وفد من مجلس الأمة يعزّي عائلات الضحايا بالمدية    رئيس الجمهورية يستقبل عمدة مدينة مرسيليا    ورقلة: انطلاق فعاليات الأبواب المفتوحة على المدارس الجمركية    4 ملاكمين جزائريين يحضّرون لموعد بانكوك    توماس فرانك مُرشّح لخلافة تين هاغ    الجلفة.. العثور على شخص مفقود منذ 30 سنة بمنزل جاره    بونورة في غرداية: تفكيك نشاط شبكة إجرامية وحجز ما يزيد عن 1900 مؤثر عقلي    القضاة.. تحقيق العدالة وحماية التراث الثقافي    برمجة 9 رحلات جوية لنقل الحجاج من ورقلة    وزير المالية يعد بإصلاحات هامة    جبهة البوليساريو تجدد التأكيد على تشبث الشعب الصحراوي بحقوقه في الحرية والاستقلال    76 سنة من الإبادة والقتل في فلسطين    خلال لقائه مع أحمد عطاف..وزير الخارجية البحريني يشيد بجهود الجزائر في مجلس الأمن    حساني شريف يتحادث مع رئيسة حزب"تاج"    المنيعة/حملة الحصاد والدرس: أزيد من 850 ألف قنطار من الحبوب منتظرة برسم الموسم الفلاحي الجاري    طواف الجزائر للدراجات: فوز الالماني ميو آمن, الجزائري صحيري يرتدي القميص الاصفر    أسماء جديدة في قائمة بيتكوفيتش    رؤية جديدة لتحسين معيشة المواطنين وبناء اقتصاد قوي    توصيل ثلثي الأسر الجزائرية بأنترنيت ثابت.. قريبا    البوني في عنابة: توجه أنظار عشرات من طالبي السكن إلى قائمة 956 وحدة سكنية    مشروع الخط المنجمي الغربي يسير بوتيرة جيّدة    نتوقّع الوصول إلى 10 مليون مسافر مع نهاية العام    استكشاف الأسواق الأجنبية لتسويق المنتجات الوطنية    الصّهاينة لن ينجحوا في إعادة إنتاج النّكبة    الأمم المتّحدة تستنكر هجوم المستوطنين على المساعدات    تأمينات- سياحة : ابراز أهمية التسيير الاستباقي للمخاطر    الوادي.. تركيب أكثر من 78 ألف كاشف للقاتل الصامت    ورقلة وتوقرت.. دورة تكوينية في حماية التراث    الرقمنة.. أداة فعالة لحماية التراث    "رايتس ووتش" تطالب بمنع تزويد الكيان الصّهيوني بالأسلحة    البيان الختامي للقمة التشاورية لعلماء العالم الإسلامي : نضال الشعب الفلسطيني ضد الكيان الصهيوني مشروع وشريف    خلال ملتقى وطني.. إبراز دور مصالح الصحة العسكرية في مرافقة جرحى الحرب حتى إعادة إدماجهم    شدد على ضرورة تحسين ظروف التكفل بالمرضى المصابين باضطرابات عقلية..سايحي يطالب بإعادة النظر في الخارطة المتعلقة بالصحة العقلية    الطارف: توقيف 3 أشخاص عن تهمة الاتجار بمادة الفحم من خلال حرق أغصان الأشجار    انطلاق أشغال الاجتماعات الوزارية التحضيرية للقمة العربية ال33 بالبحرين بمشاركة عطاف    حسب صحفي جزائري: "الجزائر قد تغادر الاتحاد الإفريقي لكرة القدم وتطلب العضوية في الاتحاد الآسيوي"    بعد الامضاء على اتفاقية تعاون..رابحي يقود عمدة مرسيليا في جولة بالعاصمة    المركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ ينظم ندوة علمية    مهرجان وهران للفيلم العربي اكتوبر المقبل    الجزائر-إيطاليا: التوقيع على مذكرة تفاهم في مجال التعليم العالي والبحث العلمي    المجلس الوطني الفلسطيني يحيي الجهود الدبلوماسية للجزائر في مجلس الأمن الدولي    حوادث المرور: وفاة 28 شخصا وإصابة 1495 آخرين خلال أسبوع    وهران تحتفي ب"الراي"    لفن التصوير ضوابط على مُمارسها إتقانها    غويري يتحدث عن تجربته مع رين ومنصبه المفضل    أرسنال أمام لحظة نادرة جدا.. والسيتي جاهز لتخطي العقبة    "الفاف" تكشف عن مكان وموعد اللقاء    اقتراح مشاريع بعنوان قانون المالية 2025    رغم الوفرة أسعار الخضر ملتهبة    سيارة تدهس الملاكم الأسطورة موسى مصطفى    الموافقة على تعيين سفيري الجزائر بفيتنام وأوغندا    وضع تصوّر لسوق إفريقية في صناعة الأدوية    هذا موعد تنقل أول فوج من البعثة إلى البقاع المقدسة    آثار الشفاعة في الآخرة    نظرة شمولية لمعنى الرزق    الدعاء.. الحبل الممدود بين السماء والأرض    اللّي يَحسبْ وحْدُو!!    التوحيد: معناه، وفَضْله، وأقْسامُه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عمر أزراج: من خيبة الحزب الواحد إلى مرارة التعددية...
نشر في الجزائر نيوز يوم 09 - 03 - 2013


في مدرسة شجرة الزيتون!
تربطني ببجاية علاقة عشق تمتد لأكثر من خمسين عاما، فقد زرتُ هذه المدينة الساحلية الجميلة الممتدة في عُمْق التاريخ والحضارة الجزائرية وأنا طفل صغير في العام الأول من استعادة الجزائر لاستقلالها، كانت تلك الزيارة عائلية لخالي الذي يقطن بتلك المدينة منذ أكثر من خمسة وخمسين عاما، وأما أول رحلة لي خارج مدينة الجزائر العاصمة فقد كانت خلال الأيام الأولى للاستقلال، حيث قادتني صحبة مجموعة من الرفقاء في أول جولة لنا ضمن فوج للكشافة الإسلامية الجزائرية، كانت تيزي وزو وعين الحمام ومدن وقرى أخرى هي وجهتنا في تلك الرحلة الجميلة التي نزلنا فيها ضيوفا على ناس تلك المدن والقرى الجبلية الغارقة أيامها في أفراح الاستقلال.
وقد عاودني الحنين مرة أخرى إلى ذلك الماضي من جديد وإلى هاتين المدينتين خلال الأسبوع المنقضي، فقد شددت الرحال إلى تيزي وزو التي يعمل بجامعتها أستاذا الشاعر ابن ولاية بجاية عمر أزراج.
وعلى امتداد خمس ساعات كاملة جلسنا في بيت عمر المتواضع بتلك المدينة مع رفيقة دربه السيدة دلال نتناقش حول العديد من المواضيع السياسية والأدبية والفكرية والاجتماعية، عن الشعر وهمومه وعن قصيدة “العودة إلى تيزي راشد" أو قصيدة الحزب الواحد التي اضطرته للهروب من وطنه، مثلما يقول، واللجوء إلى لندن مدة ربع قرن، قادنا الحديث الشيق بداية إلى أقنتور، حيث مولد الشاعر في تلك القرية الهادئة بولاية بجاية.
كانت ولادة الطفل عمر في تلك القرية الجبلية من قرى آث مليكش أو بني مليكش منذ أربعة وستين عاما.
وبمجرد أن بلغ الطفل عمر الخمس سنوات حتى قال له والده الفلاح: “يا ابني عمر، عليك أن تختار بين دراسة العربية التي تفتح لك أبواب الدنيا والآخرة وبين الفرنسية التي تفتح لك أبواب الدنيا فقط".
ودون تردد قال الطفل لوالده: “إنني يا والدي أختار العربية لتفتح لي أبواب الدنيا والآخرة".
انكب الطفل يدرس القرآن الكريم والعربية بشغف وشوق كبيرين، وكانت المدرسة التي آوته هو وزملاءه في تلك الفترة المبكرة تقع في العراء وعلى الأرض، هي شجرة الزيتون المباركة، فقد كانوا يستظلون بأغصانها صيفا ويحتمون بها شتاء من البرد القارص ومن زخات المطر المتساقطة ومن حبات البَرَد والثلج وهم يدرسون القرآن والعربية وعُيونُهم ترقب هناك، مشدودة للمعلم تارة ونحو السماء تارة أخرى خوفا من أن تمطر في فصلي الخريف والشتاء أو تلسع لفحات شمسها الوجوه الصبيانية البريئة في فصل الصيف، ولم يكن هؤلاء الأطفال الصغار يفترشون شيئا سوى الأرض المبللة تارة أو الحارة تارة أخرى.
كان الطفل عمر وزملاءه التلاميذ يذهبون إلى الجبال الشاهقة المحيطة بقريتهم لجلب الصلصال ليصنعوا به لوحات للقراءة مثلما يصنعون الصمغ أو المداد من الصوف ويصنعون من القصب عيدانا للكتابة.
اكتشاف الهوية...
بمجرد أن أكمل الطفل السادسة من عمره حتى انظم إلى المدرسة النظامية التي أقامها المستعمر، لكن هذه المرة في مدينة تازمالت.
وهنا تبدأ لدى الطفل، عمر، عمليةُ البحث عن هويته العربية الأمازيغية، ففي مدرسة شجرة الزيتون وجد الطفل نفسه وهويته الحقيقية وروحه الأمازيغية والعربية التي كانت تتعرض للتلف والتزييف، وفي المدرسة النظامية الفرنسية اكتشف شخصية أخرى مغايرة تماما.
لاحظ عمر أن تلك اللغة تدمجه في وطن آخر غير وطنه، وتجعل من ناسه الجدد غير أهله الحقيقيين الطيبين، فلا النشيدُ نشيده ولا العَلَمُ علمه ولا اللسان لسان أمه وأهله أمازيغيا كان أو عربيا، كما كان عليه الحال في مدرسة شجرة الزيتون.
لم يرتح عُمَر للمدرسة النظامية الفرنسية، فقد وجد نفسه كَمَنْ يعيش الغربة في وطنه، وكمن يقتات السموم تماما ليتجرعها لاحقا بموت بطئ.
بدأ الطفل عمر يتساءل: هل نحن حقيقة جزء من فرنسا؟
كانت الأكذوبة تكبر يوميا لديه من تلك الدروس التي كان يتلقاها في المدرسة الفرنسية، وكان الشك يزداد كل يوم..
ومع فجر الاستقلال، يشد الطفل الرحال إلى مدينة برج بوعريريج، ويصبح أحد طلبة ثانوية بن باديس.
هناك عرف الشاب أساتذة جددا، عدد كبير منهم جاءوا من المشرق العربي من سوريا والعراق ومصر وفلسطين، وكان من بين هؤلاء الشاعر أفنان القاسم الذي سيصبح، لاحقا، أحد أصدقائه الخلص بعد أن أصبح أستاذا بالسوربون بباريس وكان يزوره في لندن من حين لآخر.
كانت فترة التعليم الإكمالي مدمجة مع التعليم الثانوي، تمتد لسبع سنوات، درس خلالها الشاب بكل عناية واهتمام وأصبح يَنْظم الشعر بعد أن التهم عشرات الكتب للرافعي والعقاد وطه حسين والمنفلوطي وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وغيرهم.
وراح يراسل الجرائد والمجلات الجزائرية على قلتها وينشر بها بعض قصائده في تلك الفترة المبكرة.
الشيخ “أمشطوح"..
بمجرد انتهائه من مرحلة التعليم الثانوي حتى توجه الشاب عمر وهو في سن السابعة عشرة والنصف ليكون مدرسا، حيث تم تعيينه في مدرسة تيزي راشد.
في الطريق إلى هناك توقف صاحب سيارة وأركبه بجانبه ولم يسأله عما سيفعل في تيزي راشد، ولما وصل صاحب السيارة إلى سيدي راشد قال لعمر أين تذهب؟
رد عمر إلى مدرسة سيدي راشد، ودخل صاحب السيارة وبجانبه المعلم عمر إلى المدرسة، وعندها فقط سأله صاحب السيارة وماذا تعمل في المدرسة؟
قال عمر أنا معلم، فرد صاحب السيارة الذي لم يكن سوى السيد فتحي النور مدير المدرسة متعجبا: أنت صغير يا بني لتكون معلما؟!
وفي اليوم الموالي راح التلاميذ بعد أن عرفوا أن الوافد الجديد على مدرستهم هو معلمهم، ينادونه “الشيخ أمشطوح"، ومعناها بالقبائلية “المعلم الصغير".
لكن همة عمر أصبحت كبيرة وصار تلاميذه يُقْبلون على دروس معلمهم “أمشطوح" بكل حب وشوق.
فتحت تلك المدينة الجميلة بذوق ناسها الذين كانوا يعشقون قصائد الشاعر القبائلي الكبير محند أومحند الذي توجد قريته إشرعون غير بعيد عنهم، وكذا بجمال طبيعتها الخلابة المجال ل “أزراج" ليكتب أجمل قصائد الشعر وأرقاها بالعربية دون أن يكتب قصيدة واحدة بالأمازيغية التي رضعها مع حليب أمه.
يقول عمر، إنه على عكس الآخرين، يرى أن ملاك الشعر قيمة جمالية وروحية كبيرة، فقد نفخت فيه الطبيعة والماء وطيبة الناس والوجه الحسن حبه للحياة والشعر والجمال، فصار يهندس ذلك في أروع القصائد، بل وراح كما يقول يُعَربُ الطبيعة والتقاليد الأمازيغية ويدخلها في النسيج الروحي للثقافة العربية.
وفي هذه الفترة بالذات، بعث الشاعر الشاب أزراج بمجموعة من قصائده للعديد من الأسماء المعروفة في الإذاعة والصحافة المكتوبة التي كانت تصنع المشهد الثقافي بالجزائر، وكان من بين هؤلاء محمد علي الهواري الشاعر والكاتب الصحفي المغربي الذي كان يعمل بالمجاهد الأسبوعي وعبد المجيد بن حديد والدكتور سعد الله والدكتور عبد الله الركيبي ومحمد عبد القادر السائحي الذين أصبحوا، وخاصة السائحي، من بين أعز أصدقائه بعد أن أخذوا بيده.
كبر “المعلم أمشطوح" وانتقل إلى مدن أخرى. في الأخضرية بولاية البويرة، حاليا، التي أصبح فيها مفتشا للتعليم التقاه الصحفي علاء الدين رقيق مكي، الذي كان يشرف على القسم الثقافي بمجلة المجاهد الأسبوعي، ولما زاره في بيته استغرب لحاله وكيف أنه إن استمر في مهنة التعليم فلا يمكن له أن يشتري حتى مجرد كرسي أو طاولة لبيته!
وأخذ الشاعر بنصيحة صديقه علاء وانظم لأسرة المجاهد وأصبح صحفيا بها، ثم اشترى كرسيا وطاولة بعد أن تضاعف مرتبه مرتين بفضل نصيحة علاء ومساعدة محمد سي فضيل المدير العام للمجاهد آنذاك.
قبل انضمامه إلى عالم الصحافة، كان عمر، خالي الذهن من عالم السياسة في بلادنا والعالم الخارجي ككل، كان يرى في السياسة النقاء والطهر والأخلاق والفضيلة، كان يرى في السياسة قبل معرفة خبايا رجالها عالما آخرا غير العالم الذي عرفه بفعل الاحتكاك مع بعض رجال الحكم والسياسة.
كان مجرد الجلوس إلى مسؤول كبير في الحزب أو وزير يعني لعمر قبل الاحتكاك به شيئا كبيرا، لكن نظرة الصحفي لم تبق كما كانت من قبل، أصبح عمر يسمع من حين لآخر من المواطن العادي المسحوق عبارة “هُمْ ونحن".
كانت المفردات تصدمه في بداية الأمر ولا يتقبلها، لكنه صار يحس بوقعها المر بعد أن عرف المستوى الضحل لبعض المسؤولين والتكالب على السلطة والمادة والجاه والمال...
ومع هذا، كان هناك تقدير كبير من قبل الشاعر الصحفي للعديد من المسؤولين الأفلانيين الذين عرفهم عن قرب وخصوصا الذين كانوا يحملون ثقافة عالية من أمثال مساعدية ومهري ومولود قاسم وبشير خلدون والدكتور العربي الزبيري ومحمد جغابة، بل وكانوا يجسدون الجانب الأخلاقي الرفيع في السياسة والفكر، كما كان يراها عمر.
ذات صباح ركب الصحفي سيارة أجرة حيث كان يتأهب لحضور اجتماع حزبي لإثراء الميثاق الوطني الذي جرى في منتصف الثمانينيات، ولما طلب من سائق السيارة أن يُعَجل بالسير ليصل في الوقت المناسب للاجتماع، سأله صاحب السيارة وماذا تعمل أنت؟
قال عمر بكل تلقائية إنه ذاهب لحضور اجتماع حزبي.أوقف الرجل سيارته فجأة وقال له عبارة قاسية، “حتى أنت منهم"؟ ثم أنزله عنوة من السيارة.
قرر أزراج عندها عدم الذهاب إلى الاجتماع، وراح يكركر رجليْه وهو مشتت الأفكار نحو شارع ديدوش مراد، حيث مقر اتحاد الكتاب الجزائريين الذي كان عضوا فيه مكلفا بالعلاقات الخارجية.
جلس عمر يفكر بعمق في حالة الانفصام التي كان يلاحظها تزداد بين المواطن والنظام.
الصحفي، القصيدة والمنفى..
خلال العام 1983 نُظم بمدينة بسكرة الملتقى الأدبي السنوي محمد العيد آل خليفة، وعندما التحق الشاعر أزراج بذلك الملتقى طلب منه المنظمون المشاركة بقصيدة، كان بعض أعضاء الاتحاد ممن كانوا يُحْسَبُون على التيار اليساري في تلك الفترة ثائرين على بعض الأوضاع الداخلية، وفي طريقه من العاصمة إلى بسكرة صحبة صديقه محمد زتيلي عضو أمانة اتحاد الكتاب نزلت على أزراج أفكار قصيدة “العودة إلى تيزي راشد" التي كتب جزء كبيرا منها في الطريق واستكملها في الفندق، ويوضح زتيلي، أنه كان يتدخل منقحا بعض الأفكار من حين لآخر مع مرافقه بشأن بعض مقاطع تلك القصيدة التي جاء فيها خصوصا:
هكذا ضاعتْ بلادي
أيُها الحزبُ الوحيد
أدرك الشيبُ الصغار
أيها الحزبُ الوحيد
غزت النار الديار
أيها الجالسُ كالفقر علينا
أيها الواحدُ كالقفر فإنا
نرفضُ النزهةَ في السجن والإنجابَ
في المنفى المشجر
أيها الحزب المحجر
أيها الحزب الذي فرخ قطعان الطحالب
أيها الحزب الذي حول أجراس الينابيع مخالب
إننا نطلب شيئا واحدا منك، تجدد أو تعدد أو تبدد
فأنا القائل لا واحد إلا الشعب والباقي زبد.
وإذا كان الدكتور العربي الزبيري يقدم قراءة مخالفة لما ذهب إليه الشاعر أزراج بعد تلك القصيدة، ويعتبر أن ذلك مبالغة من الشاعر وأن الراحل محمد الشريف مساعدية مسؤول الأمانة الدائمة للحزب استقبل أزراج ولم يعاتبه إطلاقا على القصيدة، بل إن مساعدية ردد مبتسما مقولة أزراج:
أيها الحزب تجدد أو تبدد أو تعدد.
ثم إن العربي الزبيري يوضح أنه أشرف شخصيا على اختتام المهرجان رغم التوتر الذي كان سائدا ورغم مغادرة أزراج وزتيلي للقاعة التي بقيت مع ذلك محاصرة من طرف قوات الأمن، لكنه بمجرد دخول الزبيري القاعة باعتباره عضوا في اللجنة المركزية حتى تم رفع حالة الحصار بقرار من وزير الداخلية آنذاك امحمد حاج يعلى، غير أن أزراج يرى أن تلك القصيدة فتحت عليه أبواب جهنم وأنه تعرض للاستنطاق وأصبح يُوقع كل يوم على محاضر أمام الشرطة بعد أن تم قبل ذلك استنطاقه إلى أن اضطر لمغادرة الوطن نحو منفاه في بريطانيا.
وأما الشاعر محمد زتيلي فيوضح أنه ألقى هو الآخر قصيدة في نفس المهرجان ربما كانت أكثر جرأة من قصيدة أزراج تحت عنوان:
«في انتظار مرحلة الوضوح" تضمنت عشرين صفحة تم توزيعها على الحضور وكان من بين مقاطعها:
بلادي الكبيرة، ليست بلادي الكبيرة..
والوطن المرتجى والجميل،
ليس هو الوطن المرتجى والجميل..
وهذي البلاد الكبيرة محجوزة ليس فيها مكان سوى...
لكن زتيلي يؤكد أنه حتى وإن تعرض بدوره للمساءلة الأمنية فإنه لم يتعرض إطلاقا لأي ضغط أو إكراه يجبره على الرحيل من وطنه، وأنه لم يُمْنع إطلاقا من مواصلة عمله الإبداعي والفكري، ثم يؤكد أن صديقه أزراج واصل بعد قصة القصيدة هو الآخر العمل في مجلة المجاهد التي كانت اللسان المركزي لجبهة التحرير الوطني إلى غاية سفره نحو لندن في 1986 بعد اختتام المؤتمر في النصف الأخير من 1985 إثر دمج اتحاد الكتاب مع اتحاد الصحفيين، حيث لم يعد عدد من أعضائه السابقين ممثلين في الأمانة الجديدة للاتحاد المدمج.
وأود أن أوضح للتاريخ هنا، أنني شخصيا بعد أن كنتُ قبل ذلك المؤتمر عضوا في الأمانة التنفيذية لاتحاد الصحفيين الجزائريين الذي ترأستُ أشغاله في نوفمبر 1982 وأصبحت مكلفا بالإعلام والثقافة، فإنني لم أعد بدوري عضوا في أمانة الاتحاد إثر عملية الاندماج التي حدثت بين الكتاب والصحفيين في المؤتمر المذكور.
وبالرغم من كل هذا، فإن أزراج عندما يعاين الواقع المر للسياسة، اليوم، يقول بكل مرارة وحسرة مبتسما بأنه يكاد يندم على عهد الحزب الواحد وعلى ما طرحه هو آنذاك من أفكار في قصيدته وفي كتاباته حول ضرورة مسألة التعددية والتغيير، خاصة بعد أن تحولت التعددية في الجزائر، اليوم، إلى تناحر وعنف متعدد الأشكال أنتج طبقة سياسية بائسة لم تعد تلبي ما كان يطمح إليه.
فالتعددية السياسة طرح راق للأفكار الجيدة والبرامج والدراسات المستقبلية الاستشرافية من طرف رجالات ونساء الفكر والسياسة والاقتصاد والثقافة وفي المسائل التي تهدف إلى ترقية البلد والمجتمع ككل، وفي كل المجالات للنهوض بالبلد وليس تناحرا أو صراعا عقيما محموما وتسابقا مغشوشا للتموقع دون مؤهلات وعبر المال الفاسد.في اعتقاده أن التعددية أنتجت اليوم تعدد العنف وتعدد المشاكل بدل تعدد الحلول، ولم تنتج لا تعدد الجمال ولا تعدد الأفكار الراقية، ولا تعدد البرامج الاقتصادية والعلمية التي تفيد الوطن وتنهي التخلف بجميع أشكاله البالية.
يتعرف على الجزائر من خلال المنفى في بريطانيا
في بريطانيا انظم عمر إلى فريق مجلة الدستور التي كان يرأس تحريرها الناقد السوري خلدون الشمعة، ثم جريدة العرب التي كان يشرف عليها الوزير الليبي الأسبق أحمد الهوني، كما انكب يدرس الإنجليزية مثلما انظم للجامعة إلى أن نال شهادة الدكتوراه.
يصف عمر بريطانيا بالكرنفال الحضاري والثقافي، ففيها تتعايش 33 قومية وثمانون لغة ولا يوجد حسبه لا انشقاق ولا نفاق ولا عدوانية بين كل تلك المكونات العرقية واللغوية والدينية والثقافية.
في بريطانيا لم يتعرف على هذا البلد فقط، لكنه عرف بلده الجزائر أيضا، بل إن أزراج يقول إنه اكتشف في بريطانيا عدة حقائق:
اكتشف نفسه وذاته وأمنيته العلمية والأدبية وحتى الأخلاقية، حيث راح يعيد تركيب شخصيته من جديد.
اكتشف الجزائر وراح يتعرف على تاريخها بعد أن قرأ هذا التاريخ عبر مئات الكتب على مدى العصور والأزمان، وراح يتفاعل مع هذا التاريخ الذي رآه ينطق بكل ما فيه تفاعلات وحقائق جديدة كانت مغيبة.
ولعل النتيجة المرة التي توصل إليها عمر قوله إنه اكتشف أن الجزائر لم يكن لها لسانها الطبيعي على مدى أزمان، وأن غياب التراث المسجل سواء باللسان العربي أو الأمازيغي هو أبرز مثال لذلك.
في بريطانيا اكتشف عمر أسماء جزائرية فكرية كبيرة كانت مجهولة لديه من بينها المفكر الكبير عبد القادر فراح الذي لا يعرفه أبناء وطنه، والمفكر الكبير مالك بن نبي الذي يقول عنه بأن الكثير لا يعرفونه كثيرا بل يظلمونه عندما يحسبونه على تيار الإسلاميين أو السلفيين، فهو يعتبره واحدا من كبار عمالقة المفكرين الجزائريين المجددين الذين يحوزون قيمة فكرية وجمالية عالية.
ويؤكد أن الثقافة لا تنتصر ولا تنتعش إلا في ظل الاختلاف والتعدد الثقافي والتنافس مع الآخر ومع ثقافته.
يرفض عمر طرح فكرة الغزو الثقافي ويؤكد بأنها مجرد فزاعة بل وخرافة لقتل الفكر والثقافة الوطنية وجعلها تتقوقع على الذات، ومن ثمة فإن ذلك هو قتل لروح الإبداع والمنافسة، ويؤمن أزراج بما يصفه بضرورة التهجين الثقافي بشرط المحافظة على الخصوصيات الوطنية والروحية والثقافية والقومية دون أن يعني ذلك الذوبان في الآخر ودون أن يعني المسخ.
عندما يستيقظ فيه الوطن
ليست الوطنية شعارا نلوكه صباح مساء ونخدع به الناس عبر خطب جوفاء وشعارات براقة مغيبة للواقع، وليست الوطنية كرسيا نتشبث به في المسؤولية ونوهم به الناس عبر أحلام وردية.
ليست الوطنية تجييشا لعواطف الناس البسطاء عبر خطب جوفاء، لكن الوطنية هي ذوبان الذات في الوطن، ونسيان الذات كلما تعلق الأمر بالوطن وبناس هذا الوطن.
يكبر حب الوطن فينا عندما ننسى مَنْ نحن أمام أحزان وأزمات الوطن سواء كنا في المسؤولية أو خارجها.
أمضى أزراج ربع قرن خارج الوطن، لم يكن كما قال معارضا لبلده، لكنه كان مقاوما ضد الفساد وانحراف الأخلاق السياسية في الوطن وتدني القيم وتغول الذهنيات المتحجرة وتحجر الأفكار وطغيان المادة والذهنية الرجعية المتخلفة التي تقدس الذات على الوطن والإنسان والجمال.
كتب عشرات المقالات منتقدا النظام في ظل الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد -رحمه الله- وظهور طبقة ثرية جديدة راحت تتغول بشكل رهيب.
ورغم أنه كان يعتبر نفسه مقاوما ضد النظام، إلا أن وطنيته ظلت متقدة لم تلوثها المدينة، حيث مازالت عبارة الرئيس الراحل هواري بومدين منذ قالها له في 1975 ترن في أذنيه:
«الشعراء الفحول في التراث العربي كانوا من أبناء الريف والقرى، فلا تأت للمدينة حتى لا تتلوث".
لذلك فبالرغم من المقالات التي ظل ينشرها في الصحافة العربية المهاجرة على مدى ربع قرن منتقدا فيها النظام، إلا أن نزعة الوطنية تحركت فيه بقوة، ذات مساء، عندما أسر له صديقه المعارض والوزير الليبي الأسبق للثقافة أحمد الهوني المقيم بلندن أن نظام العقيد القذافي الراحل يعتزم تفجير أنابيب النفط الجزائرية على نقطة الحدود الجزائرية الليبية التي كان نظام العقيد يعتبرها جزء من الأراضي الليبية.
كان الوزير السابق للإعلام والثقافة في تلك الفترة، حمراوي حبيب شوقي، يشذ عن العديد من رجال السياسة في البلد الذين كانوا يرون في كل مَنْ ينتقد النظام بأنه جرب معد ينبغي الابتعاد عنه.
كان حمراوي آنذاك يتصل بين الحين والآخر بأزراج يسأل عنه، وفي هذه المرة كان عمر هو المبادر بالاتصال، حيث أخبره بما يدبره العقيد المغتال معمر القذافي للجزائر وبما أخطره به الهوني الرجل الذي كان يحب الجزائر.
بعد فترة وجيزة على تلك المكالمة وفي 1997 بالذات عاد أزراج إلى أرض الوطن بعد غياب دام ربع قرن تقريبا، وكان بصحبته صديقه الليبي الهوني.
ومنذ خمسة أعوام مضت وأزراج موجود بالجزائر للتدريس بجامعة تيزي وزو، لكن الرجل أسر لي أنه عائد هذا الصيف مرة أخرى طوعا إلى بريطانيا للإقامة هناك، وأنه سيعود من حين لآخر لبلاده كلما ضاقت نفسه من ضباب لندن وأحس بمرارة الغربة واللوعة والشوق إلى تربة هذا الوطن وناسه وطبيعته الخلابة ومياهه العذبة الرقراقة وسمائه الزرقاء الصافية التي صنعت من المعلم “أمشطوح" شاعرا كبيرا ومفكرا يستعد الآن لإصدار 20 كتابا جديدا دفعة واحدة تضاف إلى كتبه ال 12 التي أصدرها إلى حد الآن.
ويبقى السؤال المطروح و قد خاب ظن أزراج في التجربة التعددية السياسية التي كان يحلم أن تتحقق في مدينته الفاضلة هل سَينْظم الشاعر قصيدة أخرى يتبرأ فيها من قصيدة الحزب الواحد ويكفر بالتعددية التي جلبت سنوات الدم والدموع والخراب والضغائن، وهل تراه سيدعو إلى تبدد تجربتها المريرة بعد أن أنتجت نموذجا سيئا في السياسة والفكر والثقافة والمعرفة والجمال، وهمشت من يستطيعون استشراف المستقبل؟
وهل تحولت خيبة تجربة الحزب الواحد إلى مرارة إزاء التعددية؟
هذه مجرد أسئلة بريئة تحتاج إلى نقاش عميق خال من كل الأفكار المسبقة، وهذا إذا استنتجنا أن السياسة في عهد الحزب الواحد كانت تعددية في المشارب المختلفة وفي الأفكار والقناعات والطر، حيث كان النقاش عاليا رغم ما كان فيها من عيوب وخيبات للكثير من المثقفين خصوصا، بعكس السياسة اليوم في ظل التعددية التي باتت واحدية الواجهة يصنع فيها الفرد الأول في الحزب والمجموعة الصغيرة المحيطة به فكرا أحاديا يسنده الفساد المالي والرداءة العالية وتغيب فيه الأفكار النيرة التي تصنع كل شيء جميل، بل ويغيب فيه النساء والرجال صانعو المستقبل الذي ترتجيه مختلف الأجيال التي كانت تحلم بأن تدخلها التعددية السياسية جنة الوهم الجميل.
هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.