هذه تونس التي نعرفها. هذه تونس التي نحبها. ها هي تونس تسترجع ثورتها بهدوء، وتحمي مكاسبها عبر الزمن بكل قوّة وتبصّر. تونس انتهت من كتابة الدستور، وإن كان الأمر جاء متأخرا بعض الشيء، لكنها افتكت دستورا يحمي حقوق المرأة، ويكرس استقلالية العدالة وباقي المكاسب الديمقراطية، ليس لأن حركة النهضة الحائزة على أغلب المقاعد في المجلس التأسيسي، تحولت فجأة وصارت ديمقراطية وتقبل الآخر وتعترف بحق المرأة فأقرت المناصفة في الدستور، وإنما لأن تونس بورقيبة، تونس التفتح على الحضارة والعصر، ولأن نساء تربين على مكاسب اللائكية البورقيبية رفضن الخنوع، رفضنا أن تسرق منهن مكاسب حققتها المرأة التونسية عبر العصور، رفضنا أن تسيرهن قوانين مستوردة من شبه الجزيرة العربية مستوحاة من الفكر الوهابي الغريب على منطقتنا وعاداتنا شمال إفريقية، فقطعن الطريق على غلمان الغنوشي وعلى نساء النهضة الراضيات بالمثنى والثلاث والرباع. نعم ليست النهضة من تحولت إلى حركة ديمقراطية فجأة، ولا الغنوشي هو من كان وراء هذا الدستور الذي قدمه المجلس التأسيسي، وليس الغنوشي من يقف وراء حكومة جمعة التي تضم نساء جميلات شابات، وإنما المجتمع التونسي الذي بقي متمسكا بحقوقه، مدافعا عنها رغم التهديدات الإرهابية، فلم تزده الاغتيالات التي استهدفت ديمقراطيين في حجم البراهمي وشكري بلعيد، إلا إصرارا على الوقوف في وجه هذا السلفي الذي ارتدى لباس الإسلامي المعتدل وهو السلفي حتى النخاع، ليدخل في القالب الغربي الذي فرض علينا تجريب الحكم الإسلامي كحل اختارته لنا المخابر الأمريكية. نعم ليس الغنوشي الذي اختار هذا النموذج من الحكم ولا فصول الدستور، وإنما المجتمع المدني التونسي الذي وضع ظهر الغنوشي وحركته أمام الحائط، فلم يجد من بد غير الانصياع والرضوخ للشارع التونسي الذي بقي مجندا منذ الثورة، حماية لمكاسبها التي خرجت من أجلها نساء تونس ورجالها، نقاباتها العامة والمهنية وجمعياتها النسائية، ووقفت في وجه التيار الأصولي الذي حاول سلخ تونس من مجتمعها المسلم عبر قرون والذي للمرأة فيه مكانة قلما عرفتها نساء الغرب ولا أقول المرأة المشرقية ولا الخليجية، نعم لم تعرفها المرأة الخليجية، الخليج الذي يفتي أمراؤه اليوم علينا فقه الديمقراطية مع أن نساءه مازلن سجينات مجتمع منغلق يقبع في القرون الوسطى، وأستثني من هذا النمط المرأتين الكويتية والإماراتية اللتين تتميزن على نساء الخليج بالكثير من المكاسب التعليمية والانتخابية. لم أعد أخاف على تونس من هذا الغنوشي وإسلامه السياسي، ما دامت في تونس نساء واقفات، ومجتمع مدني ونقابات قوية لم تهزمها الخيانات والإرهاب مثلما حدث عندنا. فهنيئا لتونس التي تعطينا اليوم أروع مثال في النضال وفي حماية المكاسب الديمقراطية المحققة بفضل وعي المجتمع التونسي، حيث تحتل المرأة الصفوف الأولى، وهذا ليس بالجديد على أشقائنا هناك. ها هو بورقيبة الغائب يكسب معركة الديمقراطية على الغنوشي الحاضر، ويفرض عليه التنازلات واللجوء إلى التكتيك، مضطرا حتى لا يقع له ما وقع لنظيره المصري محمد مرسي، فما لحق تنظيم الإخوان الذي انضم إليه الغنوشي منقلبا على تياره السلفي، وما يعيشه اليوم مثلهم الأعلى أردوغان في تركيا من فضائح، أجبرت الغنوشي على استعمال التكتيك، ليبقى محتفظا بالسلطة مثلما أسر للتنظيم الدولي المجتمع من فترة قصيرة في تونس، حيث قال إن هذه التنازلات هي لربح الوقت وإنه لن يتخلى عن الحكم في تونس. لكنه سيطرد مثلما طرد الشارع المصري محمد مرسي إن هو حاول اللعب بذيله والانقلاب على المجتمع التونسي. لأعد إلى خيبتنا التي ليس لها مثيل، فهل سنستخلص عبرة من التجربة التونسية؟