قال إن المركزية النقابية ستراجع منهجية عملها مستقبلا: تاقجوت يثمّن إجراءات الرئيس تبون لصالح العمال    لرفع العراقيل عن شركات النقل واللوجيستيك: إطلاق منصة رقمية لصندوق ترقية الصادرات اليوم    سوناطراك: توقيع بروتوكول تفاهم مع الشركة الأمريكية "إتش جي آر إنيرجي"    حملوه نقل تحياتهم إلى رئيس الجمهورية: العرباوي يلتقي الرئيسين الكيني والموريتاني ورئيس الوزراء الإثيوبي    عطاف في مكالمة هاتفية مع نظيرته السنغالية: الجزائر تريد مرحلة جديدة في علاقتها مع السنغال    عرقاب يؤكد من إيطاليا: الجزائر ملتزمة بتعزيز دورها كمزود موثوق به للطاقة    بتهم ارتكاب جرائم إبادة جماعية    في انتظار ضبط تاريخ نهائي الكأس: تأخير موعد الجولة 25 لبرمجة مواجهتين مؤجلتين    بعد سقوط الكاف في مستنقع الأخطاء    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي    رابح بيطاط.. مسار مجاهد من التحرير إلى البناء    الاحتلال يفشل في تشويه "الأونروا"    سياسة الاحتلال الصهيوني الأخطر في تاريخ الحركة الأسيرة    هكذا يُمهّد الصهاينة لاجتياح رفح..    مجلس الأمة يشارك في منتدى حوار الثقافات بأذربيجان    نظام جديد لتشفير بيانات متابعة طلبات الاستيراد    الشروع في تنفيذ غراسة نموذجية لإنتاج شتلات الأرقان    ترقية التعاون بين "كوصوب" وهيئة قطر لأسواق المال    بهدف القيام بحفريات معمقة لاستكشاف التراث الثقافي للجزائر: مولوجي:منحنا 152 رخصة بحث أثري على المستوى الوطني    تظاهرات مُكثّفة.. وإبراز المكاسب العريقة    هذه الأمور تصيب القلب بالقسوة    محرز يقود ثورة للإطاحة بمدربه في الأهلي السعودي    بلومي يُشعل الصراع بين أندية الدوري البرتغالي    شباب بلوزداد يستنكر أحداث مباراة مولودية وهران    أنديتنا أظهرت مستوى رفيعا بالموعد القاري في وهران    بن شيخة يغادر العارضة الفنية    مفتشتان من وزارة الريّ بعنابة    عرض محاور إستراتيجية الجزائر لتعزيز الأمن الغذائي    "حماس" ترد على مقترح إسرائيل بوقف إطلاق النار 40 يوما    الأربعاء 1 ماي عطلة مدفوعة الأجر    اتفاق على ضرورة تغيير طريقة سرد المقاومة    إبراز أهمية إعادة تنظيم المخازن بالمتاحف الوطنية    منتخبو بلدية المحمدية ينهون حالة الانسداد    لا بديل عن تعزيز الجهود لدعم ومرافقة مشاريع تربية المائيات    بن رحمة يُهدي البياسجي اللقب!    الأمن السيبراني : ورشة حول الاستراتيجية الوطنية لأمن الأنظمة المعلوماتية    الشرطة تواصل مكافحة الإجرام    مصادرة 100 قنطار من أغذية تسمين الدجاج    لا أملك سرا للإبداع    إخماد حريق شب في منزل    الجزائر تتحول إلى مصدّر للأنسولين    استئناف حجز التذاكر للحجاج عبر مطار بأدرار    عنابة: حجز قرابة 30 ألف قرص مهلوس    مهرجان عنابة.. فرصة مثالية لاسترجاع جمهور السينما    الكيان المجرم فشل في تشويه "الأونروا"    الوريدة".. تاريخ عريق يفوح بعبق الأصالة "    موعد عائلي وشباني بألوان الربيع    سنتصدّى لكلّ من يسيء للمرجعية الدينية    هنية يُعبّر عن إكباره للجزائر حكومةً وشعباً    ذِكر الله له فوائد ومنافع عظيمة    الجزائر وفرت الآليات الكفيلة بحماية المسنّين    العالم بعد 200 يوم من العدوان على غزة    دورة تدريبية خاصة بالحج في العاصمة    عون أشرف على العملية من مصنع "نوفونورديسك" ببوفاريك: الجزائر تشرع في تصدير الأنسولين إلى السعودية    تعزيز القدرات والمهارات لفائدة منظومة الحج والعمرة    نطق الشهادتين في أحد مساجد العاصمة: بسبب فلسطين.. مدرب مولودية الجزائر يعلن اعتناقه الإسلام    لو عرفوه ما أساؤوا إليه..!؟    أهمية العمل وإتقانه في الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



6 روائيون يتحدثون عن روايتهم الأولى
نشر في الجزائر نيوز يوم 06 - 07 - 2009

نعرف جميعنا كم هي صعبة مغامرة الرواية الأولى، كم هي صعبة وكم هي مدهشة عندما يقرر كاتب في لحظة ما أن يخوض تجربة سرده الطويل لأول مرة ماذا يحدث بداخله؟ وكيف يفكر في تلك العملية؟ هل يشعر بأنه يبحث عن شيء أكبر يعزز به وجوده الأدبي؟ هل هي ثمرة امتحان طويل من المحاولات البدائية قبل أن يحدث ذلك
البركان الذي يفضي لرواية ما، كل شيء وارد طبعا مادامت الرواية هي الأولى، أي هي المغامرة التي لا يعرف نتائجها أحد قد تنجح، وقد تجد طريقها لقرائها المفترضون بسرعة، وقد تحتجز من البداية، وتلعن ويكفر صاحبها، وقد يفتح لها باب النجاح من حيث تنتظر أو لا تنتظر· الرواية الأولى تبقى المغامرة الأكثر تأثيرا في تجربة الكاتب دون شك ولهذا تحتاج لاحتفاء خاص بها
الروائية ياسمينة صالح ''بحر الصمت'' هي ابني الأجمل
داخل (رواية) يمكنك أن تصغي إلى قلب وحيد يجهش بالبكاء/ على رأي الشاعر /جون كوكتو/··
لا أنكر أن رواية /بحر الصمت/ روايتي الأقرب إلى قلبي لما تحمله في ذاتي من مكانة مرتبطة بأشياء جميلة و حارة، لعل أهمها فوز الرواية بأهم جائزة روائية في الجزائر و هي جائزة مالك حداد و إشادة النقاد العرب بها، بيد أن الذي يربطني بالرواية أيضا إحساسي أنها الابن الأجمل في حياتي، ربما لارتباط الرواية أيضا بمرحلة حياتية صعبة، حيث ما زلت أتذكر صوت الرصاص غير بعيد من منطقة سكناي وقتها، أيام كنت أنقر على الآلة الكاتبة ( في زمن لم يكن فيه الكمبيوتر متوفرا للجميع)، و إحساسي الأزلي بذلك الخوف العجيب الذي كان يساير أناملي و أنا أنقر على الآلة! أنا أعي أن الكاتب لا يرتبط بأعماله مجازا، بل عن حاجة ماسة إلى استعادة ذاكرته عبرهم، و هو ما أفعله أنا نفسي، و كلما تصفحت من جديد تلك الرواية بعد سنوات من كتابتها، أجدني أكتشف أنني ما زلت أتذكر أدق تفاصيل الأجواء التي عشتها قبل و أثناء و بعد الكتابة، و كما قال / غارسيا/ أن الكاتب يترك أناته في كتاب، فأعتقد أنها قريبة إلى الحقيقة، باعتبار أن الكتابة لم تعد ترفا، بقدر ما هي حالة من التأريخ بطريقة ما!
ما زلت أعتبر /بحر الصمت/ ابني الأجمل، ليس لأني لم أكتب أفضل منها، بل لأن الرواية أشبه بالابن البكر! و كل أم تنحاز آليا إلى ابنها البكر عن حاجة إلى تلمس ذاته البسيطة و العميقة كفرح يأتي فجأة·· أشعر قبالة /بحر الصمت/ أنني مشيت باتجاه الحريق بكامل وعيي و إرادتي أيضا، ربما عن رغبة، و عن حلم في ذات الوقت، فأن تكون كاتبا فأنت تحقق جزء من حلمك على رأي/ أراغون/، بينما بقية الحلم يبقى في استمرار الكاتب في تسريب أشيائه من ثقوب الكلام! أذكر سؤالا طرحه علي صحفي عربي يسألني: لو كتبت بحر الصمت اليوم هل سأغير شكلها على ما كتبته أول مرة؟ قلت له أنني لا أجيد (الاستيتيك) العمليات التجميلية، و أن البشاعة لن تكون في شكل الأشياء بقدر ما تكون أحيانا في عدم قدرتنا على استيعاب الجمال في الزوايا المحاطة بذات الأشياء، فقبالة ليل مظلم يمكننا تخيل شكل نهار سيولد عما قليل! و لو أعدت كتابة رواية / بحر الصمت/ فسوف أكتبها كما كتبتها أول مرة، بنفس الرغبة و الإصرار و الجنون و الخوف و الفرح و الأمل و······· الحب!
الروائية أمينة شيخ :كنت أعلى الموت في ''أسفل الحب''
عندما داهمتني صورة تلك الفتاة العشرينية التائهة في بلكور لم اكن اعرف من هي، لم اكن اعرف حتى انها ستكون /حياة/ بطلة لروايتي الأولى، وعندما سألني /بشير/ أن أقول روايتي الأولى لم اعرف ما اقول، تماما كاحد يطلب منك ان تحكي تجربة الحمل الاول، الولادة الاولى، وأول نظرة إلى ابنك الاول·
حقيقة كانت روايتي الاولى تشبه في تفاصيل تكوينها حملي الاول والذي جاء بعد اتمامها بشهور قليلة، الفكرة كانت فجائية تكونت في لحظة نشوة ما، ثم راحت تطاردني، صورة تلك الفتاة ، طفولتها، حياتها، هواجسها الخاصة سكنتني لأكثر من عام، لا افكر في شيء سواها،لا اعاشر نصا الاها و لا استطيع البوح لأحد بما يعتريني من أحاسيس جرائها، حتى /اسماعيل/ الذي لا اخفي عنه شيئا لم أكن احكي له شيئا فقد كان شأنا خاصا وخاصا جدا، كانت /حياة / تتبعني حيثما اذهب وانا في البيت اقوم بواجبات امراة عربية، في السوق، في قاعة الشاي، في مكالماتي العاطفية سكنتني، كما سكنتني فكرة ان انسان يتكون بداخلي، ولم تكن الولادة سهلة، كانت قيصرية، كانت الكلمات تخرج ببطئ، تخون الخيال وتخون حتى /حياة/ انا، لم اكتب كل ما روته حياة، ما وشوشته في اذني كتبت النزر القليل الذي كانت تحتفظ به ذاكرتي حين اقابل شاشة الكمبيوتر، واضطرب لم أكن أريدها بنتا مشوهة، كنت اريدها كاملة، ابطأت فيها وتباطأت، قابلت احد الاصدقاء فسالني عنها، قلت لازلت احملها، فقال الرواية الأولى يجب الا تبطئ يجب ان نلفظها بسرعة، اللهم الا اذا عرفت انها ستكون علامة فارقة في الرواية، غضبت منه يومها، كيف يتجرأ، يجب ان اتقنها، انسجها، انها روايتي الاولى، و حتى ان لم تكن شيئا بالنسبة لك هي تعني لي الكثير·
لا اعرف لماذا هذه بالذات التي استطعت اتمامها، بدات الكثير و لم اقدر تجاوز الفصل التاني، هذه بالذات جننتني،عاشتني وعشتها، هل كتبت نفسي ربما، هل كنت انا/ حياة/ ربما، يقولون ان الرواية الاولى لا تستطيع ان تخرج عن الذاتية و انها في العادة لا تكون سوى سيرة ذاتية مشوهة، ربما هي سيرتي، ربما هي حياتنا جميعا نحن الذين تقاسمنا هذا الوطن و تلك الشوارع، كنت اذهب الى بلكور ابحث عن /حياة/، أخيها وعن قبورها، ابحث في الوجوه عن وجه/ سمير/، ربما اجده وادله عن مكانها حتى يجتمعا وتكون لي حصتي من الفرح بنهاية سعيدة، لم اجد احدا ولم أجد النهاية التي عذبتني أيضا·
وكأنني لم أكن أريد ترك عالمها، وكأنني كنت أريد أن أواسي /حياة/ في بؤسها ولكنني ابقى أتخيل بل واصدق انه هناك في مكان ما من هذا العالم الواسع /حياة / و /سمير/ يصنعان النهاية التي اختاراها ولم يدلاني عليها، هل انا أتأله الآن وازعم أنني صنعتهما صنعت قدرهما، ربما وربما هما صنعاني برواية يكتبانها في مكان ما، كم كنت اضحك من الروائيين الذين يتكلمون بهكذا ترهات وها أنا أصبح مثلهم، لست ادعي اني روائية ولكنني كاتبة كتبت شيئا قد يسميه البعض رواية استنادا الى قواعد نقدية ونظريات أدبية، وقد لا يعطيها البعض هذا الشرف استنادا الى نفس المعايير ولكني اعرف أني كنت وفية للاشباح التي سكنتني فكتبت ما املته علي وفقط·
عندما خرجت الرواية/ طبعها الناشر/ اتصل بي فاحسست بخوف كبير، ورحت مهرولة لأرى ابنتي، كنت خائفة الا تشبهني لا تشبه تصوري، والرواية في الكتاب تختلف تماما عن المخطوط، رحت اقراها وكأنني أقراها لأول مرة، اكتشف اخطاء لم اكتشفها وافرح لأجزاء لم اعرها اهتماما، ثم تاتي صدمة القارئ عندما كنت اكتب لم يكن يهمني المتلقي بقدر ما كان يهمني كيف ارفع هذا الهم من صدري ، كيف اتقياها وانتهي منه وما إن خرجت إلى الوجود وصارت- كائنا حيا- صرت اخاف علي، عليها من راي القارئ، ماذا سيقولون هل سيقراها احد ام انها ستبقى مكدسة بين رفوف المكتبات، وانتقلت بعض من النرجسية الي، ها صار اسمي يكتب على ظهر كتاب وانقطعت أحلى علاقة بيني وبين روايتي تلك الحميمية اختفت، لم تصبح ابنتي صارت شيئا قد يشهرني وقد لا يفعل، اما ابني فلما ولد لم يكن يهمني ابدا ان كان جميلا، هل كان سيعجب العائلة او زوجي، لم يتبادر الى ذهني مالذي سيقدمه لي كبديل او جزاء جراء العذاب الذي تعذبته حتى أدفع بعه إلى الوجود كل ما كان يهمني و لازال هو كيف يكون بخير كيف يشفى ويكبر ويعيش بعيدا عن انانيتي، التي ربما سامارسها يوما ما عليه·
هل كنت في /أسفل الحب/ أعلى الموت؟ لقد أردت أن أنتصر عليه كقيمة تغيبية، أردت أن أكون في الدرك الأسفل من الحب على أن أكون وأبطالي الممزقين في مجرد هامش لحياة جزائرية بليدة·
لما خرجت الرواية و فقط بالقاء نظرتي الاولى عليها رحت افكر في الرواية القادمة كيف تكون كيف تفوق هذه، احسست بنوع من السوء ، احسست اني اخونها، لم اعطها وقتا كبيرا لافرح بها رغم انها اعطتني تجربة نفسية فريدة من نوعها لن تتكرر حتى لو تكررت الروايات فتحية ل/أسفل الحب/ روايتي الاولى·
الحبيب السائح :''زمن النمرود''·· الرواية التي بقدر ما آلمتني بقدر ما أكسبتني وعيا مختلفا
ما لا يعرفه كثير من المهتمين بالشأن الروائي في الجزائر، بخصوص ''زمن النمرود'' هو أني كتبت هذا النص تحت تأثير الهاجس اللغوي الذي يؤرقني: بأي لغة أجسد ما كنت أحس أن اللغة العربية الفصحى نفسها تعجز اللغة عن استيعابه، لأن درجة الكذب والديماغوحيا، التي بلغها النظام السياسي، المزدوج الخطاب في بداية الثمانينات، كانت فائقة التدمير للقيم التي قاوم الشعب الجزائري من أجل استردادها وتكريها·
كنت أحس أن خيانة موصوفة قد وقعت في حق عشرية كاملة من البناء الجبار، الذي أسهم فيه جيلي بعرقه وفكره، فإن صرحا كاملا من أحلام العدالة والمساواة والتقدم الاجتماعي والبناء الثقافي راحت قوة مضادة تقوضه حجرة حجرة·
يجب أن أعترف، إذن، أني كتبت ''زمن النمرود'' كرد فعل غاضب شاحب، لإحساسي، حينها، أن القصة القصيرة التي كنت أكتبها لم تعد قادرة على استيعاب انشحاني بمؤثرات واقع آل إلى الردة·
لعله من المفيد أن أذكر أن فكرة ''زمن النمرود'' تولدت عندي بفعل وقوفي، من خلال حركة التطوع الجامعية، على بدايات ظهور علامات الرجعة والفساد، ولأن تجربتي الميدانية كانت في احتكاك مباشر مع الفلاحين وعالمهم ومع المسؤولين السياسيين، في الحزب الواحد آنذاك، فإني وجدت نفسي أكتب ''زمن النمرود'' في سياق لم أكن أتوقع، أبدا، أن أكتب فيه يوما·
كان يجب أن أنشئ نصا يقول قدرا من درجة الغضب التي كانت تسكنني على تفريط المسؤولين والفلاحين أنفسهم، خاصة في تلك الأحلام والمثل التي كان جيلي بكامله صحافيون وكتاب شباب ملتزمون ومناضلون ديمقراطيون وضباط الخدمة الوطنية يحملها ويسهم في تجسيدها·
من ثمة، انطرح عليّ إشكال خيارات الكتابة: بأي لغة أكتب ''زمن النمرود'' ليكون أكثر تعبيرا عن ذلك الغضب، ويكون أشد شجبا، في بيئة هي مزيج من العوائد الفلاحية ومن تقاليد المدينة الكولونالية؟ فحسمت تسهيلا لفعل الكتابة أن أنشئ النص في أصله بواسطة اللغة العربية الفصيحة، وهو ماتم، إلا ما تعلق ببعض مسميات المنطقة وما اتربط، أيضا، بنصوص أغاني ''الراي الرعوي'' التي أدرجتها في النص كما ترد في أصولها·
عند إعادة قراءتي للنص، بعد إنجازه، عاينت أن اللغة: القاموس وتركيبة الجملة النحوية والبنية الصرفية وحتى المجازات، لا تلتبس بالموضوع وبمختلف قيمه، لكأنها بدت متعالية، بل متناقضة مع السياق، فاضطررت إلى إعادة تشكيل النص باللغة التي توهمت أنها ستكون أكثر تعرية وصدامية·
فالذي حصل هو أني قمت بعملية تنزيل لغة ''زمن النمرود'' الأصلية إلى لغة اللسان الدراج، الذي يعتمد العربية ولا يراعي قواعدها النحوية والصرفية: فلا مفعول به منون، مثلا، ولا مثنى مرفوع بالألف ولا جمع مذكر سالم مرفوع بالواو·· إلخ، ولا مجازات فصيحة جدا، ولكن كثير من الأمثال المتداولة في تلك البيئة·
فقد أعدت تشكيل النص في كليته لإحداث الإيقاع الشفهي الذي كان الموضوع يطلبه، وهو ما وقع فعلا، بغض النظر عن درجة قيمته الجمالية، لأن غاية النص صارت أن يحدث شيئا من ''الوجع'' عند من كانوا يتخذون من الخطاب السياسي الرسمي السائد، ذريعة للتستر على ''القبح'' وعلى ''الجشع'' والنفاق والكذب·
فإني، نطرا لظروف العمل، إشتغلت على النص ليلا وفي أيام العطل، على آلة كاتبة، كثيرا ما كانت تسمع طقطقاتها حتى خارج جدران البيت، حين يسكن الليل، على موسيقى خلفية لأشهر شيوخ ''الراي الرعوي'' وبعض موجة الراي الجديدة في ذلك الوقت، لأغطس شعوري في ''حمام'' الأصوات التي تنبع من المخيال الرعوي الفلاحي·
للتاريخ، يجب أن أذكر أن رواية ''زمن النمرود''، بلغتها النيئة وبموضوعها الواخز جدا للتراتبية القبيلة، ما كان لها لتنشر لولا وجود الصديق الروائي جيلالي خلاص على رأس المؤسسة الوطنية للكتاب آنذاك، عام 1985 فهو الذي نشرها من غير أن يمررها على لجنة القراءة، لأنه كان يعرف أنها سترفض، وهو الذي تحمل، فيما بعد، صدورها تبعات حجزها ومصاردتها ومنعها· لعل ''زمن النمرود'' هي الرواية الأولى المكتوبة بالعربية التي تعرضت للطحن بعد لملمتها من المكتبات المنتشرة عبر الجزائر كلها·
الآن، ومع المسافة الزمنية الكبيرة التي تفصلني عن ''زمن النمرود''، التي كانت تجربة مجهضة ومؤلمة جدا، ولكن حاسمة في مساري، أستطيع أن أقدر أن الكتابة الروائية تحتاج إلى شحنات كافية من الغضب ومن التمرد ومن الجرأة التجريبية· أسأل نفسي أحيانا، هل كان لي أن أنتقل فكريا وروحيا وإبداعيا من حال ''التبعية'' و''الوهم'' إلى علياء ذاتي لأطل منها على الواقع الذي ينصب شراكه للكاتب كي يكبله عن البحث وعن حقيقته هو أصلا·
كتبت ''زمن النمرود'' وأنا في كامل وعيي بأنها ستحدث ردة ما، ولكني لم أتوقع أن تكون بذلك العنف الذي قوبلت به، فقد كلفني ذلك متاعب جسيمة، على درجتها كانت ردة فعلي لاحقا تجاه رؤيتي إلى الكتابة الروائية والكتابة ''للجماهير''· فتجربة ''زمن النمرود'' على مستوى خيار الكتابة، كما على مستوى مفهوم الإلتزام، هي التي جعلتني أتوقف لأتأمل خلال عشرية كاملة قبل أن أنشر روايتي الثانية التي أحدثت بها القطيعة مع تصوراتي عن كتابة يغرقها اليومي والسياسي في وحل ''التبعية''·
الروائي والقاص السعيد بوطاجين :حكاية ''أعوذ بالله'' بسيطة مثل عنوانها
لا أدري كيف جئت إلى الرواية، هكذا مصادفة، أنا أميل إلى القصة القصيرة لأسباب ذاتية، ولأسباب فنية رجمالية، أيضا، أراها مملكة من الفراشات القادمة من البلاغة·
كتبت ''أعوذ بالله'' لأن الأحداث كانت أكبر من شكل القصة، لقد حدث أن زرت مدينة أدرار، وكان هناك الصديق الروائي الحبيب السايح متوحّدا في الصحراء، كان الناس مثل الرمل هادئين ومطمئنين في بؤسهم·
خزنت المشاهد بمرارة، كانت مؤثرة جدا، وكان البلد يسيخ والآخرون ينعمون ببؤس الجنوب، وهكذا كانت فكرة الكتابة عن جوهر رملنا، عن الشمس واللفح، عن المنسيين في دنيا الرب·
أذكر أنّي كنت متعبا صحيا، شيئا يشبه شيئا ما، أكتب صفحات وأتوقف، ألاحظ، دائما، أن ما أخطه يحتاج إلى مراجعة، إلى شحن البصيرة لإدراك الأشياء الصغيرة التي تفلت من حقل الرؤية·
بالكاد كنت أكتب، وكانت الأدوية تتعبني، لذلك لم أُنْهِ الرواية في وقتها، كان عليّ مقادمة اليأس، والكتابة عن اليأس، أن أقف في كل مرة، أستجمع الصور النائية، الذكريات، الجمل الهاربة، أفكر في ماهية الكتابة، في العلامات والإحالة، في شخصية اللفظة·
لا أدري إن كنت وُفقت في ذلك، أذكر أنّي أخذت المخطوط معي إلى جهات مختلفة، نقحت كثيرا، كان في نيتي أن أنجز العمل، تأسيسا، على مرجعيات أخرى، ومع الصفحات حدث عدول غريب لم أتوقعه، كانت الشخصيات تنزاح والأحداث تتغير·
لقد كتبت شيئا آخر إذن، وكنت أتساءل عما إذا كان يجب عليّ ضبط الخيال، ووضع حد لهذا الميل الذي جعلني أتفرج على الشخصيات وهي تتحرر مني تدريجيا، إلى أن تصبح مجموعة من الكتاب، ويغدو الكاتب مجرد شخصية·
ثمة قضايا لم أفكر فيها في البدء، ثم جاءت هكذا، يبدو لي أن النص مارس حريته في عدة مواقع، أما أنا، فقد جرفني السيل، وقد يكون ذلك جيدا·
كتبت الصفحات الأخيرة في دار النشر، وقد أشرح سبب ذلك في يوم ما، إن كان ذلك ضروريا·
أذكر، أيضا، أنّي كتبت فصولا في أماكن متفرقة، وبمشقة، وهذا أمر مهم بالنسبة للذين يكتبون في البذخ، ومهم بالنسبة لطويلي الألسنة والسيئين الذين بنوا قصرا وملأوني جعجعة·
أشرت إلى هذا، لأن هناك فرقا بين الكتابة الفاخرة والكتابة في دهاليز البلد، خاصة عندما لا تجد قلما وكرسيا، أؤكد: عندما لا تجد قلما وكرسيا وغرفة· اللعنة إذن·
أحب الإشارة إلى أن هناك شخصيات كانت معي، أعرفها جيدا، أو أزعم ذلك لأني لا أعرف شيئا في نهاية الأمر، أعرف أن الرواية كانت مجرد تجربة تحاكي واقعا تجاوز حدود السريالية، تجاوز العبث والأخيلة الممكنة، لذلك اخترت ذلك الشكل السديميي، ذلك الخرب البنائي·
طبعا، لم أفكر في الحداثة، لم ترد إلى الذهن، إطلاقا، ولم تكن تعنيني ولا أظن أني سأفكر فيها بعد أجيال، هذا شيء أجهله·
لقد نقلت عالما خارجيا أتجاور معه بالعلامات والدلالات والمرجعيات والتاريخ: مسبحة جدي، ضيعتنا، الجبل الذي أعرفه ويعرفني، شجرة العنب، السجادة، عصافير القرية، حكمة الأجداد وكرامتهم، مشكلة الأمعاء الكثيرة المبعثرة على الأرائك هنا وهناك، هذا كل ما في الأمر·
وهناك الصياغة، فقط، كل الأفكار الكبيرة لا ترقى إلى وشاح جدتي، كل موسيقى الدنيا لا تعوض الناي، هذا إحساسي، ولأنه، كذلك، فقد كتبت عنه بصدق، الناي من تُربتي، إنه معناي في سياق ما، لأنه يربطني بناسي وبلدي، يقول لي أشياء كثيرة، يقص عليّ حكايات أرضي وألم العبيد، شأنه شأن الدف والمنجل وصوت المؤذن·
كل ما ورد في الرواية، مؤسسة على علامات ذات إحالات تتجاوز ما هو محلي، لكنها ممتلئة دلاليا من حيث أنها خاصة، أي أن لها هوية تحميني من العلامات التي تضطهدني أو تشعرني أنّي مستلب، ولست أنا، إنما آخر، وهذا أمر مرعب، لا يمكن أن أبحث عني في أوطان غيري، هذه هي حكاية ''أعوذ بالله'' بسيطة مثل عنوانها، مثل مرجعيته، مثل صباح الخير، لكننا لم نعد نعرف قيمة صباح الخير، أصبحنا نقولها بلغة أجنبية، فتأتي جافة وباردة و''حداثية جدا''، يا إلهي، من نحن·
الشاعر والروائي أحمد عبد الكريم :كتبت عتبات المتاهة كنوع من التعويض عن ردة الشعر
بعد مرور سنوات على صدور روايتي عتبات المتاهة، وهي أول تجربة روائية لي·جاءت بعد مسيرة مع الشعر ·لا أستطيع أن أحدد بالضبط الدوافع التي أدت بي إلى ذلك ، حتى وإن كان البحث عن تلك الدوافع يبدو أحيانا أمرا سخيفا على اعتبار أن الكتابة هو في المحصلة هي تعاطي مع اللغة ، وسواء تعلق الأمر بالشعر أم بالسرد فأننا لا نستطيع بدقة تحديد ما هو شعري وما سردي فقد يتداخلان حتى لا يمكن الفصل بينهما · غير أن مشروعية التساؤل ربما تنبع من أهمية الوعي والفهم لما حدث من اجل إعطاء تفسير محتمل لا أقل ولا أكثر· لكن الذي حدث في حالتي هو أن التساؤل الكبير كان هو لماذا الرواية ؟ بشكل يوحي بكثير من الأحكام والنوايا المسبقة ، وقد جاءت كل الكتابات التي تناولت الرواية كمحاولة لفهم هذا الانتقال من كتابة الشعر إلى كتابة الرواية ، والنظر إليها على هذا الأساس دون تعمق في تحليل الجوانب الفنية والجمالية التي تأسست عليها
و الآن أدرك بإصرار كبير على أن المسافة بين الشعر والرواية هي أضيق مما كنت أتصوره قبل تجربتي مع عتبات المتاهة· و أن المسافة الشاسعة والحدود القائمة بينهما هي حدود وهمية يمكن تجاوزها وغض الطرف عنها· لسبب بسيط هو أن الشعر لم يعد شكلا تعبيريا وفقط بل أصبح قيمة جمالية نجدها في كل الأشكال التعبيرية التي نتصورها ، بل كثيرة هي الأعمال الروائية التي تراهن على الشعرية فيما هو سردي ، ناهيك عن أن التاريخ علمنا أن الكثير من الشعراء تحولوا إلى كتابة الرواية وهم في الأصل شعراء وخير مثال على ذلك هو كاتب ياسين ، الذي يجمع نقاده على أن أحد جوانب قوته في نجمة هو تلك الحالات والمناخات الشعرية التي عبرت عنها · ولا أحد يستطيع أن ينفي أنها كتبت بروح الشاعر·
لقد شكلت عتبات المتاهة بالنسبة لي امتحانا جديدا مع الكتابة ، ولم يكن يعنيني غير أن أظل منخرطا في فعل الكتابة ، حتى وإن تعلق الأمر بالانتقال من ديوان العرب إلى ديوان العصر، في وقت ضاقت علينا سبل التعبير الشعري بفعل منحى وسياقات حادت بالشعر في الجزائر تحديدا عن وظيفته وغاياته الجمالية لحساب ما هو آني وشعبوي سياسوي مرتبط بعودة الأصولية التي طالت حتى الشعر وأحدثت فيه تراجعا وردة كبيرة· ولم يكن أمامنا إلا الانفلات بالشعر إلى الرواية ، كنوع من التعويض وتيمنا بفتوحاته الضائعة التي تصنعها الرواية اليوم ·
أنا أدرك اليوم أكثر من ذي قبل بأن اللحظة الشعرية هي نفسها لحظة الرواية، وإذا كان من اختلاف بينهما فهو اختلاف في التعاطي وفقط·


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.