المركز الوطني الجزائري للخدمات الرقمية: خطوة نحو تعزيز السيادة الرقمية تحقيقا للاستقلال التكنولوجي    حوادث المرور: وفاة 44 شخصا وإصابة 197 آخرين خلال الأسبوع الأخير    بحث فرص التعاون بين سونلغاز والوكالة الفرنسية للتنمية    ملابس جاهزة: اجتماع لتقييم السنة الأولى من الاستثمار المحلي في إنتاج العلامات العالمية    بطولة العالم للكامبو: الجزائر تحرز أربع ميداليات منها ذهبيتان في اليوم الأول    جامعة بجاية، نموذج للنجاح    السيد مراد يشرف على افتتاح فعاليات مهرجان الجزائر للرياضات    قسنطينة: افتتاح الطبعة الخامسة للمهرجان الوطني "سيرتا شو"    الطبعة الرابعة لمهرجان عنابة للفيلم المتوسطي : انطلاق منافسة الفيلم القصير    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي: حضور لافت في العرض الشرفي الأول للجمهور لفيلم "بن مهيدي"    رئيس الجمهورية يستقبل رئيس غرفة العموم الكندية    السفير بن جامع بمجلس الأمن: مجموعة A3+ تعرب عن "انشغالها" إزاء الوضعية السائدة في سوريا    شهداء وجرحى مع استمرار العدوان الصهيوني على قطاع غزة لليوم ال 202 على التوالي    انطلاق الطبعة الأولى لمهرجان الجزائر للرياضات    إستفادة جميع ولايات الوطن من خمسة هياكل صحية على الأقل منذ سنة 2021    السيد بوغالي يستقبل رئيس غرفة العموم الكندية    حج 2024: آخر أجل لاستصدار التأشيرات سيكون في 29 أبريل الجاري    رئيس أمل سكيكدة لكرة اليد عليوط للنصر: حققنا الهدف وسنواجه الزمالك بنية الفوز    "الكاف" ينحاز لنهضة بركان ويعلن خسارة اتحاد العاصمة على البساط    كأولى ثمار قمة القادة قبل يومين : إنشاء آلية تشاور بين الجزائرو تونس وليبيا لإدارة المياه الجوفية    بقيمة تتجاوز أكثر من 3,5 مليار دولار : اتفاقية جزائرية قطرية لإنجاز مشروع لإنتاج الحليب واللحوم بالجنوب    خلال اليوم الثاني من زيارته للناحية العسكرية الثالثة: الفريق أول السعيد شنقريحة يشرف على تنفيذ تمرين تكتيكي    شلغوم العيد بميلة: حجز 635 كلغ من اللحوم الفاسدة وتوقيف 7 أشخاص    ميلة: عمليتان لدعم تزويد بوفوح وأولاد بوحامة بالمياه    تجديد 209 كلم من شبكة المياه بالأحياء    قالمة.. إصابة 7 أشخاص في حادث مرور بقلعة بوصبع    رئيس الجمهورية يترأس مراسم تقديم أوراق اعتماد أربعة سفراء جدد    السفير الفلسطيني بعد استقباله من طرف رئيس الجمهورية: فلسطين ستنال عضويتها الكاملة في الأمم المتحدة بفضل الجزائر    معرض "ويب إكسبو" : تطوير تطبيق للتواصل اجتماعي ومنصات للتجارة الإلكترونية    وسط اهتمام جماهيري بالتظاهرة: افتتاح مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي    رئيسة مؤسسة عبد الكريم دالي وهيبة دالي للنصر: الملتقى الدولي الأول للشيخ رد على محاولات سرقة موروثنا الثقافي    نحو إنشاء بوابة إلكترونية لقطاع النقل: الحكومة تدرس تمويل اقتناء السكنات في الجنوب والهضاب    حلم "النهائي" يتبخر: السنافر تحت الصدمة    القيسي يثمّن موقف الجزائر تجاه القضية الفلسطينية    بطولة وطنية لنصف الماراطون    سوناطراك توقع بروتوكول تفاهم مع أبراج    الجزائر تحيي اليوم العربي للشمول المالي    تسخير 12 طائرة تحسبا لمكافحة الحرائق    مشروع جزائري قطري ضخم لإنتاج الحليب المجفف    ش.بلوزداد يتجاوز إ.الجزائر بركلات الترجيح ويرافق م.الجزائر إلى النهائي    هزة أرضية بقوة 3.3 بولاية تيزي وزو    جلسة للأسئلة الشفوية بمجلس الأمة    معركة البقاء تحتدم ومواجهة صعبة للرائد    اتحادية ألعاب القوى تضبط سفريات المتأهلين نحو الخارج    الاتحاد الأوروبي يدعو المانحين الدوليين إلى تمويل "الأونروا"    فتح صناديق كتب العلامة بن باديس بجامع الجزائر    "المتهم" أحسن عرض متكامل    دعوة لدعم الجهود الرسمية في إقراء "الصحيح"    العدالة الإسبانية تعيد فتح تحقيقاتها بعد الحصول على وثائق من فرنسا    جعل المسرح الجامعي أداة لصناعة الثقافة    فيما شدّد وزير الشؤون الدينية على ضرورة إنجاح الموسم    الرقمنة طريق للعدالة في الخدمات الصحية    حج 2024 : استئناف اليوم الثلاثاء عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    حكم التسميع والتحميد    الدعاء سلاح المؤمن الواثق بربه    أعمال تجلب لك محبة الله تعالى    دروس من قصة نبي الله أيوب    صيام" الصابرين".. حرص على الأجر واستحضار أجواء رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بختي بن عودة بعد ثمانية عشر سنة عن رحيله.. تشكل مسارات قضايا الكتابة والترجمة والتفكيك والاختلاف
نشر في الجزائر نيوز يوم 03 - 06 - 2013

لا يزال الناقد الشاعر المرحوم بختي بن عودة بعد ثمانية عشر سنة من رحيله مثيرا للجدل والنقاش، بل وأكثر حضورا وتميزا إبداعا ونقدا من الكثير من الأحياء الأموات، مؤثرا في الذائقة النقدية الجزائرية لجيل جديد من النقاد والمثقفين المشتغلين بالقيم المعرفية التي آمن بها بختي بن عودة وأخلص لها وكرس لها جهده خلال مسيرته الفكرية والإبداعية القصيرة، قيم وقضايا “الكتابة والاختلاف" وهو عنوان أحد أهم كتب دريدا الذي يشكل مرجعية كبرى لدى بختي بن عودة والغيرية و«النقد المزدوج" بتعبير الخطيبي والتفكيك وغيرها، بانتباهه المبكر لضرورة الانفتاح على الفتوحات المعرفية والفلسفية المنبثقة عن علوم الإنسان والمجتمع والوجود والكينونة والتاريخ إيمانا منه بأن هناك تباعدا كبيرا بين النص الأدبي الجزائري والتحولات التي عرفتها المعرفة في العلوم الإنسانية في عالمنا المعاصر دون أن يتناسى شروط خصوبة هذه المعرفة النقدية “وتبيئتها" أي تبيئة المفهوم، كما يعبر عن ذلك محمد عابد الجابري، وقابليتها لأن تمد النص الإبداعي الجزائري بأشعتها الكفيلة بإضاءة مضمراته وجوانبه الداجية أو “إنتاجيتها النصية" بتعبير جوليا كريستيفا، ويزداد الأمر تفاقما حين نتأمل لغة بختي بن عودة الاصطلاحية العميقة الغائرة التي ينبني عليها مفهوم “الكتابة والاختلاف" عند جاك ديريدا وغيره من فلاسفة الاختلاف كجيل دولوز وميشال فوكو خاصة ديريدا، على اعتبار أن “هذا العالم أصبح دريديا" في منظور أليزابيث رودينسكو في كتابها المشترك مع ديريدا “ماذا عن غد". التفكيك الذي كان يشكل رؤية معرفية لدى بختي بن عودة خاصة فيما يتصل “باللوغوس" الدليل الواحد الذي أقامت عليه العقلانية الغربية في مركزيتها المتعالية عبر ملفوظات الكليانية وعقدة التفوق التي شحنت مضامينها منذ أرسطو وإلى الآن عبر مسارها النقدي والأنطولوجي والتي ناهضها ديريدا عبر ما ترسب في مخياله الفكري من قراءاته لمفكرين نافذي التأثير على غرار نيتشه وهايدغر وفرويد ولاكان وأدموند هوسرل، ومما بقي قابلا للقراءة المنتجة من نصوص الدرس الماركسي في أواخر عطاءاته خاصة نصوص غرامشي التي أقرت جميعها على التصدي لهيمنة الدليل الواحد في سرديات العقلانية الغربية المقيدة لأحادية المعنى على ما سواها من الهوامش والثقافات الأخرى نسبيا، ودون أن تذهب في ذلك بعيدا يضاف إلى ذلك أيضا تأثيرات جذوره اليهودية كهامش من الهوامش الشرقية ومخياله التربوي والنفسي الذي يدين إلى موطن مولده وطفولته الجزائر بالكثير، مثله في ذلك مثل مواطنه المفكر اليهودي الأصل الجزائري المولد هيلين سكسو، وفي هذا السياق يشير الدكتور أحمد عبد الحليم عطية في دراسته “ديريدا وحقوق المستقبل/ ماذا عن غد" المنشورة ضمن كتاب جماعي أشرف عليه المفكر الجزائري محمد شوقي الزين" أن الشاعر أزراج عمر اعتبر أن مفهوم الاختلاف ومفهوم الغيرية عند جاك ديريدا وهيلين سكسو ليسا نتاجا لتجربتهما المعرفية فحسب وإنما أيضا لسنوات التكوين الأولى في الجزائر ونتاج ذلك الإحساس بالوجود والانتماء إلى الإثنية اليهودية في ظل المجتمع الجزائري المستعمر/ صحيح أن إحساسه كيهودي موزع ومهمش له تأثير في تشكيل فلسفته ولكن هذا الإحساس تشكل أيضا من صدامه مع المستعمر الفرنسي في الجزائر وليس من علاقته مع الإنسان الجزائري الذي كان يحارب الاستعمار والخلاصة التي يراها أزراج أن فلسفة ديريدا في عمقها هي نقد لميتافيزيقا الغرب وأن هذه الميتافيزيقا أخذت بعدها الأقصى في اللحظة الاستعمارية لأن الاستعمار ذاته هو نفي للحوار ونفي الحوار هو ميتافيزيقا بامتياز وعلى هذا فإن نظرية ما بعد البنيوية كبعد من أبعاد نظرية ما بعد الحداثة في فرنسا لا يمكن أن تدرس بدون الخلفية الاستعمارية للجزائر". ودريدا نفسه لا ينفي ذلك، بل يعلن صراحة في كتابه “أحادية الآخر اللغوية" قائلا: “هذه الأنا التي أختصرها في كلمة واحدة هي في حقيقة الأمر ذلك الشخص الذي فيما أتذكر منع في الجزائر من إيجاد منفذ إلى لغة أخرى غير الفرنسية، كالعربية الدارجة والفصحى أو البربرية"، ويضيف: “أنا لا أملك إلا لغة واحدة ومع ذلك فهي ليست لغتي فلغتي الخاصة هي لغة لم ترق بعد إلى مستوى اللغة التي يمكن تمثلها ولغتي هي اللغة الوحيدة التي أنوي التحدث ومن ثم التفاهم بها، هي في واقع الأمر لغة الآخر". كل هذه الإحالات والمصادر تشكل المرجعية الكبرى لانبثاق مفهوم الاختلاف لدى ديريدا الكفيلة بمناهضة تجربة “اللوغوس" أو الدليل الواحد في آلياته المركزية عن طريق ما يسميه ديريدا “الضيافة غير المشروطة" أو “امتياز الضيافة" بتعبير الخطيبي في سياق التجاوز المنتج لأزمنة المديح الرومانسية والتاريخية والدوغمائية والشعبوية النقدية والقطع مع كل ثوابت وقيم الانصياع الأعمى لنسق الدليل الواحد في العقلانية الغربية باتجاه عملية هي أشبه “باقتسام الفهم" بتعبير ميشال فوكو من خلال تسلح هذا الباحث والناقد المتميز -أعني هنا بختي بن عودة- رغم عمره القصير بفلسفات نيتشه وهايدغر وديريدا وموريس بلانشو وفيليب سولزر في مزج إبداعي يستحيل أن نجد له مثيلا ضمن حقول البحث والدراسة في الثقافة الجزائرية إلا في ما ندر، مستحضرا في ذاته الثقافية كل ما يخص ثورية النقد التفكيكي في اعتداده بنسبية المعرفة ورفضه المطلق وجود قراءة صحيحة واعتبار أن كل القراءات هي نوع من “إساءة القراءة" كما يقر بذلك دريدا ومناهضته لأوهام العلمية والصرامة مثلما تبدو أشد وضوحا في التراث الفلسفي لمدرسة الشكلايين الروس والمناهج النسقية المغلقة التي تتعامل مع النص بوصفه بنية لغوية مغلقة في نفي مباشر للصيرورة التاريخية وللقارئ باعتباره منتجا للمعنى، المعنى المنفتح على تعدد منافذ النص التأويلية، طالما أن التفكيكية ليست نظرية بل هي مجرد تصور أو رؤية، نلمس ذلك في دراساته سواء ذات المسحة الفلسفية النظرية أو تلك التي خص بها نصوصا إبداعية لمبدعين جزائريين ولم يتوقف جهد بن عودة النقدي عند هذا الحد، بل لامس أيضا تحولات المجتمع والسياسة فكتب عن الراهن العبثي الجزائري أو ما سماه “اللحظة الجزائرية" في مقاله الشهير الذي نشره أياما قليلة قبل اغتياله “اللحظة الجزائرية بين قدر المعنى وواجب المفهوم".
اللحظة الجزائرية... بكل دلالاتها الثقافية والاجتماعية والسياسية، بنفس الدهشة التي أوقعته في “علامية" بارت وغريماس وجوزيف كورتيس لاستقراء المحمول العلاماتي “للتبيين" بالعودة إلى مفهوم “السمة" عند الجاحظ كمعادل موضوعي لما أصبح يسمى بعلم العلامات أو “العلامية"، وهذا ما نلمسه في افتتاحية مجلة التبيين وهو يرأس تحريرها، ثم ذلك القلق الأنطولوجي وهو يقرأ “الجزائر الجديدة" “كمدونة ثقافية وتاريخية وسوسيولوجية من وهم الدولنة إلى رج الكبوتات" مثلما يرى فيما يسميه “التأزم البنيوي للمجتمع وهو محتار في شؤونه وظلال المعارك الفاصلة بين دور العقل/النخبة/ الإيديولوجيا"، خاصة وأنه كتب هذه المقالات في عز الأزمة الأمنية من تسعينيات القرن المنصرم، حيث انسحاب مؤسسات الدولة الشبه كلي من الحياة العامة ولذلك ظل سؤال “الكينونة والوجود" والتاريخ المنسي يسكنه كالوجع المزمن وليس من شك في أننا حين نعيد قراءة المنجز النقدي لبختي بن عودة الذي نشر بعضه والبعض الآخر لايزال متناثرا ومتباعدا في بطون المجلات والدوريات العربية فإننا نقرأ مقدمات أو نواة لمشروع نقدي كان يمكن له أن يرمم بعض فجوات النص الإبداعي الجزائري ومساحات تمفصله السردية منها أو الشعرية ومن ثم اكتشاف قواعد “إنتاجية نصية" بتعبير جوليا كريستيفا، لا على شكل متتاليات أو إضاءات ما قبلية على النص كوصفة جاهزة وإنما في صورة إعادة إنتاج “وإمحاء إيجابي" بالمعنى الذي أشار إليه دريدا أو “كتابة محو" بتعبير محمد بنيس تعمل على فتح منافذ النص والإبقاء عليه قابلا للقراءة المستمرة المتعددة الأبعاد والمستويات بما هي “قراءة مزدوجة" على رأي عبد الكبير الخطيبي لا نتمكن قط من الانتهاء منها واستنفاد أسئلتنا اللاشعورية حولها ضمن دائرة “التعاضد التأويلي للنصوص" مثلما يسميها أمبيرتو إيكو، التي أصبحت الموجه الأساسي لتيارات التفكيك والتأويل في النقد الذي كرس له بن عودة كل جهوده بواسطة “ازدواجية الرؤى" ولولا أنه طموح لانتهى به المطاف وهو في أول الطريق ولم يكتب له التجسيد والديمومة، هذا فضلا عن جهوده في حقلي الترجمة والشعر، الترجمة التي أولاها أيضا أهمية كبرى وقدم بشأنها في السياق العربي دراسة مهمة بعنوان “الترجمة ونسق التطابق" مفككا كعادته وهم التطابق والتماثل السائد في الفعل الترجمي من حيث يرى هذا التطابق “يتموقع كشبح إضافي مرعب وملتبس ضد استقلالية ما تتوخاه ترجمة اختلافية وليس كبيان ثقافي أو فلسفي وإنما كتجربة لا تكرس المهادنة مع الحضور ولا إعادة تأسيسه بدعوى الواجب وآنية هذا الواجب فهي تتحمل عندئذ مجموعة مخلفات وآثار واجتراحات تزخر بها النصوص بماهي طبقات وطيات"، وقد انخرط فيها لينقل إلى لغتنا العربية دراسات ومقالات عديدة منها دراسة للروائي مولود معمري عن “الشفوية/ الخطاب والبربرية" ودراسة أخرى للشاعر محمد سحابة عن “الشعر الجزائري ذي اللسان الفرنسي بعد الاستقلال" نشرهما بمجلة الفكر الديمقراطي السورية في عددها الحادي عشر سنة 1990 ودراسات أخرى لديريدا وعبد الكبير الخطيبي نشرها بمجلات عربية مرموقة. الخطيبي الذي خصه أيضا بدراسة جامعية تحدث فيها عن “ظاهرة الكتابة في النقد الجديد - مقاربة تأويلية - الخطيبي نموذجا"، الخطيبي الذي وجد فيه بن عودة النموذج الأمثل باتجاه انزياح منظورات الكتابة النقدية عن جاهزية الوعي النقدي السائد والمطمئن والتوصيف القار لدورة الحقول المعرفية الأخرى المجاورة للنقد مثل التحليل النفسي والنقد السوسيولوجي المعرفي كجزر كانت إلى عهد قريب وفي مكونات النقد الإيديولوجي التاريخي غير قابلة لشروط الضيافة النقدية أو “امتياز امتياز الضيافة" بتعبير الخطيبي وهو يعلن حين يتوخى مساءلة ظاهرة الكتابة عند الخطيبي “أننا لسنا أمام نقد خالص بل أمام انتشار غير منتظم داخل فضاء يجمع التجريبي والباطني والمفهومي واللغوي مكسرا الأحلام القديمة لدى ممثلي الحداثة العربية والغربية للمقولة الخاصة بالنقد". الكتابة التي يراها بن عودة “صيرورة وليس مدرسة وهي فاعلية وليست قوة إرادة وهي مناهضة جذريا ضمن النص وخارجه للتراتبية المطمئنة والتي تعمل على تمرير ما ليست له أية تاريخية"، الخطيبي الذي ينفلت من أي تصنيف أو معيارية وهو القائل “يريد الآخرون أن يؤطروني داخل خانة واحدة والحال أني الممتهن لقياس المساحات"، فهو الشاعر في “مناضل طبقي على الطريقة التاوية"، وهو الروائي الذي كتب “الذاكرة الموشومة"، وهو الناقد الذي وضع أول دراسة للرواية المغاربية ذات اللسان الفرنسي في كتابه الرائد والتأسيسي “في الكتابة والتجربة" الناقد المسكون بقضايا الهوية والاختلاف، وهو ما عبر عنه في كتابه “النقد المزدوج" أي نقد الأنا والآخر وفي الاسم العربي الجريح “الذي أعاد فيه قراءة ظاهرة الوشم على الجسد مستخدما آليات نقدية متعددة ومنفلتة من أسر المركز وهيمنة المنهج، وهو الكتاب الذي ساءل فيه أيضا المنطوقات السردية والحكائية الملتبسة بالطابو الاجتماعي والديني لكتاب النفزاوي الشهير “الروض العطر في نزهة الخاطر" وغيرها من أعماله النقدية التي يعبر فيها عن ازدواجية رؤياه لمسار الثقافة العربية في لقائها المتوتر والتاريخي بالثقافة الغازية ممثلة في المحمول الإبداعي والفلسفي للغة الفرنسية، وهو ما يسميه “بالعشق المزدوج للسان" الذي هو نتيجة حتمية للقاء تم بين لغتين وثقافتين “لغة العقل الباروكي الذي يقر كتابة تتجاوز أية دلالة وأي شكل مسبقين ولغة الفتنة بالاختلاف الذي يرسخ الحنين.. الشحنة المتدفقة حاملة الاسم في بحر كتابة تحول مجرى اللغة بتحريرها من الفخ الميتافيزيقي الذي لم تنج منه أيضا الدراسات اللسانية لتوظيفها الدليل الواحد الذي هو مفهوم يحيل على اللوغوس الغربي". ولاشك أن هذا ما جعل بختي بن عودة يرى في ظاهرة الكتابة عند الخطيبي مادة خصبة وفضاء نقديا جديرا بالتناول النقدي والمساءلة الفلسفية الأنطولوجية، إنها تجربة يقول بن عودة “ذات طاقة توزيعية وهذه الطاقة ليست في الأصل سوى ذلك الولع بوضع مقدمات ابستمولوجية تراهن على تعدد الدلالة"، مبتعدا قدر الإحكام عن ثقافة الحسم والنهائية فيما لا يقبل الحسم والأحكام المطلقة والأوهام العلمية مقدما بعض التساؤلات الوجيهة منها “كيف يتحول الاختلاف إلى ظاهرة.. كيف نتحايل على الموانع الأكاديمية... لنفجر غبطة الشكل ونقترب من طرح السؤال وهو سؤال النص"، للفرار من جاهزية التناول المدرسي والطرح الدوغمائي ومما يسميه بن عودة نفسه “المتعاليات البحثية أي الدورة المغلقة لسفر القراءة" من أجل الولوج بتعبير دريدا في “البنية غير المتجانسة للنص" طالما أن الخطيبي نفسه موضوع الدراسة لا يرغب أصلا في حصره داخل بوتقة واحدة وفي زاوية واحدة، فرغم كونه مفكرا وباحثا سوسيولوجيا ومحللا نفسانيا وناقدا وروائيا وشاعرا الأمر الذي وعاه بن عودة جيدا ليصبغ عليه صفة الكاتب الصفة التي يفضلها الخطيبي لشموليتها وهي “الصفة التي تحتفظ بفكرة الهامش ولن تمثل أي توصيف مدرسي يورطها في حسابات قد تجاوزها النقد الجديد الذي فتح أبوابه لحساسيات عديدة نعثر فيها على أجوبة التجريب والمتعدد واللانهائي" معلنا أنه لا يريد أن يقترح نظرية بقدر ما يريد أن يفتح سؤال النقد على آفاق جديدة بموضعة تجربة الخطيبي في سياق النقد الجديد المسلح كما يراه بختي بن عودة “بحمولة منتجة ضمن أنظمة معرفية تنتمي إلى الآخر وهي تمزج في أثناء مساراتها بين المتغير كثابت منتظم وبين القوة التاريخية التي تصنعها ليس العلوم وحدها بل الأنساق غير الأدبية من واقع وسياسة ومجتمع"، ولا بأس في النهاية أن أسجل في هذه الورقة، ما سبق أن أشرت إليه في أكثر من مناسبة، أن بختي بن عودة /الإنسان كما يعلم كل من عرفه عن قرب كان مثقفا متواضعا إلى أبعد الحدود وكريما وسخيا حتى مع أولئك الذين كان يختلف معهم إيديولوجيا وثقافيا أو الذين ناصبوه الخصومات المجانية، ورجلا بالغ النخوة والكرامة التي اكتسبها من جذور والده عمي سليمان أطال الله في عمره البدوية لتمسكه بقناعاته الشخصية والفكرية، فقد تسنى لي شخصيا أن أقرأ في بيته بأعالي عمارة سان شارل بوهران رفقة الصديقين عبد الله الهامل ومحمد بن زيان عددا من العناوين المهمة لرموز فكرية اكتشفتها لأول مرة على غرار الخطيبي وديريدا وجيل دولوز وميشال فوكو ولولاه ما كان يمكن أن أتعرف عليها أو على المحمول الفلسفي لهذه الرموز والأيقونات الفكرية أو أن أتخلص من هيمنة “المؤسسة الذوقية" “للمركز التراثي" من حيث رفضها لثقافة الآخر ومنجزه الإبداعي والفكري الإجرائي جملة وتفصيلا لدرجة الوهم بالاكتفاء الذاتي ضمن مدارات أفقها مسدود في سياق “الولع بالأصل" بتعبير أدموند جابيس، أو ما يشبهه لا يحقق مما نريد من تأصيل إلا بعض الإسقاطات الهزيلة ذات الوجه الانتقائي المقصود من عيون تراثنا البلاغي والنقدي الذي نعتقد أنه في حاجة ماسة إلى جهود مخلصة تعيد قراءة جوانبه المضيئة بآليات جديدة تجعله يعيش معنا هموم ومشاغل عصرنا بما يستجيب لأسئلة الكتابة والنقد والاختلاف والمثاقفة بعيدا عن ردود الفعل النفسية والتسطيح والتراكم والمنطق الاستعراضي السائد على أكثر من صعيد.
للموضوع احالات


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.