«أنتمي إلى جيل بنات لا يعرفن العرائس الجاهزة ولا يقتنين الدمى المعروضة في واجهة المحلات، وكان الآباء يمنعون بناتهم من شراء الدمى الفرنسية خشية التغريب والتفرنس. لذا كانت الأمهات والجدات يقمن بعمل العرائس.» وتضيف: «دمانا كانت بدائية. عرائس تخاط من الكتان وتُحشى إما بالصوف أم بنخالة القمح بعد الطحن أو بالنجارة الناعمة، عيونها وشفتاها وخصلات شعرها من الخيوط والقماش.» بهذه الكلمات من كتابها «عرائس من الجزائر»، تروي الراحلة زينب الميلي قصة ظاهرها دمى ولعب أطفال، وباطنها تاريخ من النضال. حينما نقرأ نعي وزير المجاهدين وذوي الحقوق، العيد ربيقة، الذي نشر في وفاة المجاهدة زينب الميلي، نجده يقول إن «الأديبة والمجاهدة زينب الميلي واحدة من الأقلام الصحفية الرائدة»، و«لها إسهامات إعلامية متعددة وثرية وكتابات متنوعة» أهمها كتابها «عرائس من الجزائر». وذهبت وزيرة الثقافة والفنون، صورية مولوجي، في نفس اتجاه زميلها في الحكومة، حينما قالت إن الفقيدة «عملت كصحفية في جريدة الشعب العمومية بعد الاستقلال، كما عُرفت باهتمامها بحماية التراث الثقافي غير المادي وخاصة اللباس التقليدي، وهي التي أقامت عددا من المعارض الفنية للدمى باللباس التقليدي لكل مناطق الجزائر، لا زال بعضها معروضا إلى غاية الآن في متحف باردو». من هاتين الرسالتين، نفهم أن الراحلة اهتمت بالتراث الجزائري غير المادي، وقلائل هم المهتمون بهذا الشق من التراث، بل وعملت على تدوينه وتوثيقه، من خلال كتابها «عرائس من الجزائر»، وهو العمل الذي سنعرج عليه في هذه السانحة، باستعراض مجموعة من الآراء والقراءات. صدر الكتاب عن دار الشروق للنشر والتوزيع، في 220 صفحة، قدم له الراحل محمد حسنين هيكل، وقدمت فيه سبعا وأربعين «عروسة» مختلفة الأشكال والأزياء.ونذكر هنا ما قالته «الحياة اللندنية» (توقفت عن الصدور في 2020) عن الكتاب، حينما اعتبرت أن الأزياء التي ترتديها العروس «واحدة من أهم المؤشرات إلى تقاليد وأعراف الشعوب. وقد يكون خير دليل على ذلك كتاب الجزائرية زينب الميلي، «عرائس من الجزائر» الذي تشرح فيه أزياء العروسين وكيفية إقامة العرس في كل منطقة ومحافظة وحتى شارع في الجزائر ودرجة الاختلاف بين هذه الحفلات داخل البلد الواحد.» ووصفت «الهلال» (بقلم أماني عبد الحميد) هذا الكتاب بأنه «نموذج للتجربة الإنسانية»، سلطت فيه الراحلة الضوء على جزء من التراث الشعبي الجزائري، وهو زي المرأة الجزائرية، ومثلته الكاتبة في نماذج من العرائس تمثل كل منها منطقة من مناطق الجزائر. وأضافت أن «كتابها هذا الفريد من نوعه أشبه بسجل مصور يؤرخ لبعض ما يمارس في الجزائر من تقاليد وعادات تتعلق باللباس الذي يحاك للعروس الجزائرية، وبالحلي الذي تستعمله في ليلة زفافها، بدءا بالأقراط وانتهاء بقبقاب الحمام.. وهذا ليس كل شيء بل فيه أيضا وصف وشرح دقيق للباس يوم الختان، وللباس الفتيان يوم العيد، وللباس عروس قسنطينة، هذا إلى جانب العديد من اللوحات المعبرة والتي رغبت المؤلفة برسمها بريشتها الخاصة.» «اللّوحات المعبرة».. «ريشتها الخاصة»؟ هذا يعني أن الراحلة كانت، إلى جانب الكتابة، رسامة أيضا.. هذا ما تؤكده كاتبة العمود الشهيرة حدة حزام، التي كتبت، قبل قرابة السنة: «زينب لمن لا يعرفها، هي ابنة العلامة والشهيد العربي التبسي، وهي أول صحفية جزائرية تكتب بالعربية، ولها مؤلف بعنوان: «عرائس من الجزائر» الذي كتب تقديما له الصحفي المصري الراحل حسنين هيكل، وهو يضم صورا لمجموعة من العرائس صنعتها الفنانة زينب قدمت فيها اللباس النسائي لكل مناطق الجزائر الغنية بتراثها، وبعض هذه العرائس معروضة في متحف باردو بالجزائر العاصمة، كما لها مجموعة من اللّوحات الزيتية، وهو الجانب الخفي الذي لا يعرفه الكثيرون عن هذه الفنانة التي تتقن كل الحرف اليدوية من خياطة وتطريز وحياكة وحتى صناعة الزرابي، بحكم نشأتها في بيت عريق بمدينة تبسة حيث تلقت العلم على يد والدها الشيخ العربي تبسي.» وهكذا، تحدثنا زينب الميلي في كتابها عن «عرائس الجزائر»، بحيث تحمل كل «عروسة» (الجمع بين معنى العروس و»العروسة» أي الدمية) اسما نابعا من بيئتها، فعروسة منطقة النمامشة بالأوراس تحمل اسم «جغمومة» أي الإناء الذي يدلى إلى البئر (نظرا لكون المنطقة يشح فيها الماء)، و»خولة» هي عروس منطقة تلمسان، و»زمردة» الاسم الذي يطلق على البنت في المناطق التي شهدت نزوحا من الأندلس، ومن قسنطينة العروس «منوبة»، أما من قلب الصحراء فتحمل العروس اسم ابنة الناقة البيضاء المهاري فيكون اسمها «مهرية»، وذلك «لشغف أهل بلدة نقرين بالنوق والمهاري»، فيما يطلق أهل الحضنة على عروسهم اسم «قرمية» المأخوذ من طائر القرمي لجمال وكبر عينيه السوداء. وكما أن لكل عروس اسمها المعبر عن منطقتها، فإن وصفا دقيقا يصاحبها، لكل ما تلبسه من قماش وحلي. مثلا، حينما تحدثنا الميلي عن «صباط العروسة» في قسنطينة، فلا بد أن يكون هذا الأخير من عند العريس، فهو الذي يشتري حذائها وحذاء والدتها، وهو لا يُشترى بل يتم صنعه، وبما أن المرأة، قديما، لم يكن يسمح لغير محرمها برؤيتها، فإن ذلك يطرح مشكلة المقاسات، فكيف يعرف صانع الأحذية مقاسها بالضبط؟ عند أهل الحضر، توضع قدم المرأة فوق ورق، وتصور «عفسة» القدم على الورق؛ ويعطى هذا ك «قالب» ل»الصبابطي» لينجز مقاسا عليه، أما أهل البدو، فلا يستعملون قلما وورقا، بل يأخذون خيطا من الصوف ويقيسون به قدم العروس، ثم يعقدون الخيط عند نهاية طول وعرض القدم. من كل ما سبق، نجدد قولنا إن «عرائس من الجزائر» ليس فقط كتابا يصور الدمى، ويحكي قصة الأعراس الجزائرية.. هو كتاب يوثّق لتاريخ ضارب في القدم، تاريخ قارة اسمها الجزائر، بتنوّعها الجغرافي والسوسيو ثقافي الفريد من نوعه.. رحم الله زينب الميلي، ورحم بنات وأبناء الجزائر الأبرار.