تدفق الجمهور إلى قاعة "سينيماتيك" عنابة، مساء أول أمس، متعطشا لجرعة من الذاكرة الوطنية الحية، تزامنا مع إحياء اليوم الوطني للمجاهد المصادف ل20 أوت، ثلاثية سينمائية ثورية، حولت القاعة إلى فضاء زمني، أعاد سرد فصول من مقاومة شعب نحت تاريخه بالدم والنار والكلمة. لم تكن السينما في هذه التظاهرة مجرد شاشة تُعرض عليها صور من الماضي، بل نافذة مفتوحة على قيم النضال والتضحية والانتماء. وقد سعت وزارة الثقافة والفنون من خلالها، إلى ربط الأجيال الجديدة بجذورها الوطنية، عبر أعمال تحمل بعدًا فنيًا وتاريخيًا في آن واحد. تنوعت العروض بين السيرة الذاتية، والرمزية الفنية، والبطولة الواقعية، لتشكل في مجملها بانوراما سينمائية تروي تاريخ نضال الشعب الجزائري، بلغة بصرية تستنهض الوعي وتوقظ الانتماء. جاء افتتاح التظاهرة بعرض الفيلم التاريخي "ابن باديس"، من إخراج باسل الخطيب وبطولة يوسف سحايري، وهو عمل يتناول حياة العلامة الجزائري عبد الحميد بن باديس، أحد أبرز رموز المقاومة الثقافية في مواجهة الاستعمار الفرنسي. يأخذ الفيلم المشاهد في رحلة إلى بدايات القرن العشرين، حيث كانت الجزائر ترزح تحت نير الطمس الثقافي والاستلاب الفكري. وهنا يبرز دور ابن باديس في إحياء الشخصية الجزائرية، عبر التعليم والتربية وتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، رافعًا شعاره الخالد: الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا. تميز أداء يوسف سحايري بصدق التعبير وقوة الحضور، إذ جسد صراع شخصية إصلاحية في مواجهة آلة استعمارية شرسة، بلغة سينمائية متوازنة جمعت بين التوثيق والدراما. وأجاد المخرج باسل الخطيب في المزج بين البعد المعرفي والعاطفي، مما منح الفيلم قيمة خاصة. أما الفيلم الثاني "الطيارة الصفراء"، لمخرجه فريد بن تومي وبطولة محمد الأمين مداني، فقد شكل محطة رمزية مختلفة. يروي حكاية شاب جزائري يجد في اختراع طائرة صغيرة وسيلة للتعبير عن أحلام الحرية والانعتاق. لم يقدم الفيلم بطولات مسلحة ولا معارك دامية، بل نموذجًا لمقاومة فكرية وفنية، حيث ترمز الطائرة الصفراء إلى الحرية والانطلاق نحو مستقبل آخر، رغم بساطتها. اعتمد المخرج أسلوبًا سينمائيًا تأمليا، يترك للمشاهد مساحة للتفكير والتأويل. وقد نجح محمد الأمين مداني في نقل مشاعر الأمل والخوف والصراع الداخلي بروح هادئة عميقة، مما جعل من الفيلم تجربة فنية راقية. أما ختام العروض، فكان مع الفيلم القوي زبانة، للمخرج سعيد ولد خليفة، حيث جسد الممثل إيمانول كوركيا شخصية الشهيد أحمد زبانة، أول من نفذ فيه الاستعمار الفرنسي حكم الإعدام بالمقصلة يوم 19 جوان 1956. يعرض الفيلم محطات من حياته، منذ انضمامه إلى صفوف جبهة التحرير الوطني، وقيادته لعمليات فدائية، إلى لحظة اعتقاله ومحاكمته الجائرة، وصولًا إلى مشهد إعدامه الذي يُعد من أقوى مشاهد السينما الجزائرية لما يحمله من رهبة وعظمة. لم يكتف الفيلم بسرد الحدث، بل أدخل المشاهد إلى عالم السجون الاستعمارية وعوالم النفس الثائرة، مبرزًا كيف يتحول الإنسان البسيط إلى رمز خالد في الذاكرة الوطنية. وقد أبدع المخرج في توظيف زوايا التصوير والإضاءة الخافتة والموسيقى التصاعدية، ليجعل من الفيلم شهادة حية على أحد أعظم فصول الاستشهاد في تاريخ الجزائر. لقد أبرزت هذه العروض القيمة الحقيقية للسينما الوطنية كأداة للتعليم والتوعية وإحياء الذاكرة، بعيدا عن الخطابات الجوفاء أو التنميط المدرسي. وأجمع الحضور، خاصة من الشباب والطلبة، على أهمية هذه المبادرات في ترسيخ الحس الوطني والانتماء. كما فتحت النقاش حول معنى الوطن والحرية والهوية، وحفزت الجمهور على مطالعة التاريخ بعيون فنية تتجاوز الكتب والمقررات. لم تكن العروض مجرد ترفيه، بل وقفة تأمل في مسار وطن قاوم بالقلم والفكرة والسلاح. فابن باديس أعاد إلينا روح الإصلاح، والطيارة الصفراء ذكرنا بجمال المقاومة الهادئة، بينما زبانة ألهب فينا مشاعر الفخر والاعتزاز. إن استعادة هذه الأعمال في المناسبات الوطنية ليست مجرد ذكرى، بل رسالة: أن التاريخ لا يُروى فقط، بل يُعاد تمثيله ليبقى حيًا في قلوب الأجيال.