يزداد الوضع الأمني في ليبيا تفاقما مع إنتشار واسع للسلاح نتيجة "غياب سلطة مركزية" كفيلة بفرض سيطرتها على كامل التراب الليبي ما من شأنه إفشال مسار العملية السياسية في البلاد و إفراز تداعيات سلبية قد تؤثر على دول الجوار. وبعد أكثر من سنتين من سقوط النظام السابق في ليبيا لازالت مظاهر العنف تسيطرعلى الوضع في البلاد حيث أسفرت في آخر حصيلة لها عن مقتل 43 شخص وإصابة أكثر من 460 آخرين في منطقة غرغور وسط العاصمة طرابلس وذلك بعد مطالب شعبية بإنهاء سيطرة التشكيلات المسلحة غير الشرعية والحد من مظاهر التسلح في المدينة. وأرجع محللون سياسيون سبب تأزم الوضع و تصاعد وتيرة العنف في ليبيا إلى"غياب سلطة مركزية تحظى بإجماع كل الليبيين"و فشل الحكومة الإنتقالية في فرض الأمن على كامل التراب الليبي مقابل إنتشار مجموعات مسلحة ومحاولتها خلق توازنات قائمة على أساس القوة. ويرى المختص في العلوم السياسية و العلاقات الدولية الدكتور محند برقوق في تحليل ل(واج)أن "العنف في ليبيا هو الآن في بدايته و سيزداد تفاقما و ذلك لعدة أسباب أهمها غياب سلطة مركزية تحظى بإجماع كل مواطني ليبيا حيث أننا نرى حاليا تراجع لمستوى تقبل المواطنين الليبيين لهذه الحكومة والمطالبة بفعالية أكثر". ويضيف الدكتور برقوق أن وجود "حركات تفكيكية"على غرار تلك المتواجدة ب"برقة" و"فزان" تطالب بتصور آخر لدولة ليبية لا تقوم على الدولة الوحدوية بقدر ما تقوم على شكل من أشكال التركيبة الفدرالية ساهم في تأجيج الوضع. كما يرجع الدكتور برقوق سبب الإنفلات الامنى "غياب أي أطر للإدارة الأمنية في البلاد و الإفتقاد لسلطة أمنية وعسكرية موحدة ذات فعالية ميدانية مقابل تفشي مظاهر العنف الناتج عن تواجد عدة مراكز للتسلح غير المشروع أو ما يسمى بالميليشيات ذات الإنتماء القبلي والتي تقترب أحيانا إلى شكل من أشكال الإرهاب خاصة مع وجود إرتباطات بين المحسوبين على الجماعات الإرهابية التي شاركت في إسقاط النظام السابق وبين الميليشيات المسحة في شكلها الراهن" حسب السيد برقوق. ويتوافق الأستاذ الجامعي إدريس شريف مع هذا الطرح حيث أوضح ل(واج) أن هذه الميليشيات "تظن أن لها المشروعية في فرض نفسها ما دامت السلطة غير قادرة على بسط سيطرتها على كامل التراب الوطني"واصفا هذه الوضعية بمثابة "العنف بطريقة مقننة لإكتساب المشروعية في احتكار العنف و فرض النظام الذي هو في الأصل من اختصاص السلطة المركزية". و ذكر الاستاذ شريف أن "الميليشيات كانت منتشرة في وقت نظام الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي الذي افتقد لدولة المؤسسات لاسيما المؤسسات العسكرية" موضحا أن "الوضع تكرر من جديد بظهور الميليشيات ذات طابع عشائري و قبلي التي ساهمت في إسقاط القذافي و التي أصبحت تعتبر نفسها المحتكر الشرعي لمنطقتها". كما ساهمت السلطات الإنتقالية في إضفاء نوع من الشرعية على هذه الميليشيات حيث أنه بعد سقوط نظام القذافي في أكتوبر 2011 أوكلت السلطات الانتقالية إلى "الثوار السابقين" مهمة مراقبة الحدود والسجون والمنشآت الإستراتيجية كما وزعت منحا مالية على المقاتلين الذين ورثوا ترسانة عسكرية كبيرة في نهاية النزاع في 2011 ما أضفى على هذه الميليشيات شعورا بالإفلات من العقاب. -- تداعيات الوضع الراهن في ليبيا على الصعيدين الداخلي و الخارجي -- كما أن هذا الوضع الأمني المتأزم في ليبيا يطرح العديد من المخاوف على الصعيدين الداخلي و الخارجي خاصة و أن البلاد لا تزال تحت طائلة البند السابع من ميثاق الأممالمتحدة الذي يسمح بالتدخل الأجنبي لحماية المدنيين وهي الذريعة التي تدخل بموجبها حلف الشمال الأطلسي لإسقاط نظام القذافي باسم القرار الأممي 73-19. كما أن هذه الأزمة ستلقي بظلالها على مسار العملية السياسية داخل البلاد التي تعيش مرحلة إنتقالية خاصة مع تنامي ظاهرة فرض الآراء باستعمال القوة والإغتيالات السياسية ما من شانه تهديد مصير الحكومة الإنتقالية وبالتالي إفشال خارطة الطريق التي يفترض أن تصل بالبلاد إلى توافق مبدئي على الأقل. كما تتعرض البلاد لمخاوف التقسيم على خلفية المطالب الفيدرالية التي تنادى بها بعض المجموعات وحول مدى إمكانية تجسيد الطرح الفيدرالي في ليبيا أوضح السيد برقوق أن البناء الحقيقي للدولة لا يجب أن يكون على مواقف لأفراد أو مجموعات قليلة مشيرا إلى أن مطالب التقسيم الفدرالي في كل من برقة (شرق) وفزان (جنوب) قائمة على إعتبارات آخري لا تصب في مصلحة الشعب الليبي. أما على الصعيد الإقليمي فقد حذر السيد برقوق من انه في "حال بقاء الوضع على ما هو عليه فإن ليبيا تتجه لأن تكون حاضنة للإرهاب في المنطقة و هو ما سيؤتر على دول الجوار خاصة وأنها تتقاسم جزءا كبيرا من حدودها مع دول تعيش هي الأخرى توترات أمنية وسياسية على غرار تونس مصر و مالي". من جهته لم يستبعد السيد شريف أن يكون لهذا الوضع انعكاسات ليس فقط على ليبيا وانما أيضا حتى على الدول المجاورة والتي قد تشهد ظهور موجة من المهاجرين نتيجة تكرار الاشتباكات بين الميليشيات وهو ما سيثقل كاهل الدول التي تعرف استقرارا في المنطقة. كما أن قرب ليبيا من الساحل وضعف إدارتها الأمنية وضعف تأمين الحدود بالإضافة إلى انتشار الأسلحة سيضاعف من احتمال امتداد "العنف الإرهابي من الساحل إلى بعض الدول الإفريقية الأخرى" وهو ما يثير قلق العديد من الأطراف الأفريقية والدولية حيث أكد وزير الخارجية المالي وهابي ولد سيدي محمد مؤخرا أن "المشاكل الأمنية في منطقة الساحل هي بسبب الوضع في ليبيا و لن نستطيع حل مشاكل الحدود و التهريب و الهجرة دون ضمان إستقرار و أمن ليبيا". كما دعت البعثة الأممية للدعم في ليبيا إلى الوقف الفوري لكل أشكال العنف وضمان أمن و استقرار المواطنين معربة عن قلقها من تداعيات الوضع على المنطقة في حين أعربت مفوضية الأممالمتحدة لحقوق الإنسان عن إدانتها لاعتقال الميليشيات المسلحة للعديد من الأفراد مطالبة ب"الإفراج الفوري عنهم دون تأخير أو تسليمهم للقضاء للتحقيق معهم" كما دعت جميع الأطراف في ليبيا إلى "ضبط النفس والدخول في حوار سلمي لتجنب تصاعد العنف". وذكر السيد برقوق في ذات السياق أن الجزائر كانت من أوائل الدول التي دعت إلى تجنب العنف وحذرت من إنتشار السلاح و إتساع رقعة الإنفلات الامنى في حال سقوط النظام السابق مشيرا إلى فشل الجامعة العربية و الإتحاد الإفريقي في التعامل مع الوضع في ليبيا.