الرئيس تبّون: لا سِلم إلا بعودة حقّ شعب فلسطين    توقيع عدّة اتفاقيات للتعاون بين الجزائر وبيلاروسيا    بوالزرد: قانون المالية 2026 يرسخ توجّه الدولة    زيادة كبيرة في أرباح سوناطراك    الجزائر ترسّخ حضورها القاري بشرعية المؤسسات... والمغرب يناور خارج التفويض الإفريقي    محطة محورية في مسار التعاون.. الصين تؤكد استعدادها لتعميق الشراكة الاستراتيجية مع الجزائر سنة 2026    لوكاشينكو: نسعى للارتقاء بعلاقات بيلاروسيا والجزائر إلى أعلى مستوى ممكن    المدرسة العليا للتسيير والاقتصاد الرقمي تنظم الطبعة الرابعة لصالون الشغل "جينبرو"    سايحي يستقبل فيراسامي    الضفّة تشتعل بنيران بني صهيون    بداية متعثّرة للخضر في كأس العرب    هذه مكافأة الفائز بكأس العرب..    الفيفا يؤجل تسريح اللاعبين لمنتخبات إفريقيا    1515 مكالمة    دربال يشرف على إطلاق مشاريع مائية كبرى بورقلة    هذه مخاطر منح الهواتف الذكية للأطفال في سن مبكرة    برايك يثمّن قرار الرئيس    التتويج بالجائزة الرابعة لحقوق الإنسان في أستورياس    10 اتفاقات ترفع مستوى التعاون الجزائري البيلاروسي    استراتيجية وطنية لتطوير التجارة الإلكترونية    عشرات آلاف المرضى بحاجة للإجلاء الطبي العاجل    بن رحمة ينفي تمرّده على المنتخب المحلي وكأس العرب    تقييم المخلفات وفحص المياه وبنك للصحة العمومية أولوية    رسو أول باخرة ضمن الخط التجاري الجديد سكيكدة فالنسيا    مدرب ليفركوزن يحدّد وصفة نجاح إبراهيم مازة    الإطاحة بسارق أغراض الطالبات والشيوخ    المرأة في قلب "شتاء بلا حوادث"بمعسكر    تحضيرات مسبقة لاستقبال شهر رمضان بتيارت    مهرجان البحر الأحمر يُكرم رشيد بوشارب    "المفتاح" لشريف عياد في دورة القاهرة    غوصٌ في التجربة الإنسانية للكاتبة مريم أكرون    غيتان يحلم بالمشاركة في كأس العالم ويؤكد تعلّقه بالجزائر    استجابة كبيرة لحملة تلقيح الأطفال ضد الشلل بقسنطينة    انشقاقات واسعة في صفوف الماك    المجموعات البرلمانية تبرز تدابير دعم الاستثمار    هذه خطّة الاحتلال للقضاء على المُقاوِمين في رفح    مبدأ الحلول الإفريقية خيار استراتيجي    الرئيس تبون يخصّص 2000 دفتر حجّ إضافي للمسنّين    المجمع الجزائري للغة العربية وجامعة تيبازة : إبرام اتفاقية تعاون علمي أكاديمي    تحذيرات أممية من تدهور الأوضاع إلى مستوى كارثي    أقلام واعدة : تظاهرة ثقافية أدبية موجهة للأطفال والشباب    جلسة حوارية : الفن الإفريقي المعاصر بين الاعتراف الدولي والتحديات المحلية    عرقاب بحث مع الفود البرازيلي توسيع الشراكة الطاقوية : "ويغ" ترغب في تطوير استثمارات طويلة المدى بالجزائر    12 منظمة حقوقية إسرائيلية:2025 العام الأكثر فتكا بفلسطين منذ 1967    مستغل من طرف دوائر معادية لضرب الجزائر : انشقاقات واسعة في تنظيم "ماك" الإرهابي    سكيكدة..حملة للقضاء على الاستغلال غير الشرعي للأرصفة    مستغانم.. 250 مليون دج لدعم مبادرات الشباب    رئيس الجمهورية يخصص 2000 دفتر حج إضافي لمن تجاوزوا 70 سنة ولم يسعفهم الحظ في القرعة    أكاديميون يشيدون بمآثر الأمير عبد القادر    انطلاق حملة التلقيح ضد شلل الأطفال    الرئيس تبون يعزي عائلة العلامة طاهر عثمان باوتشي    الخطوط الجوية الجزائرية تصبح الناقل الرسمي للمنتخب الوطني في جميع الاستحقاقات الكروية    قسنطينة تهيمن على نتائج مسابقة "الريشة البرية" الوطنية لاختيار أحسن طائر حسون    فتاوى    ما أهمية تربية الأطفال على القرآن؟    فضائل قول سبحان الله والحمد لله    هذه أضعف صور الإيمان..    يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مَنْ سَرّب مَنْ.؟! ... سؤال المعرفة لدى الناقد قلّولي بن ساعد
نشر في الجلفة إنفو يوم 23 - 07 - 2021


"إذا لم تستطع إضافة شيء إلى الحياة فلست بشيء (*)"
المعرفة في عمقها الإنساني مطلب روحي، وخطوة أساسية لصيانة الذات واستكمال خَلقها، وحاجة أكثر إلحاحا من الحاجات الغذائية التي تؤمن شعبة آكلات الخبز مفصليات الأرجل بأنها ضرورية لاستمرار الحياة، فهي لا تدرك أن هناك فراغات مختلفة عن فراغ البطن، هذه الفراغات تولد معنا وتفرض علينا الحرص على ملئها بما يقوّينا على استلام الحياة بطريقة مختلفة رقيّا عن سائر المخلوقات، ولعلّ العقل أهم أداة لإدارة المواقف بين الأحياء إدارة سويّة تمكننا من التفاهم والابتكار والاختراع، وعموما القدرة على الإضافة، فلا نمُر مستهلكين لمظاهر الكون دون أن نعطيه شيئا يشهد به على أننا كُنّا أحياء.. أقصد الأثر الذي تلتمس فيه الأجيال القادمة الدلالة الكافية على أننا طرحنا ما يمكن من الأسئلة، اعتبارا أن الإنسان الحجري أول من خاض في هذه الفكرة، وهكذا أيضا تناول الحياة حفرا بجملة من الأدوات الممكنة، وبلا منازع صار مؤسّسا للحضارة الإنسانية، وراسم خطوتها الأولى نحو إنتاج مزيد من الأسئلة الفعّالة، وليس الذين جاؤوا من بعده إلا معبّدين لمسار هذا السؤال الكبير.. وتظل تلك الفراغات تفاجئنا من حين إلى آخر حتى نموت، لنكتشف حينئذ عالما آخر لم نكن مكلّفين بتصوره، ولا بالبحث في شؤونه لأنه إعجازٌ ودلالة على أن المعرفة لا حد لها..
من السهل أن يبحث الآتون عن مقاييس هياكلنا العظمية ليعرفوا أطوالنا وأثقالنا، ومن اليسير أيضا أن يعرفوا أحجام جماجمنا وأوزان أمخاخنا، ولكن كيف يعرفون قدرة تفكيرنا ونسبة وعينا إذا لم يعثروا في دفاترنا على الأجوبة التي افترضنا جدلا أنها صحيحة، فنُمكنهم بذلك من معرفة قوّة الوعي لدينا ومستوى حضورنا ودرجة فاعليتنا في الحياة.. فمن العجب أن يدفعنا جوع البطن إلى الأكل، ولا يدفعنا جوع العقل إلى المعرفة، مع أن خواء العقل مسألة أعمق وأخطر..
أكثر المتعلمين يفخرون بفحيح السوط وراء ظهورهم، وبقناعة يعترفون بأنه كان أداة مهمة وسببا فيما تلقّوه من تحصيل، جملة من المعارف فرضها عليهم العنف، لكن لا يدركون أن ما تعلموه مجرّد ذهنية مكررة للشيخ حامل السوط، ولنتفق على أن ندع مسألة الفهم جانبا، لأن الموضوع ذو صلة وطيدة بوعي متقدم جدّا، إدراك خارج مقرر الأسئلة الروتينية التي لا هدف من ورائها سوى الحصول على علامة مميّزة تمكن صاحبها من الارتقاء إلى قسم أعلى، أسئلة ساذجة لا تستطيع أن تخرج عن نطاق درس الأمس، التواء ذهني لم تنجح المدرسة العربية عموما حتى الآن في احتوائه كأُمّية حديثة، لأن في استقلالية السؤال استقلالية الذّات، وبالتالي امتلاك شجاعة ارتجال البحث، تلي ذلك سلامة الإضافة وفائدتها في الحياة، ما عدا ذلك مجرّد حيازة ورقة كفيلة بضمان سلامة جسد أكول، حالة منفصلة عن العقل تماما العجيب أنها مبررة بشكل تلقائي عند الأنعام، لأنها مكلفة فقط ليتوافر لحمها وشحمها، أعني عدم تطابق الشهادة التي تفيد التخصص في مجال ما مع ما يكمن في عقل حاملها من بؤر وزوايا مظلمة، وعندما لا يجد ما يقوله يكتفي تفاخرا بالشهادة حين تشير إلى اسمه ولقبه ونوع تخصّصه، ومع الأسف مصالح التوظيف لا تكتفي إلا بهذا الملف المحنّط المتضمن عدة وثائق سئمت منها آلات السحب، مقابل فشل العقل المنوط بإثبات هذه الشهادة وتأكيدها شفويا أو تطبيقيا، ففي وسط هذه الغوغائية الوظيفية لا أحد يعرف من الذي سرّب الآخر؟ الجامعي الجاهل بما تثبته شهادته، أم العالم الذي حرمته المدرسة من الحصول على شهادة.؟ والتاريخ يعجّ بهذه المفارقات العجيبة، الجامعات في الكثير من الدول تسارع بمنح شهادات فخرية ترقيعا لهذا الخلل..
الذين تلتمس في خطاباتهم إحاطة كاملة تحصيلا وفهما ووعيا بما يدّعون، هؤلاء أنفسهم محرجون حين تجمعهم صفة الزمالة مع أشخاص غير قادرين على تبرير ما يحملون من شهادات، أو كما ترى فلسفة المعرفة في فهم ما ندّعي والوعي به على نطاق أوسع في الحياة: "الاعتقاد الحقيقي المبرّر". حتى المتلقي سواء كان قارئا أو تلميذا أو مشاركا في تظاهرة معرفية، يلاحظ أيضا هذا التعارض الواضح بين شكلية الشهادة الأكاديمية مقابل النسبة الضئيلة من التحصيل الذي يحضر به حاملها، إنه حضور فاسدٌ لا يستحق ما نشير إليه من هالة معرفية، ومزعج جدّا في نظر العقل المهووس بالتنوير الدءوب حفرا عن المعرفة فيما ندر وتوفّر من الكتب، فالعقل المفرغ من مبرّرات وجود الشهادة يجعلني أصر على عدم الاكتفاء بأن "فاقد الشيء لا يعطيه" بل دليل على أنه مجرم غش، شبهة تصل إلى حد وصفها بالإدانة الواضحة تفرض على الجهات القضائية المختصة سحب ما يحمل هذا المدّعي من شهادة، بل ومعاقبته بما ينص عليه القانون حيال مرتكبي جرائم الغش، وبالتالي ينقلب عليه السحر من حامل شهادة إلى حامل إدانة، بينما لا حاجة لنا بشهادة العارف المتمكن الذي يملك القدرة على تبرير ما يعتقد من معارف، نتحدث الآن عن فضاء التنوير بعيدا عن الديبلوم الذي يعتبره المتقاعسون عن المعرفة والمتهافتون على الكلأ هدفا.
هل يمكننا بثبوت وجود هذه الظاهرة الاعتراف بأن زمن شهادة الكفاءة في وقت سابق، أكثر ازدهارا بالمعرفة مقارنة بما يعج به المؤسسات الآن من شهادات ضخمة وسيفيات خلابة، رحلة محفوظاتية يذكرنا حاملها - من حين إلى آخر - بأن له فيها الأسماء الحسنى في العلم والمعرفة، في حين لا يكاد يغطي عشرة دقائق حديثا عن ظاهرة ذات صلة بتخصصه، في النهاية لا يقنعنا بشهادته سوى أنه كان منضبطا وملتزما بوقت الدخول إلى المدرسة ووقت الخروج منها، وبين ذا وذاك خنوعه للمعلومات المقدّمة إليه، واستسلامه أيضا لمصادرة محاولة رفضها أو الاختلاف عنها، بل متماه مع إمكانية طرده في حالة حضوره بقناعات مختلفة، الدولة تعي ذلك جيّدا وتفهمه بدليل اشتراط مسابقة التوظيف في حامل شهادة الدكتوراه وفي ما دونها من المستويات، فبماذا نجيب المتلقي الحديث تفسيرا لهذه الإشكالية.؟
كثير من العصاميين بما حازوه من معرفة رهيبة بشكل ارتجالي وبمنأى عن النظام الداخلي، وخارج روتين قوائم المناداة اليومية، هؤلاء أثبتوا فشل المنظومة المعرفية بأطرها المعمول بها إلى حد الساعة، فشلها حتى في الشق التربوي بدليل انحراف ثقافة الخطاب السائد في المجتمع، بالنظر إلى القاموس القبيح الغالب على لسان المواطن في معظم مراحله العمرية، المدرسة العربية إذن لا تزال مجرّد وسيلة للمساهمة في الحد من التواجد الديمغرافي في البيت، والتخفيف من حدّة اكتظاظ الشارع، وإيواء العدد الأكبر من التعداد البشري داخل ما يُسمى عادة بالحرم الجامعي، أكيد المدرسة التي يُسجل فيها الطفل بطريقة الواجب الوطني، أو يقحمه وليّه ويفرضها عليه للاطمئنان على مستقبله من المنظور المعيشي، المدرسة بهذا النمط وهذا المفهوم لا تقدم أجوبة مقنعة للأسئلة التي نقصدها، وفي غياب خطاب يدعو إلى روح العلم كواجب إنساني مقدّس، وأحق بأن يصير الفرد به شخصية سويّة تعرف ما عليها من واجبات حضارية، اتّفاقا أن الشغل لتأمين العيش تحصيل حاصل، وهَمٌّ هامشي خارج الأهمية الكبرى للمعرفة التي نعني بُعدَها الفلسفي في هذا المقال.
المفهوم المسطّح السيئ للمعرفة هو الذي يدفع بالطلبة إلى الغش، لأنه مضحكٌ إباحة انتهاك المقدّس لأجل الوصول إلى هدف مقدّس، يبدو الذي يمارس هذا التناقض مخلوقا شاذا يحتاج إلى تقويم، والمضحك أكثر وجود تلك الترسانة الضخمة لحراسته خلال الامتحانات، مَن الذي كان يحرس محمد - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء، كان ليحدث للقرآن مثل ما حدث للتوراة والإنجيل لو لم يكن الرسول - عليه الصلاة والسلام - صادقا وأمينا مطلقا، ثم عَلّم أصحابه والتابعين والمسلمين من بعده الصدق والأمانة، وهكذا ينبغي أن نتعامل مع المعرفة لأنها مُكمّل لهذه الرسالة وكذا الرسالات التي سبقت، اتفاقا على أن أهم أمانة في الكون هي المعرفة.
هناك نماذج كثيرة من العلماء المسكوت عن قدراتهم، شخصيات عتّمت على وجودهم شهادة إدارية جرداء من المعرفة تشبه أرضا قاحلة تتطلب ثورة معرفية كبيرة، وملاحقات قانونية للتحقيق في صحتها، وليس مجرّد إصلاح لمنظومتها، ثورة معرفية ثقافية يقوم بها الزُهّاد في القراءة ليعاودوا تهيئة أرضية المعرفة كأن لم نقرأ من قبل شيئا.. أسهبتُ في الحديث محاولا الوصول إلى شخصية معرفية فذّة استثارتني لكتابة هذا المقال، وجرّتني جرّا إلى الخوض مجرّبا الحديث حول مفارقة عجيبة بين رجل تخلّى عن المدرسة مبكرا، في حين ظلت علاقته بالمعرفة متواصلة ومفرطة بزهدها في طلبها والإلحاح على تحصيلها، وحثيثا يطارد المعارض الدولية للنيل مما أنجبت عقول المفكّرين في العالم، لا يبتغي من وراء ذلك ارتقاء إلى قسم أعلى، ولا يطمح بها إلى نيل شهادة مرموقة، ولا الحصول عن طريقها على وظيفة ذات دخل غدق، بل لا يريد بها حتى مجرّد إشادة من مؤسسة تعليمية.
الناقد قلّولي بن ساعد الذي رفض منظومة "ضع الأيدي على الرؤوس"، و"شبّك يديك"، و"قف إلى الحائط برجل واحدة"، و"انتبه"، و"أنظر أمامك".. أو قل عندما تتنامى المعرفة بقرار فلسفي ذاتي، وليس استجابة لأوامر أشبه بالعسكرية، أو إجراءات محفوظاتية لأجل الارتقاء إلى القسم الموالي.. الناقد قلولي بن ساعد شخصية مختلفة من خلاله تكتشف أن شهادة المدرسة العربية مجرّد وثيقة باردة، ورقة لا تؤهل إلا إلى وظيفة تمكن صاحبها من العيش الآمن، لقد أثبت جدارةً أن الجامعة ليست سوى ورشة ورقية، ومكنة لصناعة عقليات متكرّرة، ومفرزة لذهنيات ذات طبيعة واحدة.. كلها متفقة على طموح واحد، طموح لا يتعدّى الحلم بالحصول على راتب شهري دائم وقابل للزيادة.
الناقد قلّولي بن ساعد ونحن في المقهى أو على منصة الإلقاء، أو أي مكان تجده فيه لا يخاف من مفتّش، وليس ملزما بتحضير بطاقة فنّية خوف الخروج عن الفكرة أو الموضوع، فحين ينساب حديثا بما يتقن من المعرفة ليس في مخليته ترقية ولا علاوة ولا منحة إضافية، فهو كعصفور نشط يظل يرفرف بين أغصان مكتبته، فإذا ما حط بين دفتي كتاب أصبح يزقزق بما قرأ وفهِمَ، فكأنه يقرأ للناس جميعا وليس لنفسه، إنه الإخلاص للمعرفة والاستعداد الدائم لها دون ضغوطات أو مغريات.. فمن خلال ما يحضر به تتأكد من قوّة سؤاله في الحياة، وحيويّة حضوره في المواقف، وأحيانا تجده ينوب عنك بطرح كثير من الأسئلة، لتجد - حين الجلوس معه - إجابات عجزتَ أو تكاسلتَ أو أهملتَ الاهتمام بأسئلتها.. فإذا أدهشك - مجدّدا - فراغ ذهنية حامل الشهادة الأكاديمية، يدفعك الناقد قلّولي بن ساعد - سريعا - إلى الشك بأن النخبة التي تبحث عنها المدرسة العربية هي المتسربة في الواقع، هكذا نقرأ في اللوائح الروتينية في تبرير البشر خارج محيط المدرسة، وفي الحقيقة هناك حالات في الهامش تتواجد ليس بمعنى التسرّب، ولكن بما يشبه عطلة التفرغ للمعرفة، المسألة تشبه طريقة البحث عن لاعب كرة قدم في الأحياء العميقة، بينما تفتقر إلى ذلك مدارس عُليا ومعاهد وجامعات لتدريس العلوم الرياضية، بمعنى أدق تجد نفسك مُلزما بالسؤال "مَن يُسرّب مَن؟"، على نسق السؤال الذي طرحته قناة الجزيرة سابقا: "مَن يقتل مَن.؟"، ولعل قتل العقل أكثر الجرائم بشاعة.
الحالة تستوجب عناية الدولة بهذه الظاهرة المعرفية النادرة، وحتى تستفيد منها المنظومة المصابة بعدة عاهدات تؤسس قناة تمكن هذه العقول من التواصل مع الجامعة، وإنشاء لجنة للنظر في ما تحمل هذه العبقريات القابعة وراء سياج المدينة الجامعية، هناك عقول كثيرة ضحية هذه المنظومة التي تعترف الدولة نفسها بأنها معلولة، وعندما تخصّص ميزانية ضخمة لإصلاحها، فهذا يعني دعوة للذين تم توجيههم إلى الحياة العملية ليرفعوا سويّا دعوة قضائية، والمطالبة بإعادة النظر في قرار المدرسة، لأن ما يحوزه هؤلاء من علوم يشهد أن إجراءات المدرسة قد تكون في الكثير من الأحيان مجرّد انفعالات خارج المعرفة، بل ممكن حتى تصفيات شخصية على حساب ما تبحث عنه المدرسة الجزائرية، إضافة إلى الشكل المتعارف عليه حاليا من نقطة جيّدة وارتقاء وتخرج، أعني غياب عبقرية السؤال التي تؤهل إلى البحث العلمي والقدرة على الإضافة، بدلا من هذه الخبطة العشواء في تكرار وتوليف أخطاء الغابرين ممن تعتبرهم مؤسسة التوظيف العمومي ذوي خبرة مهنية.
عندما تستمع إلى الناقد والعارف المتمكّن قلولي بن ساعد، تتأكد أن الدولة مخطئة عندما تعتقد أن العقل الذي يمكن أن يعينها على تدبير شؤونها يوجد فقط داخل الحرم الجامعي، وقد تظل تطعم كائنا بشريا يحمل حقيبة من الشهادات حتى يتوفاه الأجل دون أن يفيدها بشيء، فتجد في النهاية أنه مجرد ورطة جعلها تنفق عليه راتبا شهريا كان من المفروض أن يتقاضاه باحث ميداني، شخصية معرفية يحتاج إليها المجتمع في فك خناق أزمة اقتصادية أو صحية أو اجتماعية مفاجئة.
(*) الأستاذ والمفكر عامر مقواس رحمه الله


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.