عندما سلّمني الصديق المبدع عز الدين ميهوبي نسخة من كتابه الأخير·· ''ما لم يعشه السندباد''، لم أكن أتوقع أن أقرأه في ذات الليلة وبنفس واحد، لأنني كنت متعبا ومرتبطا بمواعيد مكثفة·· لكن ما أن حاولت تصفح الكتاب وأنا أغادر المكتبة الوطنية حتى انقلبت كل خططي رأسا على عقب، اعتذرت للأصدقاء الذين كنت على موعد معهم، وتوجهت رأسا إلى البيت، وبعد أن أخذت حماما دافئا، عدت إلى الكتاب من جديد لأقرأه وبنفس واحد إلى غاية ساعة مبكرة من الصباح··· وبرغم التقديم الجميل للكاتب عمار يزلي للكتاب، إلا أنني وجدت العنوان والتقديم خادعين، فالكتاب لا ينتمي إلى أدب الرحلات، بل ما يمكن أن أسميه إلى أدب الذكريات·· فالمادة التي عاد عز الدين للحفر فيها من خلال عملية التذكر تركزت حول جولاته ورحلاته بالرغم من لغتها الشفافة والجذابة والساخرة والمتهكمة، إلا أنها كانت أقرب إلى فن الكرونيكا التي تجمع بين جمالية الكتابة الأدبية ودهشة فن المقالة وشفافية التأمل الفلسفي المتخفي وقوة الشهادة الحية والزاخرة بالنص الإنساني·· تحيلنا الفصول، بالمعنى التاريخي العربي لكلمة الفصول على زمن التفككات الدامية التي عاشتها بشكل تراجيدي ولو في فترات متباينة كل من العراق، السودان، يوغسلافيا والجزائر، لكن تحيلنا أيضا إلى زمننا الفجائعي الذي عشناه ضمن عالم يكاد يكون تراجيعبثي بأبوابه المغلقة··· اختار عز الدين اللحظة الفردية والحميمية والتجربة الإنسانية الخاصة ليروي لنا بعين متأملة هذا التاريخ غير المكتوب وغير المفكر فيه وذلك عبر الصور والحكايات الحية ولحظات الخوف والفزع، ولحظات مواجهة صدمة الإنهيارات والتداعيات ليضعنا عراة أمام أنفسنا في بؤرة اسمها بؤرة المأزق المربك للعقل والتذكر على حد سواء·· الذكريات تتحول عند عز الدين إلى دعوة محرضة ليس فقط على استعادة الزمن بكل أطيافه وألوانه ومذاقاته بل تأمله من موقع آخر، وبعين جديدة، لأن هذا الزمن الذي كان ينساب أمام أعيننا ومن بين أيدينا لحظة معيشته، هو الذي انبعث وينبعث أمامنا الآن، من خلال ما تعيشه المنطقة العربية من تمزقات وتمردات وفجائع وآمال مخضبة بالدماء ومقعرة بالرصاص·· لا أخفي أني سعدت غاية السعادة بقراءة ''ما لم يعشه السندباد'' لأنه منحني تلك اللذة الروحية والعقلية التي تساعدك على تحمّل الحياة وما يحدث في هذا العالم من فظائع وحروب وضغائن، وفي الوقت ذاته تجدد في أغوارك انبعاث ذاك النداء المتجذر والعميق الذي يدفعك إلى القول أن الحياة، حياتنا لابد أن تعاش برغم أهوالها··· لأنها ببساطة هي روح ويافطة المعنى الجميل للوجود···