المستقرئ لتاريخ الأمم، والمتأمل في سجل الحضارات يدرك أن كلا منها يعيش تقلبات وتغيرات، ويواكب بدايات ونهايات، وهكذا الليالي والأيام، والشهور والأعوام، وتلك سنن لا تتغير، ونواميس لا تتدبل، ”ويُقَلّبُ اللَّهُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِى ذالِكَ لَعِبْرَةً لأوْلِى الأبْصَارِ”[النور:44]. إخواني القراء، أرأيتم لو أن ضيفًا عزيزًا ووافدًا حبيبًا حلَّ في ربوعكم، ونزل بين ظهرانيكم، وغمركم بفضله وإحسانه، وأفاض عليكم من بره وامتنانه، وأحبكم وأحببتموه، وألفكم وألفتموه، ثم حان وقت فراقه، وقربت لحظات وداعه، فبماذا عساكم مودعوه؟! وبأي شعور أنتم مفارقوه؟! كيف ولحظات الوداع تثير الشجون، وتُبكي المُقل والعيون، وتنكأ الالتياع، ولا سيما وداع المحب المُضنَّى لحبيبه المُعنَّى، وهل هناك فراق أشد وقعًا ووداعًا، وأكثر أسى والتياعاً من وداع الأمة الإسلامية هذه الأيام لضيفها العزيز ووافدها الحبيب، شهر البر والجود والإحسان، شهر القرآن والغفران والعتق من النيران، شهر رمضان المبارك.. لقد شمر الشهر عن ساق، وأذن بوداع وانطلاق، ودنا منه الرحيل والفراق، لقد قُوِّضت خيامه، وتصرمت أيامه، وأزف رحيله، ولم يبق إلا قليله. وقد كنا بالأمس القريب نتلقى التهاني بقدومه، ونسأل الله بلوغه، واليوم نتلقى التعازي برحيله، ونسأله الله قبوله. مضى هذا الشهر الكريم، وقد أحسن فيه أناس وأساء آخرون، وهو شاهد لنا أو علينا بما أودعناه من أعمال، شاهد للمشمرين بصيامهم وقيامهم وبرهم وإحسانهم، وعلى المقصرين بغفلتهم وإعراضهم وشحهم وعصيانهم، ولا ندري هل سندركه مرة أخرى، أم يحول بيننا وبينه هادم اللذات ومفرق الجماعات. ألا إن السعيد في هذا الشهر المبارك من وُفق لإتمام العمل وإخلاصه، ومحاسبة النفس والاستغفار والتوبة النصوح في ختامه، فإن الأعمال بالخواتيم. لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم ومن تبعهم بإحسان رحمهم الله يجتهدون في إتقان العمل وإتمامه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (كونوا لقبول العمل أشد اهتمامًا منكم بالعمل، ألم تسمعوا إلى قول الله عز وجل: ”إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ” [المائدة:27]) (أخرجه أبو نعيم في الحلية) ، ويقول مالك بن دينار رحمه الله: ”الخوف على العمل ألا يُتقبل أشد من العمل”(أخرج أبو نعيم في الحلية). هذا حال المشمرين، فعفوك يا الله لحال المقصرين، ألا فسلام الله على شهر الصيام والقيام، سلام الله على شهر التراويح والتلاوة والذكر والتسبيح، لقد مر كلمحة برق أو غمضة عين، كان مضمارًا للمتنافسين، وميدانًا للمتسابقين، ألا وإنه راحل لا محالة فشيِّعوه، وتمتعوا فيما بقي من لحظاته ولا تضيِّعوه، فما من شهر رمضان في الشهر عوض، ولا كمفترضه في غيره مفترض، شهر عمارات القلوب، وكفارات الذنوب، وأماني كل خائف مرهوب، شهر العبرات السواكب، والزفرات الغوالب، والخطرات الثواقب، كم رُفِعت فيه من أكفٍّ ضارعة، وذرفت فيه من دموع ساخنة، ووجلت فيه من قلوب خاشعة، وتحركت فيه من مشاعر فياضة، وأحاسيس مرهفة، وعواطف جياشة. هذا، وكم وكم يفيض الله من جوده وكرمه على عباده، ويمنّ عليهم بالرحمة والمغفرة والعتق من النار، لا سيما في آخره. أخي القارئ متى يُغفر لمن لم يُغفر له في هذا الشهر؟! ومتى يُقبل من رُدَّ في ليلة القدر؟! أورد الحافظ ابن رجب رحمه الله عن علي رضي الله عنه أنه كان ينادي في آخر ليلة من رمضان: (يا ليت شعري من المقبول فنهنيه، ومن المحروم فنعزيه). و ماذا عن آثار الصيام التي عملها في نفوس الصائمين؟! لننظر في حالنا، ولنتأمل في واقع أنفسنا وأمتنا، ونقارن بين وضعنا في أول الشهر وآخره، هل عُمرت قلوبنا بالتقوى؟ هل صلحت منا الأعمال وتحسنت الأخلاق واستقام السلوك؟ هل اجتمعت الكلمة وتوحدت الصفوف ضدَّ أعداء الأمة؟ هل زالت الضغائن والأحقاد وسُلَّت السخائم من النفوس؟ .. وهل هل..؟ يا من استجبت لربك في الصيام والقيام، استجب له في سائر الأعمال وفي كل الأيام. إنَّ الأمة الإسلامية وهي تودع موسمًا من أعز وأحلى وأفضل وأغلى أيام وليالي العمر ما أحراها وهي تودع شهرها أن تودع الأوضاع المأساوية، والجراحات الدموية، التي أصابت مواضع عديدة من جسدها المثخن بالجراح، ما أحراها أن تتخذ الخطوات الجادة والعملية لوقف نزيف الدم المسلم المتدفق على ثرى الأرض المباركة فلسطين المجاهدة، وفي سوريا الحبيبة وبلاد الرافدين وليبيا..فهل يعجز المسلمون وهم أكثر من مليار مسلم أن يتخذوا حلا عادلاً يحقن دماء المسلمين، ويعيد لهم أمنهم ومجدهم وهيبتهم بين العالمين؟! هل تودع الأمة الإسلامية - وهي تودع شهرها - التخاذلَ الكبير تجاه قضيتها الأولى، قضية أولى القبلتين ومسرى سيد الثقلين، المسجد الأقصى المبارك - أقر الله الأعين بفك أسره وقرب تحريره - الذي يرزح تحت وطأة العدوان الصهيوني الغاشم، ويستنجد ولا مجيب، ويستغيث ولا ذو نخوه يتحرك.. إخواني القراء لقد شرع لكم مولاكم في ختام شهركم أعمالاً عظيمة، تسدُّ الخلل، وتجبر التقصير، وتزيد المثوبة والأجر، فندبكم في ختام شهركم إلى الاستغفار والشكر والتوبة ”وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” [البقرة:185]. كما شرع لكم زكاة الفطر شكرًا لله على نعمة التوفيق للصيام والقيام، وطهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، وتحريكًا لمشاعر الأخوة والألفة بين المسلمين، وهي صاع من طعام من برّ أو نحوه من قوت البلد كالأرز وغيره، فيجب إخراجها عن الكبير والصغير والذكر والأنثى..ويجوز إخراجها نقداً وذلك مراعاة لحاجات العصر ومتطلباته ولقد قدرت وزارة الشؤون الدينية قيمتها ب100دج عن كل فرد تعوله. والأفضل إخراجها ما بين صلاة الفجر وصلاة العيد، وإن أخرجها قبل العيد بيوم أو يومين فلا حرج إن شاء الله. فأدي أخي زكاة الفطر طيبة بها نفسك، فقد أعطاك مولاك الكثير وطلب منك القليل. أخي الله الله في الثبات والاستمرار على الأعمال الصالحة في بقية عمرك واصل المسيرة في عمل الخير، وحثّ الخطى في العمل الصالح، لتفوز برضا المولى جل وعلا.