أزيد من 17 سنة مضت على مجزرة بن طلحة ورائحة الموت لا تزال عالقة بحي بن جيلالي وحي بودومي، الجميع هنا تناسى ليلة 22 إلى 23 سبتمبر المشؤومة وتجاوزها، إلا أن الحديث عن الموتى الراقدين في مقبرة سيدي رزين يعود تلقائيا للواجهة من دون قصد منهم، فالتهميش والعزلة المفروضتان عليهم، فاقا كل ما عانوه خلال سنوات الجمر، ليدخل الناجون في عزلة إدارية ويقضوا ما تبقى من أعمارهم كمواطنين على هامش الحياة السياسية والاجتماعية. عندما وصلنا إلى بن طلحة كنا نريد رؤية مدينة جديدة شُيدت على أنقاض القديمة التي غرقت في برك من الدماء والتي هجرتها الحياة واستقر الخوف في أعين قاطنيها، كما استوطن شوارعَها وأزقتها، وبالفعل بمجرد وصولك إلى الحيّ السابق تشعر بأنك قد غادرت العاصمة وأن الحياة انتهت، فرحنا نبحث تحت أنقاض الموت الساكنة في قلوبهم عن سيدات فقدن في تلك الليلة المشؤومة أزواجهن، أبناءهن... لذا توجهنا إلى مركز العلاج النفسي الحاج محمد مجاج، حيث احتضن المختصّون ضحايا المجزرة البشعة والذين كان من الضروري جدا إخضاعهم للعلاج النفسي لتخطي المشاهد الأليمة التي عايشوها.
أرملة تتحدى المجزرة التقينا بالسيدة "ا. س" والتي كانت من ضمن السيدات اللواتي خضعن للعلاج النفسي في المركز رفقة أبنائها، حيث تحكي لنا تجربتها المريرة: في تلك الليلة فقدت زوجي والد طفليّ، وحماي، شقيق زوجي وصهري، تعود سنوات للوراء: "كنت حديثة الولادة أحمل على ذراعي مولودي الجديد البالغ من العمر 7 أيام فقط، سمعنا طرقا على الباب وأشخاصاً ادعوا أنهم رجال أمن وبمجرد أن فتح حماي الباب اقتحموا المنزل واقتادوا الرجال إلى المستودع، فنزلت زوجة حماي وأوصدت الباب بإحكام، كنا نسمع الصرخات والبكاء في الخارج، وعندما طلع النهار استفقنا على هول الكارثة، لقد ذبحوا حماي، أما زوجي فقتلوه رميا بالرصاص أثناء محاولته الفرار". تكمل "ا. س" حديثها والدموع تنهمر من عينيها "أصبحت أرملة في سنّ الثلاثين وأما لطفلين أحدهما يبلغ من العمر 5 سنوات والثاني بضعة أيام، عشت أياما عصيبة بعد المجزرة أصبت بأمراض مختلفة منها ارتفاع ضغط الدم ومشاكل في القلب والعينين، لم أنم أربع سنوات كاملة وكنت أرتعب في كل مرة أسمع فيها عواء الذئاب". في تلك الفترة افتتح مركز العلاج النفسي التابع لهيئة ترقية الصحة "فورام" أبوابه فجلبت "أ. س" ابنها البكر والذي انهار نفسيا وخلال أول جلسة علاج نفسي بالرسم رسم طاولة كبيرة عليها جميع أفراد العائلة وفوقها سكين تتقاطر الدماء منها "دعمنا النفسانيون وزودونا بجملة من النصائح حتى نتمكن من الاستمرار في الحياة، والآن أصبح ابني رجلا يبلغ من العمر 23 سنة، وقد تحصل على شهادة تقني سامي في البنوك". تتوقف "أ.س" قليلا وتصمت لتفكر بعمق وكأنها تحاول إبعاد صور المجزرة التي تحاصرها في كل مرة لتستطرد في الحديث: أودعت ملفا للحصول على سكن اجتماعي فمنحوني شقة متكونة من غرفتين ولم أتمكن من الطعن كوني خضعت لعملية جراحية على العين في تلك الفترة، وأنا أدفع مبلغ 1900 دج ثمن الكراء وهو مبلغ مرتفع مقارنة بمرتبي وهو لا يتجاوز 15 ألف دينار.
كسر حاجز الخوف ليست محدثتنا السابقة الوحيدة في المعاناة، فمئات الأرامل والسيدات اللواتي فقدن واحدا من ذويهن يعشن نفس المأساة، تسرد لنا السيدة "و" التي فقدت العديد من أقاربها في خلال العشرية السوداء وفي يوم المجزرة المشؤومة فوحدهم سكان أحياء بن طلحة والراقدون في مقبرة "سيدي رزين" يعرفون الحقيقة الكاملة، تقول "و": "لم نصدّق أننا نجونا من المجزرة، صحيحٌ أننا فقدنا الكثير من أقاربنا لكننا استطعنا أن ننفذ بجلدنا، وفي اليوم الموالي 23 سبتمبر 1997، توجّهتُ إلى مدرسة ابن باديس والتي كانت تغرق في الدماء فقد تمّ تجميعُ كل الجثث المترامية في الشوارع والطرقات داخلها، لتغدو بعدها بن طلحة شبه خالية، وحدهم الأطفال الصغار اليتامى والأرامل من ظلوا فيها، كنا نحاول إيجاد حلول لأنفسنا فننام جميعا في بيت واحد أو في حمام الحي ويتولى فردان من الحرس الذاتي "الباتريوت" السهر على حمايتنا، كان الخوف ملازماً لنا خاصة بعد أن قامت الجماعات الإرهابية بمصادرة بطاقات التعريف الخاصة بنا وهو ما منعنا من التنقل خارج الحيّ". وأكملت السيدة "و" تصريحها إن الأمان والثقة انعدمتا في تلك الفترة فالجميع صاروا مشبوهين ونخشى الحديث إليهم، وبعد سنوات من المجزرة تخطينا مأساتنا واستعدنا الأمن، الآن أصبح بإمكاننا الدخول والخروج في أي وقت، تخلصنا من عقدة الخوف. وتكمل محدثتنا: بعد سنوات من المجزرة واختيار ميثاق السلم والمصالحة الوطنية لايزال ضحايا الإرهاب يعانون من ضعف منحتهم الشهرية ومتاجرة بعض الجمعيات والمنظمات التي تنشط باسمهم وتجمع أموالا على حسابهم، حتى قفة رمضان هناك من لم يستفد منها طيلة حياته فالقفف تمنحها لهم الدولة وهناك موظفون ومسؤولون يعملون على تحويها إلى جهات أخرى ليست بحاجة إليها.
جلساتٌ علاجية فعالة أكدت مديرة مركز العلاج النفسي والنفسانية "براوي"، أن مركزهم تم إنشاؤه مباشرة بعد مجزرة بن طلحة، وكان هدفه التكفل بالجرحى والناجين من المجزرة طبيا ونفسيا من قبل أطباء مختصين ونفسانيين متطوعين لتمنحهم السلطات مقرا خاصا ويُعيَّن فيه أطباء دائمون نفسانيون، وأطباء عموميون وجراحو أسنان، وتضيف مديرة المركز أنه كان من الصعب جدا التكفل بالأرامل والأطفال الضحايا بعد المجزرة حيث كان يصعب إخراجُهم من الصدمة وتطلّب الأمر العمل لسنوات متواصلة حتى عام 2005 ليعودوا إلى حياتهم الطبيعية ويكملوا مشوارهم التعليمي، وأردفت السيدة "براوي" قائلة: أغلبية الفتيات والشبان أُجبروا على مغادرة مقاعد الدراسة لذا تمّ افتتاح ورشات خاصة لتعليمهم الخياطة والسيراميك... ونشاطات أخرى إلى غاية 2003 حيث تم تغيير نوعية النشاط لما يتوافق مع التطورات الحاصلة، وقد عملوا أيضا على الاستعانة بمرشدات دينيات معتمدات من قبل وزارة الشؤون الدينية لتصحيح بعض المفاهيم الخاطئة. وأوضحت مديرة المركز أن مشكلة الإمكانيات المادية المحدودة للأرامل جعلت المركز يستعين بالشركات والإدارات، وشجعوا العائلات على التكفل المادي بهؤلاء اليتامى والانطلاقة كانت ب 200 لتصل إلى 5 آلاف يتيم في غضون سنوات.
سكَّان بن طلحة يشتكون لم تقتصر معاناة سكان بن طلحة على ما عايشوه خلال سنوات الجمر من قتل وتنكيل وتشريد لتتضاعف بعد أن قرر المسؤولون المتعاقبون فرض العزلة والحصار عليها، حيث وجد أبناءُ المنطقة أنفسهم فريسة للفراغ وللمخدّرات والحبوب المهلوِسة بغية الهروب من الواقع المرير الذي يرزحون فيه في ظل غياب شبه كلي للتنمية، فالطرقات مهترئة، نقص المحلات التجارية، العيادات الطبية حتى المدارس والتي كانت ساحة لتجميع الجثث لم تعد تصلح للدراسة، وكذلك الحال في المستشفيات والعيادات فالمنطقة تعيش عزلة إجبارية. يقول "ص. ل" شاب في العشرينات من العمر: فقدتُ والدي وأقاربي في تلك المجزرة والآن وبعد سنوات أجد نفسي ضحية للضياع؛ فالبِطالة هي السمة الغالبة على شباب المنطقة فلا قاعات رياضة أو دور شباب، فقط أراض فلاحية هجرها أصحابها، لذا يتوجب على المسؤولين أن يعيدوا لنا الاعتبار فقد فررنا من ساطور "الجيا" لنعيش ما تبقى من أعمارنا تحت ساطور المسؤولين.