ كلاما لوالدته تهيئةً لنبيلَ حتى يلقى مصيرَه بشجاعة ورجولة، مستخلصا الدروسَ من تجارب وبلايا أبيه، ليُقدمَ على العملية الجراحية، ونفسُه مطمئنةٌ لنجاحها، وجسمُه مستعدٌّ للمباضع والجراحة لتحديها، وقلبُه يستقوي بإيمان في الله يُسعفه على تحمِّل آثار العملية وقسوتها من آلام وأوجاع، لفترة قصيرة تُعد إن شاء الُله بالأيام.
وعاجلتُ بعد سماع الخبر الحزين إلى إخبار الرئيس بوتفليقة، المتواجدِ في الخرطوم في القمة العربية، عن طريق من كان قريبا منه، وهو في لقاء على ما يبدو مع العقيد معمر القذافي، وإذا بالجواب يأتي سريعا منه يرخِّص لي الانتقالَ الفوري لاتخاذ الإجراءات المستعجلة لنقل المريض للعلاج، وبادرتُ بالاتصال مهاتفةً لذوي الصلة بوزارتيْ الصحة والعمل، وكان الإجراءُ سريعا، فجازى الله الزميليْن خيرا على تلك العناية، والمشاركةِ معي قلقي على خطر مرض الوليد. كما اتصلتُ بزملائي بوزارة الخارجية، أرجوهم التحرُّكَ سريعا مع السفارة الفرنسية لاستصدار تأشيرة لنبيل وأمه وأخته، لأن عمَّه الطاهر الذي قرَّر مصاحبتَه، كانت معه التأشيرة جاهزةً منذُ قبل، ووصلتُ باريس بحيرتي على ولدي وعلى نفسي معا، لأن أطبائي بباريسَ يعرفون عني من قبلُ هذا المريضَ اللعينَ بأنه وراثي، وقد خضعتُ قبل اليوم مرتين لإجراء عمليتين لإزالة الأورام اللصيقة بالمعي الغليظ، وكان التاريخُ محدَّدا من قبلُ في شهر أفريل 2006، فاتصلتُ بطبيبي المتابع لملفي لتحديد موعد لإجراء العملية الثالثة على نفس الأورام، وذاك ما تمَّ حالَ وصولي إلى باريس قبل وصول نبيل، والذي أخذتْ منه إجراءاتُ التأشيرة بعضَ الوقت. فانتهزتُ الفرصة، وأنا بالمستشفى لإجراء عملية أخرى على الكاحل لإزالة قطعة الحديد المسمَّرة بالرجل ببراغيها الستة المحدوْدبة، والتي كانت جزءً مؤلما مستديما منذ تعرُّضي لكسر خطير سنة 1992 ، حيث بقيتُ أعايشُها جسما غريبا صلدا مؤثِّرا عليَّ عند السير، أو مع تغيُّر المناخ، وخاصةً فصلَ الشتاء، والتي كانت تُثير فِرَقَ الأمن بالمطارات بصريرها بعد مروري تحت أجهزة الإنذار، فيستنفرون هلعا، ويقومون بتمرير جهازهم الحساس على كل مناطق الجسم، فلا يجدون شيئا، لكنَّ جهازَهم يظل يبعث الرنين كأنه عزفٌ وحشيُ النبرات، فيلجأون إلى التفتيش اليدوي يتحسَّسون ويتلمَّسون، فلا يعثرون على شيء يُسكت طنيَن جهازهم ذاك اللعين، وأنا أضحك في سري على فزعهم، وعند الضرورة أو المبالغة من طرفهم في التدقيق والتبقيق، أُظهر لهم جوازَ السفر الديبلوماسي بلونه الأحمر، وحصانته الواقية، فيفتحون الطريق مع إشارة الاحترام، ، وقد كنتُ منذ لحظات عندهم قبلها محلَّ ريبةٍ وشك، وخاصةً بشَرتي العربية التي تكفي وحدها لتجعلَ مني عضوا محتملا في خلايا القاعدة، أو شبكات الإرهاب، وكأني أحسُّ في نفوسهم شيئا من التوجُّس حول ذلك الرنين، ولكنَّ مكانةَ السفير تفرض عليهم المعاملةَ بوقار.
تلك القطعةُ الحديديةُ اللعينة التي كانت تُثير الفزعَ لرجال الأمن بالمطارات، والتي كانت تُرهقني بأوجاعها عند السير أو البرد لمدة ثلاثةَ عشرَ عاما، هي التي قررتُ إجراءَ العملية لإزالتها، شفاءً للرِّجل من الأوجاع، وراحةً للنفس من وجود جسم غريب بالجسم، وطمأنةً مستقبلا لحراس المطارات من الريبة والهلع، والحمد لله، فقد تمت العمليتان على الزوائد بالمعي الغليظ، وعلى الرِّجل بإزالة القطعة الحديد بسلام، مع ما يصاحب أيَّ نوع من العمليات الجراحية من وخز بالإبر للإعداد والاستعداد، وأمصال لتسكين الآلام المبرَّحة بعد الجراح، وأدويةٍ متنوعةٍ لاتِّقاء أية مضاعفاتٍ بالسيلان أو الاحتقان، وقبلها تُزرَع بالوريد حقنةٌ للتخدير العام، قد تعقُبها الصحوةُ والاستيقاظ، أو يبقى صاحبُها في سُبات عميق حتى يفزعَ من صرخة الصور في يوم النشور، تلك خطورةُ كلِّ عمليةٍ جراحية يتعرض لها المرء في حياته، كانت صغيرةً أم كبيرة، ولا تسلْ عما يسبقها من حالة نفسية معقَّدة، وذاك حسبَ صلابةِ القلب أو وهنِه، وحسب رباطةِ الجأش أو اضطرابِه، وحسب توازنِ الفكر أو اختلاله، وحسب الإقدامِ على المخاطرة أو الإحجام عنها، وقبل هذا وذاك، مدى ثقةِ العبد في الاتكال على خالقه الذي جلَّتْ عظمتُه، وتسليمِ الأمر إليه، وازديادِ الوثوق في قدرته، والإيمانِ المطلق بأنه وحده عليمٌ بميقات أجل الفرد المرقون في سجِّل محفوظ، لا تُنهيه العملياتُ الجراحية مهما كانت خطورتُها ودقتُها، ولا الأسقامُ المزمنة مهما تعددت عللُها ومصادرُها، ولا شظايا القنابل المنفجرة أمامك أو حولك في عزِّ المعارك مهما كان تصويبُها أو تسديدُها، ولا العواصفُ في لجج البحار، وأشرعتُك ريشةٌ في مهب الرياح، مهما كان عنفوانُها وهيجانُها، أو الفيضاناتُ الهادرة، وهي تحطِّمُ المبانيَ والمغاني، وتقتلع الأشجارَ من جذورها بجذوعها، لا يبقى بعد طوفانها قائمٌ أو مائلٌ إلا وجرفته بعتو، ليصيرَ ذراتٍ متناثرةً تحت الأرض ممتزجا من شدة التدمير بأطيانها،، أو الزلازلُ المروِّعة ُ التي تترك في لمح من بصر أقواما من البشر صرعَى هلكَى منثورة الأجداث في التلال والفجوج، أو في المدن والقرى، مصحوبةً بإحداث خسائرَ بشريةٍ وماديةٍ في منطقة أو مناطقَ بأكملها، لتنقلبَ رأسا على عقب، فيُصبحَ أسفلُها عاليَها، وعاليها خبرا بعد عين، ومع ذلك ترى من لم يحنْ أجلُه بعدُ، يخرج من الغرق في البحر أو الفيضان سالما، يعتصر ثيابَه المبتلَّة كأنما أصابه رشٌّ من رذاذ، وترى من يخرج من المعارك الطاحنة، ومن تحت القذائف والصواريخ اللاهبة، ينفضُ غبارَها حيا من فوق جسده كأنه خارجٌ لتوِّه من مباراة في لعبة الموت والحياة، وكأن الشظايا المتطايرةَ عليها غشاوةٌ لا تُبصر جسدَه المتحرك، ولا تُحسُّ أنفاسَه اللاهثة، وتفقد مجراها المحدَّدَ بدقة على أجهزة الحاسوب، كذلك ينجو الإنسان من الزلازل، وهي تدكُّ البيوتَ تسويةً بالأرض، وأحيانا تغوص بها للدرك الأسفل منها، ويبقى الإنسانُ كذا يوما تحت الردم، لم يبق له من الحياة إلا شهيق وزفير يُخرجه أنينا متأوِّها تلتقطه أجهزة التنصُّت لرجال الإنقاذ، فتمتدُّ له أذرع الحياة الرحيمة ليتنشقَ الهواءَ الطلقَ من جديد فوق أديم الأرض، فيروح يعفِّر جبينَه بالركوع فوق ثراها إنْ كان مسلما، أو يستعيُن بالرموز والطقوس حسب معتقداته ضربا من العرفان والامتنان، تلك هي الآجال، لا تقصِّر من طولها الأحداثُ ولا الحوادث، وتلك هي المقادير، لا تحول عن مجراها المرسوم في رحم الغيب بالمصادفة أو التدبير، وتلك هي صيرورةُ الأعمار، لا تفنى بالفواجع أو المفاجئات، ولا تخلُد بالتخطيط والحسابات، وتلك هي سنةُ الحياة، تتماوج وتتعرَّج بنا بين شقاوة وسعادة، وبين صحة ومرض، وبين فرح وحزن، وذاك من يوم الميلاد حتى تتوقف أنفاسنا في صدورنا بالطريقة التي خطَّها مسبقا لنا قدرُنا، فوقتها نبقى جثثا هامدةً في قعر من تراب بداية، ثم تصير العظام رميما ديمومة، وسوف تظل الأرواح معلَّقةً منتظرةً مصائرَها في مكان ما من الملكوت حتى تحيَن النفرةُ ليوم الميعاد.
هكذا سارعتُ إلى المستشفى قبلك يا نبيل، وذلك لإجراء عمليتيْن متعاقبتيْن في زمن قصير، ذهبتُ معتقدا بتصور للموت أو الحياة، و بفهم للهلاك أو النجاة، وعزم لمواجهة الأمر المحتوم غير واجل ولا مرتاب، مسلِّما أمريَ لمن بيده الإماتة والإحياء. ذهبتُ إلى المستشفى بهذه التجارب المستفادة من مسيرة الحياة، وبهذه الأطروحات المستنتجة من إيحاءات الفكر، وبهذه القدرة ا لمعتصرة من ضروب الصبر، وبهذه الشجاعة المستخلصة من مقاومة القلب.
كذا هيأتُ نفسي لاستقبالك يا نبيل، جئتُك بعد نجاح العمليتين بروح معنوية عالية، وهو يحطُّ رحالَه بباريس، مصحوبا بعمه الطاهر، وأمه الحاجة ربيعة، ليستمدَّ من أبيه دروسا في الإقدام على إجراء العملية الجراحية بجرأة لا يجل ولا يتهيب،كنت أُعدُّه كيف يسلِّم أمرَه لخالقه لا يتخوف أو يرتاب، كنت أبثُّ فيه روحَ التحمُّل والمكابدة، وهو يمدُّ جسمَه المملوءَ بحيوية الشباب وعنفوانه للمشارط والمباضع، لا يهابها أو يرهبها، وهي تشق بطنه لإزالة الورم الخبيث من بين أحشائه، كنتُ أُوعز إليه ليقارنَ بين ما هو مُقدمٌ عليه، وبين ما أقدمَ عليه أبوه يوم كان في مثل سنه، وحتى قبلَها، والذي ما زال يُقدم عليه حتى الآن، والعمرُ يحث الخطى حثيثا يسير ويتقدَّم.
وقضينا الليلةَ بالفندق، أسامرُه أنا حينا لأهوِّن عليه تصوُّرَ العملية نوعا من بثِّ الطمأنينة في نفسه، والشجاعة في قلبه، ويحادثه عمُّه الطاهر، يقصُّ عليه كيف استعاد عافيته بعد العملية الجراحية التي أُجريتْ له ولعمه أحمد منذ سنتين لنفس المرض، ومع نفس الأستاذ الطبيب، وذاك إزالةً لكل خوف قد يعتريه، أو هاجس من الموت قد يعتورُه، وحاولتْ أمُّه أن تتظاهر أمامه بالهدوء طبقا لوصايا أشرتُ بها عليها حتى لا تهوِّل الأمرَ عليه، ولكنَّ علامةَ الحزن كانت باديةً على محياها، وشيئا من الاضطراب تحاول إخفاءَه على ولدها الأكبر، ولكنَّ ملامحَها كانت تعبِّر بوضوح عن لواعجِ الأم وخوالجها.
ودارت مسامرتُنا نحن الأربعةَ في تلك الليلة تمضيةً للوقت حول بعض التجارب والأحداث، والتي أشرتُ إليها سابقا من حياة الأب في مساره الطويل حتى يحسَّ نبيل، وهو متجهٌ غدا صباحا إلى المستشفى، بأن عمليته الجراحية تلك لا تعدو أن تكونَ مجردَ تجربةٍ عابرة سيذكرها يوما، وبأنه لم يعشْ بدوره حياةً رغدة خاليةً من المنغصات، وأنه خضع للجراحة كآلاف البشر، وذاق شيئا من مرارتها، وأن جسده تعرض مثل بعضهم للمباضع والتشريط، ويعتزُّ أكيدا بشجاعته علامةَ القدرة على التحمل والاصطبار، وأن ما يحسه من ألم الجراحة وقسوتها يجعله غدا رؤوفا بالناس جميعا، حليما بالمريض والمصاب، لطيفَ المعاشرة مع القريب والغريب، سريعَ المساعدة لكل ضعيف ومحتاج، وقد كان يفعلها من قبل، ولكن بعد العملية يكون عطفه أكثرَ حنوا وحنانا، وأن تكون مبادرتُه أكثرَ سرعةً واستعجالا، ويتأكد عمليا من صحة قول الشاعر العربي: الناسُ للناس من عُرْب ومن عجمٍ
بعضٌ لبعض وإنْ لم يشعروا خدمُ
رافقناه ثلاثتُنا إلى المستشفى، وكنتُ مطمئنا إلى حد كبير لما رأيتُ على ملامح وجهه من هدوء لا يظهر عليه اضطراب، واستأنستُ من حديثه مرحا لا يدل على خوف، واستنتجتُ من مداعبته لأمه كأنه يشجعها ألا تهنَ ولا تحزن، شعرتُ وقتها، ونحن على مقربة من دخول المستشفى، بأنه في غاية الشجاعة ورباطة الجأش، وقد يكون حديثُنا معه المطوَّلُ أعطاه جرعةً معنويةً كافية من الاستعداد النفسي في مواجهة ما ينتظره، وقد بدت عليه علاماتُ إقدامٍ قوية، قد تكون أصيلةً فيه بالوراثة من أبيه وقومه، أو مكتسبةً من معاشرة أبيه الذي عرف عنه كيف تمرد على وضعه فتحدى الصعاب وظفر، وربما عرفه عند وعيه بالحياة واتساع مداركه بالمشاهدة، كيف خاض أبوه معارك الوجود على كل الجبهات فثبت وانتصر، وكيف تصدَّى بشدة وعنفوان لتمزيق الحبائل المنصوبة في طريقه بكل الدقة والاحتيال، والقنابل المزروعة أمامه، والقابلة في كل لحظة للتفجير والتدمير.
وبعد الإجراءات الإدارية بالمستشفى، صاحبنا نبيلَ إلى غرفته رقم 404، بالطابق الرابع، جناح البروفسور بارك الذي يُجري له العملية بنفسه، وتناولته الممرضاتُ ذواتُ القمصان البيض، يتهادين كحمائمَ هادلةٍ زاجلةٍ غدوا ورواحا، لا يتكلمن إلا رقةً وهمسا، ولا يمشين إلا خفةً ونشاطا، ولا يعملن إلا دقةً وإتقانا لأوامر الأستاذ الطبيب، والمدوَّنةِ مسبقا على سجِّلٍ بالثواني والدقائق. وتوالت الفحوصُ بمختلف الأجهزة الدقيقة العالية التقنيات لتشخيص أجزاء الجسم من كل أطرافه، و تقييس دقيق لنبضات القلب ودقاته، وتحليل لمناسيب الدم بسكره ودهونه، ولمدة ثلاثة أيام متتالية، وإخضاع المريض لحمية قاسية طيلة فترة الفحوص، إعدادا مدروسا محسوبا مطلوبا قبل إجراء العملية.
وواصلنا زياراتِنا له، وبقاءَنا بجانب سريره، نُضفي عليه من العطف والحنو ما يُشعره بعناية والديْه وعمه، وتأكَّدتُ من قوة صبر نبيل وقدرة تحمله، ورباطة جأشه، خلال تلك المراحل التي كان يخضع فيها لتلك الفحوص المرهقة المتعاقبة، وبعضُها حساسٌ متعبٌ ومؤلم، وبعضها مُتلفٌ للأعصاب ومُقرف،وبعضها مُقلقٌ للنفس ومخيف.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.