تظل حادثة فرار خمسة مجندين جزائريين في صفوف الجيش الإستعماري (أبريل 1957 ) بعدتهم وعتادهم من ثكنة كانت تحمل إسم " المكتب الثاني" الواقعة بجبل مطل على مدينة غرداية والتي تحولت اليوم إلى فندق "الرستميين" شاهدا لاندلاع أول عمل عسكري ضد الإستعمار بسهل ميزاب. ويشكل هذا العمل الفدائي الذي سيظل محفورا في الذاكرة الجماعية بوادر أولى لانتشار وتوسع حرب التحرير الوطنية ضد قوات الإحتلال الفرنسي عبر كافة التراب الوطني. وكثيرا ما تطرح مسألة فرار الشباب المجندين في صفوف جيش الإحتلال الفرنسي والذين التحقوا بصفوفه لأسباب متعددة ترتبط في الغالب بظروف العيش والبؤس والبطالة عدة إستفهامات وأفكار مسبقة ودورهم في تموين بالسلاح حركة المقاومة الوطنية والمجاهدين. ويجمع كل المشاركين في الثورة التحريرية المجيدة بهذه المنطقة أن واحات غرداية قد اختيرت من قبلهم لتكون قاعدة خلفية للتموين بالمواد الغذائية والأسلحة لعديد مجاهدي مناطق جبل عمور وبريزينة والبيض مثلما شرح ل"وأج" مجاهد من المنطقة. وتم تكوين هؤلاء المجندين الستة الفارين من الجيش الإستعماري الفرنسي بمنطقة جانت بالجنوب الشرقي للوطن حيث تم إعادتهم ثكنة غرداية مطلع 1957 للقيام بمهام قمع كل تحرك ثوري بالمنطقة وتقديم المساعدة للجيش الفرنسي كما يروي بنبرة لا تخلو من الحنين لذكريات الثورة المجيدة المجاهد عمي علي بوسماحة أحد صانعي هذه العملية والذي حكم عليه بالإعدام لمرتين من قبل المحكمة الدائمة للقوات المسلحة لمنطقة شرق الصحراء. ويروي هذا المجاهد السبعيني القاطن بمنزل يقع بأحد الشوارع الضيقة بحي ثنية المخزن الشعبي بغرداية والمعروف لدى الجميع على مدار ساعات ذلك المصير الغريب الذي حصل له ولرفقائه في السلاح وهو ينحدرون جميعا من منطقة ورقلة. " لقد تم توجيهنا إلى ثكنة غرداية بمهمة محددة ننفذها تحت وصاية الجيش الإستعماري الفرنسي والتي تتمثل في الخفارة والدوريات والقيام بالأعمال الشاقة مع التبليغ بكل المعلومات وعتاد نواة منظمة جبهة التحرير الوطني بقيادة محمد جغابة" كما ذكر المتحدث في شهادته. وأضاف المجاهد عمي علي " كنا نقوم بالاستعلام حول عمليات وتحركات جيش الإحتلال الفرنسي بالجنوب وبتموين أيضا بالذخيرة التي تخزن وارسالها نحو مناطق المعارك بالأوراس والقعدة بمنطقة آفلو " مشيرا " أن الفرار من صفوف جيش العدو قد تم تأخيره بأمر من مسؤولي الثورة بسبب العمل الرائع الذي كنا نقوم به بخصوص الإستعلام . " و في تزامن أثار الكثير من الحيرة ونضج سياسي كامل قررنا المرور إلى العمل في اليوم الأول من شهر رمضان المعظم في أبريل 1957" يضيف المتحدث. عملية تم التحضير لها بكل دقة "كل شئ كان محضر بكل دقة حيث إتفقنا على الإستلاء على أكبر عدد ممكن من الأسلحة والذخائر مباشرة بعد شق الصيام والقبض بشكل سريع لعدد من الجنود الفرنسيين وقطع الكهرباء وخطوط الهاتف قبل الصعود في شاحنة تعود إلى أعمر بن خليفة المدعو بلعجال في اتجاه مدينة متليلي مرورا بمدينة بني يزجن" كما تروي شهادات عدد من المجاهدين بغرداية. وفي فجر اليوم الثاني من رمضان الكريم (أبريل 1957) أغار الجنود الفرنسيين وبإسناد من طائرات هيلوكوبتر على منطقتي ميزاب ومتليلي في مطاردة واسعة بحثا عن الفارين الخمسة التي كانوا مختبئين في مواقع مهيأة متواجدة بشبكة متليلي التي أنشئ بها أول فوج من مجاهدي المنطقة قبل الالتحاق بمنطقتي البيض والأوراس. وفي رد فعل عن هذه العملية ن نفذت قوات الإحتلال الفرنسية أعمالا إنتقامية ضد السكان المحليين حيث تم استدعاء عدة وحدات عسكرية كما أوضح المجاهد محمد جبريط المسؤول السابق للمنظمة الوطنية للمجاهدين بغرداية. وقد خلفت عملية الفرار أثرا رائعا ووعيا لدى سكان المنطقة وفي بروز نضج سياسي بأهمية نشر الثورة التحريرية عبر مجموع التراب الوطني كما أضاف المتحدث. ومن جهته أوضح المجاهد عمر بن خليفة أن انخراط السكان في مكافحة الإستعمار مما سمح أيضا بدعم صفوف مجاهدي جيش التحرير الوطني قد تطلب عدة تضحيات سواء على مستوى التموين بالذخيرة الحربية و السلاح أو على مستوى التدعيم بالموارد البشرية. إنشاء عدة شبكات لدعم الثورة المسلحة بالمنطقة وسمحت هذه الملحمة للفارين الجزائريين من صفوف جيش العدو بغرداية بتكريس الإلتزام الثابت والغير قابل للتراجع لمجموع الجزائريين بالقضية الوطنية. ومن بين الخمسة فارين هناك إثنان منهم قد ألقي القبض عليهم وسلاحهم بين أيديهم بعد مواجهة مع قوات الإحتلال الفرنسي بمنطقة غرداية واللذان تم تقديمهما أمام القضاء العسكري الذي أدانهما بعقوبة الإعدام في سنة 1960 قبل أن يتجنبوا المقصلة بفضل استعادة السيادة الوطنية. أنشئت عدة شبكات لدعم الثورة المسلحة بالسلاح والذخائر الحربية وغيرها من وسائل التموين بمناطق القرار وبريان والعطف و مليكة ومتليلي وأيضا بالمنصورة من قبل مواطنين محليين للسماح للمجاهدين بجبهات الشرق والغرب بالتموين بفضل قوافل الجمال الذين كانوا على دراية بالمسالك الآمنة القاحلة كما ذكر مجاهدون بغرداية.