ذكرت الدكتورة نصيرة قشيوش في حوار مع "الشعب"، أن ما حدث مؤخرا من سرقة علنية للتراث المادي واللامادي الجزائري من طرف دول أخرى، دفعها للتأصل والتأريخ لتراثنا بإصدارها كتابا جديدا حول القفطان الجزائري، مشيرة إلى أن هذا اللباس له مرجعيات تاريخية وحضارية عريقة ذات صلة بتاريخ طويل، حيث أنه يجمع الشعب الجزائري بحضارات أخرى متنوعة تضرب بجذورها إلى الماضي السحيق. الدكتورة نصيرة قشيوش أستاذة التعليم العالي بقسم العلوم الاجتماعية بجامعة تلمسان، شاركت وترأست عدة مؤتمرات وملتقيات دولية، من بين إصداراتها: "الزفاف في تلمسان دراسة فنية أنثروبولوجية"، "الأمثال الشعبية عن الزواج بالجزائر دراسة في المضامين الاجتماعية والثقافية" الصادران عن دار ابن بطوطة للنشر والتوزيع، وكتاب جديد صدر مؤخرا عن دار ومضة للنشر والتوزيع تحت عنوان "القفطان الجزائري عبر العصور والحضارات". الشعب: بما أنك متخصصة في الأنثروبولوجيا، كيف يستطيع الباحث من خلال هذا العلم التأصيل لتراثه؟ الدكتورة نصيرة قشيوش: يستطيع الباحث الأنثروبولوجي التأصيل لتراثه كون هذا العلم (الأنثروبولوجيا) يدرس علم الانسان أي ثقافته. وهو العلم الذي يقدم الإجابة على العديد من الأسئلة، حول الماضي والحاضر والمستقبل، وتعتبر الأنثروبولوجيا مهمة للتاريخ، لأنها تصف كيف عاشت الشعوب عبر العصور المختلفة، وكيف تحاورت وتداخلت مع بعضها البعض. كما تسعى لتفسير وتحليل طقوس وعادات المجتمعات، وتساهم في فهم الممارسات والمعتقدات وأنماط التعبير. فهي تحاول دراسة الانسان والمجتمع والثقافة عبر كل العصور، وفي كل مكان حول العالم. فعلم الأنثروبولوجيا يساعد على التعرف على التراث الإنساني على ممر العصور. فمثلا في مجال اللباس، ساعدتني الأسطورة كثيرا للكشف عن كثير من الحقائق حول تاريخ "القفطان"، وارتباطه بالعقائد والأفكار. فما تزال الأسطورة من أهم القرائن التي يحتاج إليها العلماء في الدراسات الإنسانية بعامة، وفي مباحث علوم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا بخاصة، بل إنها ما تزال مرجعا يفسر الفنون الجميلة على اختلاف أشكالها ومضامينها.. لقد وجدت في الأسطورة مادة خصبة للتأصيل لهذا اللباس، ولقد قدمت قليلا منها في الكتاب الموسوم ب«القفطان عبر العصور والحضارات"، وتركت الباقي للكتاب الثاني الذي سيصدر قريبا إن شاء الله. - نسمع في المدة الأخيرة عن سرقات علنية للتراث المادي واللامادي الجزائري من طرف بعضهم، هل كتابك الجديد الصادر مؤخرا عن دار ومضة جاء رد فعل لإعادة الاعتبار ل«القفطان"؟ في الحقيقة استغرق هذا الكتاب كثيرا من الوقت والجهد، وقد جاء نتيجة حب ورغبة شديدة للبحث في لباس القفطان والتأصيل له.. كنت أحس أن هذا الموضوع جزء من ذاتي، كونه يمثل هويتي وانتمائي، بالإضافة الى أن هذا الموضوع لم ينل حظه وإقباله من لدن الباحثين؛ لذلك عزمت على إنجازه لسد ثغرة في مجال البحث العلمي. كذلك ما زاد من عزيمتي واصراري على نشر هذا الكتاب، ما حدث مؤخرا من سرقة علنية للتراث المادي واللامادي الجزائري، من طرف أدعياء، وهذا ما زادني غيرة ودفعني للتأصيل والتأريخ لتراثنا؛ لأنه يعد سجلا لإبداعنا على مر الزمن، ورمزا لعبقريتنا، وذاكرة حافظة لقيمنا.. كما يعتبر أحد مقومات هُويتنا الثقافية والحضارية وخصوصيتها التي نتميز بها بين الشعوب والحضارات المختلفة؛ ولأجل هذا، يجب أن نسابق الزمن في الحفاظ على تراثنا الثقافي، واستحداث الوسائل والسياسات والإمكانات التي تحقق لنا صيانة مستدامة لتاريخنا وتراثنا. - هنالك كرونولوجيا في كتابك تثبت أن "القفطان" جزائري أصيل.. نعم، القفطان الجزائري قديم، وهو يرجع إلى عصر ما قبل الميلاد. ومما لا شك فيه أن النوميديين عرفوا "القفطان" عن طريق تأثرهم بعدة حضارات، كالحضارة المصرية، والآشورية، والرومانية، والفارسية، والفينيقية، والقرطاجية، وغيرها. ولم يكن هذا اللباس يُعرف بمصطلح "القفطان" في ذلك الوقت، وإنما كان يدعى بأسماء أخرى، كالجبة، والقباء، والمعطف، والحلة، وغيرها... وقد تأكدنا من ذلك عندما تتبعنا أسماء تلك المعاطف التي وردت في الأساطير، والتي كان يلبسها الملوك، والآلهة رجالا ونساء (عشتار، أنانا، إيزيس، تانيت، وتوت عنخ آمون، وغيرهم).. وتشير بعض الدراسات، إلى أن "القفطان" ارتداه الملوك النوميديون، ومنهم: الملك ماسنيسا، ويوبا الثاني، وبطليموس وغيرهم.. ذلك الزي الذي كان رمزًا للسلطة والملك والمكانة العالية، فكانت كل حضارة تتهافت وتتسابق في إنتاج أحسن الثياب لملوكها، بحيث كان يخصص لهم وللأباطرة ألبسة فخمة لا يحاكيهم فيها أحد، لأن السلطة والملك يتطلبان الأبهة والفخامة والعظمة التي تتجلى في جمال لباسهم، مثلما كان يجري في عادات وتقاليد آلهة وملوك الفراعنة، وآلهة وملوك وادي الرافدين. وعلى سبيل المثال، انتشر الرخاء والترف والبذخ في الملبس في العهد الرستمي، لأن تيهرت كانت ملتقى لعدة حضارات وثقافات وفنون، ويتحدث عن القفطان ابن الصغير: "ما رأيت شرفة من القصرين إلا عليها ثوب أحمر وأصفر"، ومما زاد أهميته في هذا الأمر، أن المترفين هؤلاء لا يقتنون من هذه الملابس حاجاتهم فحسب، بل يقتنونها مثلما يقتنون الأموال والجواهر، بل يمكن أن تكون نوعا من استثمار الأموال، فكأنهم بذلك قد حولوا أموالهم إلى ملابس إذ إن هذه الملابس تستعمل في مناسبات عديدة مكان النقود، فتمنح هدايا وتخلع على الأشخاص على سبيل المكافآت. ونفس الشيء بالنسبة للعصور التي تلت هذا العصر، وخاصة في العصر الزياني. فقد ازداد القفطان الجزائري ثراء وفخامة وجمالا، وتعددت الأشكال والأنواع والألوان.. - ما الذي يميّز "القفطان الجزائري"؟ في الحقيقة وجدنا صور للقفطان الجزائري كثيرة، ولكن لم نعثر على صور قديمة للقفطان الذي ينسب إلى مجتمعات أخرى، حتى يتسنى لنا المقارنة بينها. وهذا دليل على أن الجزائريين عرفوا واشتهروا بهذا اللباس منذ القديم، وكان لباس القفطان يتغير ويتطور من عصر إلى آخر، وخاصة في العهد العثماني، فإنه طبع بلمسة عثمانية جذابة. ولم يكتف الفنان الجزائري بالنقل والاقتباس من الفن التركي، وإنما أضاف إلى ذلك اللباس الكثير من الابداعات الفنية، على حسب ذوقه ومهارته، فجعله يفوق القفطان التركي في أناقته وفخامته.. لقد بلغت الحضارة الجزائرية من التطور والتقدم، ما لم تبلغه حضارة أخرى في صناعة لباس "القفطان"، والدليل على ذلك، أنها تملك أنواعا عديدة منه: "القرفطان" أو "الأرفطان" التلمساني، قفطان الداي، قفطان الباي، قفطان القاضي، قفطان العوينات، قفطان القرنفلة، قفطان البهجة، قفطان المنصورية، وغيرها من التسميات الأخرى. وأن كثرة تسميات تلك القفاطين وأنواعها، لدليل واضح على ازدهار حرفة الطرز، ودقة الصناعة، ورونق الابداع فيها. كما يدل هذا التنوع أيضا، على مدى تمسك الجزائريين بعاداتهم وتقاليدهم، واهتمامهم بجمال مظهرهم، وحسن أناقتهم، رجالا ونساء. لقد أبدع الجزائريون في صناعة "القفطان"، منذ أن اقتبسوه ونقلوه عن الحضارات القديمة، وكانوا في كل عصر يضيفون إليه شيئا جديدا من إبداعاتهم ورفيع أذواقهم، من أشكال وألوان وزخارف، يستلهمونها من بيئتهم وطبيعتهم وعاداتهم وتقاليدهم، إلى أن تشكل في قالب وطابع خاص، فخم وأنيق، يليق بالمستوى الحضاري الجزائري الرفيع.. - وما الفرق بين القفطان والقرفطان؟ كلمة "قرفطان" غير موجودة في القواميس ولا في المعاجم، وإنما وجدنا كلمة فقطان بدلها. وكلمة قرفطان موجودة في اللهجة التلمسانية وهي مأخوذة من كلمة "قرفط" بمعنى شمر ومعنى قصر، والقرفطان لباس قصير لا يتعدى نصف الساق، وسمي بالقرفطان لأنه مقرفط. كما قد ترجع التسمية إلى أن هذه الكلمة مأخوذة أو مشتقة من كلمة "القرطفة" والقرطفة في المعاجم معناها القطيفة. وسمي بالقرفطان لأنه كان يصنع من القطيفة، أو قد تعود تسمية قرفطان لأنها مشتقة من كلمة قرف (بكسر الراء) وهو الشديد الحمرة أو قرمزي وهو معرب القرف، أو نقول أرجوان وهو الثوب الأحمر، ويقال ثوب أرجوان، وقطيفة ارجوان، والأكثر في كلام العرب إضافة الثوب والقطيفة إلى الارجوان وقد أطلقوا الارجوان على نوع من الأثواب الحريرية المقصبة بخيوط من الحرير والذهب.. والاحتمال الأخير: هو أن الأصل في الكلمة "قفطان" وليس "قرفطان"، فالراء زائدة وهذا ما يحدث أيضا مع "الملوطة" و«المرلوطة"، ويشير إلى هذا "علماء اللغة" على أن الكلمات المعربة تتعرض إما لزيادة حرف أو حرفين أو لنقصانهما. وقدموا مثالا عن القبطية والقبطرية، حيث أن الأصل القبطية، ومن هنا نستنتج أن كلمة "قرفطان" بمعنى الثوب غير موجودة في معاجم اللغة، وإنما تستعمل في مدينة تلمسان فقط للدلالة على القفطان التلمساني، والفرق يكمن في اللهجة التلمسانية التي تَستخدم قرفطان (أرفطان) بدل قفطان مثلما تستخدم أراغلة بدل كراغلة أو قراعلة، فالمعنى واحد لكن نطق الكلمة يختلف من منطقة إلى أخرى.