دعم مباشر وغير مباشر تضمنه الدولة منذ 1962 بالرغم من الأزمات المتعاقبة، وعلى مدار ستين سنة من الاستقلال، بقيت الجزائر وفية لطابعها الاجتماعي متمسكة ب «الاستقلال الوطني بواسطة إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية» (بيان أول نوفمبر). على مدى ستة عقود من الاستقلال كانت ولا تزال الدولة الحامية لمواطنيها والراعية لهم من خلال استحداث آليات وإجراءات عرفت تحيينا مستمرا بما يتلاءم والتغييرات الاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها الدولة، كان آخرها الأزمة الاقتصادية والصحية (وباء كوفيد) العالمية، وضعت الجزائر في اختبار صعب لكنها وككل مرة استطاعت الصمود أمام تداعياته والاستمرار في تقديمها الدعم الاجتماعي لمختلف فئات المجتمع، بالإضافة إلى استحداث آليات لتخفيف وطأتها على القدرة الشرائية. البداية.. بعد ثورة التحرير تكللت باسترجاع السيادة الوطنية وجدت الجزائر نفسها أمام حرب جديدة ضد الفقر والأمية والهشاشة الاجتماعية ترتبت عن 132 من الاحتلال الغاشم، وضعية أجبرت المجاهدين على بدء نوع جديد من الجهاد فكانت معركة البناء والتشييد. ولن يتأتى ذلك دون أن تكون الدولة الراعي الأول لهذا المواطن الذي كان الكتيبة السرية في جيش التحرير والرقم المفتاح في معادلة التحرر، لذلك ستبذل كل الآليات الممكنة لتحقيق المواطنة في إطار دولة اجتماعية. وتحت شعار «العدالة الاجتماعية « أرست القواعد الأولى لهذا الخيار الذي تضمنه بيان أول نوفمبر، من خلال دعم القطاعات ذات الصلة بالخدمات كالسكن، الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، ليرسخ صدور القانون 84-17، في جويلية 1984، الدعم الاجتماعي كبند ثابت في قوانين المالية تحت مسمى «التدخلات الاجتماعية». وارتبطت هذه السياسة بدعم أسعار المواد واسعة الاستهلاك والتعليم والطاقة كالكهرباء والغاز والوقود بالإضافة إلى الصحة والسكن، مع إعطاء الأولوية للفئات الهشة (ذوي الاحتياجات الخاصة). وشكلت مجانية التعليم الوسيلة للحدّ من الأمية التي كانت تتجاوز 90 بالمائة غداة الاستقلال، حيث حرصت الدولة على بناء المدارس والمؤسسات التعليمية لمختلف الأطوار عبر المناطق النائية الأكثر عزلة، مع إجبارية ومجانية التعليم حتى يستفيد الأطفال من مختلف فئات المجتمع، لتنخفض الأمية إلى 7.94 بالمائة في 2021. بالموازاة، حرصت على بناء المستشفيات والمراكز العلاجية لمكافحة الأمراض المصنفة ضمن أمراض الفقر كالكوليرا والسل والتيفوئيد، التي استطاعت القضاء عليها مع انطواء العقد الثاني من الاستقلال، من خلال تخصيص وحدات متنقلة لكل مناطق الوطن مجانا، بالإضافة إلى استحداث صيغ متعددة للسكن لضمان تملك المواطن سكنا لائقا يحفظ كرامته. وكان المواطن منذ الاستقلال جوهر الكينونة الاجتماعية للدولة التي وجدت نفسها في السنتين الماضيتين في مواجهة أزمة مزدوجة وضعتها أمام خيارين، أما الإبقاء على السياسة الاجتماعية بدعم القدرة الشرائية للمواطن أو التخلي عنها بكل التداعيات. بعيدا عن الاتكالية بالرغم من الأزمة الصحية، حافظت الدولة على التزاماتها تجاه المواطن مجدّدة التمسك بمبادئ أول نوفمبر، حيث عملت وتواصل جاهدة على توفير كل الإجراءات الكفيلة بتخفيف وطأة الأزمات المتعاقبة من خلال آليات، لاستحداث مناصب شغل والإبقاء على مجانية السكن والتعليم، فهي تحاول بكلّ أجهزتها مرافقة المواطن وقدرته الشرائية للحدّ من تهاويها بعيدا عن الاستدانة الخارجية. ولعلّ تفعيل دور المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي وتغيير تسمية الوكالة الوطنية لدعم تشغيل الشباب (أونساج) إلى الوكالة الوطنية لدعم وتنمية المقاولاتية، دليلا على السياسة التي تنتهجها الدولة من أجل إخراج البعد الاجتماعي لكينونة الدولة من الاتكالية الصرفة والارتكان إلى صفة «فئة هشة» إلى المساهمة في التنمية الاقتصادية والاستقلالية المادية، خاصة فيما يتعلق بقطاع المؤسسات المصغرة وتشغيل الشباب. وتعمل الدولة إلى جانب دعم الطبقة الهشة من ذوي الاحتياجات الخاصة والأرامل والمطلقات، على انخراطها في الحياة الاقتصادية من خلال وكالتي «أونجام» والتنمية الاجتماعية، حيث تم تخصيص مشاريع مصغرة للمرأة الماكثة بالبيت لتساهم في تحريك العجلة الاقتصادية من خلال «الأسرة المنتجة». كما تم إنشاء صندوق لتمويل المؤسسات الناشئة وإقرار إعفاءات ضريبية جديدة للمؤسسات الناشئة وتسهيلات للاستفادة من العقار لإنشاء الحاضنات والمسرّعات، بالإضافة إلى تفكيك «البيروقراطية» بغية منع هجرة الشباب إلى الخارج بتبني رقمنة الإدارة واستحداث الشباك الوحيد. المواطن.. الأساس على صعيد آخر، شكلت الهزات الارتدادية للأزمة الصحية العالمية أحد التحديات المهمة للدولة في السنتين السابقتين بسبب تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية التي أثرت على المواطنين بشكل كبير، خاصة وأنّ البعض وجد نفسه بلا عمل ولا دخل يحفظ كرامته وكرامة عائلته، لكن وبالرغم من تداعيات الجائحة العالمية الاقتصادية، إلا أنّ سلامة وصحة المواطن شكلت الأولوية بل خطأ أحمر. ولتجاوز آثارها أو التخفيف منها على الأقل، أقرت السلطات العمومية إجراءات فورية منها التجميد الفوري لكل عمليات تسديد الأعباء المالية والالتزامات الجبائية وشبه الجبائية الواقعة على المتعاملين الاقتصاديين خلال الحجر الصحي، بحيث لم تطبق أيّ عقوبات أو غرامات على هؤلاء المتعاملين خلال تلك الفترة. إلى جانب تقييم دقيق للأضرار الناجمة والخسائر التي لحقت بهم خاصة فيما يتعلق بالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة وأصحاب المهن الصغيرة والحرفيين، وكذا منح مساعدة مالية لفائدة هذه الشريحة خاصة سائقي سيارات الأجرة، الحلاقين وحرفيي الصناعات التقليدية بقيمة 30 ألف دينار. في نفس الوقت، أمر رئيس الجمهورية المعنيين بتجنب فرض الضرائب التي ليس لها تأثير على حجم الميزانية والاستمرار في تخفيف الأعباء على المواطنين حفاظا على مناصب الشغل، إلى جانب تسقيف سعر فحوصات السكانير في حدود 7000 دينار وتحاليل «بي. سي. آر» ب 8800 دينار، والمضاد للجين ب 3600 دينار، أما التحاليل الفيزولوجية فب 2200دينار. لم تكن المساعدات والتعويضات المالية الصورة الوحيدة لتكفل الدولة بمواطنيها على ضوء الأزمة الصحية، بل عملت على إجلاء رعاياها العالقين في مختلف دول العالم بسبب غلق المطارات، فكانت رحلات «الإجلاء» الفوري لأبناء الجالية أحد صورها المهمة. القدرة الشرائية ..أولوية كما وضعت الدولة نصب عينها تخفيف أثار الأزمة الاقتصادية على حياة المواطن، فأعدت برنامجا لتحويل الدعم الى صيغة جديدة، بالانتقال من الدعم المباشر إلى «الموجّه» حتى يصل إلى مستحقيه من فئات المجتمع الهشة. خطوة مهمة اتخذت ضمن سياسة اجتماعية تأتي في سياق خروج الجزائر من عقلية «الريع» التي أبانت عن فشلها لنشرها الاتكالية، للتوجّه إلى مرحلة أخرى تمت فيها مراجعة صيغة الدعم المقدم من طرف الدولة ليصبح دعما موجّها. وتمت دعوة المعنيين إلى تحديد الفئات المستحقة لهذا الدعم بالنظر إلى التلاعبات التي يقوم بها البعض من أجل الاستفادة من المواد الأساسية المدعمة كالحليب والدقيق الأبيض في استثماراتهم الخاصة، ما يشكل رهانا حقيقيا أمام المشرفين لوصول الدعم إلى مستحقيه. واستدعت الاختلالات الحاصلة منذ انهيار أسعار البترول في 2014 وسقوطها الحر في 2020، تدخل الدولة لكن دون المساس بطابعها الاجتماعي، فكان عليها وضع إستراتيجية دقيقة لإعادة تحريك عجلة الاقتصاد الوطني، لذلك توجهت نحو دعم الإنتاج المحلي من خلال مرافقة الشباب واستحداث آليات جديدة تدخله في الحركية الاقتصادية بل تجعله القوة المحركة لها. وحرصت الدولة أيضا على مرافقة الزيادات التي عرفتها أسعار الوقود بقرارات تحافظ على القدرة الشرائية للمواطن، على غرار إعفاء ذوي الأجور التي تقل عن 30 ألف دينار من الضريبة على الدخل، ما سمح بزيادات في رواتبهم تتراوح بين 20 إلى 25 بالمائة، إلى جانب مراجعة النقطة الاستدلالية لعمال الوظيف العمومي، حيث تم رفعها وتطبيقها، منذ أفريل الماضي. كما تم تبني سياسة مرافقة العاطلين عن العمل من خلال إقرار منحة البطالة التي بدأ الشباب الاستفادة منها شهر مارس الماضي، لتحفيزهم والتكفل بهم أثناء مرحلة البحث عن العمل، وتقوم الوكالة الوطنية للتشغيل بتسيير إجراءات الاستفادة من المنحة، حيث استحدثت منصة رقمية حرصا منها على تنظيم العملية. ولعل عدم فرض ضرائب إضافية أو جديدة في مشروع قانون المالية التكميلي 2022 وعدم مسّ هذا القانون بأيّ شكل من الأشكال بتركيبة الأسعار المعتمدة حاليا، هو تأكيد حرص الدولة على القدرة الشرائية والمكاسب الاجتماعية.