سقوط مدينة الرمادي، عاصمة الأنبار، بأيدي قوات تنظيم "الدولة الإسلامية" المسمّى "داعش" لم يكن مجرد انكسار للجيش العراقي كما وصفه المسؤولون الأمريكيون، ولا هو أهمّ انتصار للتنظيم منذ سقوط الموصل، بل هو بداية لمسار استكمال سيطرته على معظم "الأقاليم السنية"، قد تحبط كل الحسابات الإيرانية للسيطرة على دول 'الهلال الشيعي" من البصرةجنوبالعراق وحتى صيدا جنوبلبنان، فضلا عن كونه مقدمة لتطويق بغداد، ويهدد باجتياح المدينتين المقدستين عند الشيعة: كربلاء والنجف. تحنيط الرؤية بالصور النمطية الصور النمطية التي صنعت ل"داعش" تكون قد خدعت أصحابها بتسويق خطاب تهريجي حول تنظيمٍ إرهابي مشكّل من مجاميع جهادية وافدة من أكثر من سبعين دولة، لا يملك مقوّمات إدارة حرب طويلة ومكلفة مع جيش الدولة العراقية، الذي صُرفت عليه عشرات المليارات من الدولارات، وخضع كما قيل لتدريب مكثف تحت إشراف المحتل الأمريكي، فضلا عن القدرة على إدارة مدن كبيرة مثل الموصل والرمادي في العراق، والرقة ودير الزور ومدن متوسطة في شرق وشمال سورية. غير أن الواقع يشي بغير ذلك، فقد أظهر تنظيم "داعش" منذ البداية كثيرا من الحِرفية في قيادة المعارك كما في إدارة المدن، وتسيير اقتصاد حرب، وإدارة مدن تحتاج إلى خدماتٍ متنوعة في المياه، والكهرباء، وإدارة الأمن والقضاء، وتموين الأسواق، وإدارة مؤسسات نفطية، من الإنتاج حتى التصدير مرورا بالتكرير، وظائف هي من اختصاص الدول ما لم تكن فاشلة، وليس من سير الجماعات المسلحة. على المستوى العسكري، يكفي لخبير عسكري أن يلقي نظرة سريعة على خارطة مواقع الارتكاز التي احتلتها قوات "داعش" في زمن قياسي، ليكتشف أن التنظيم يدير معاركه وفق خطة استراتيجية عسكرية وسياسية متماسكة، تستشرف مآلات المواجهة على مستوى الإقليم، وما يُراد له في السنوات العشر القادمة. خطوط السيطرة على مياه الرافدين السيطرة على الموصل لم تكن محض صدفة، كما لم تكن صدفة السيطرة المبكّرة على الرقة، ثم على أغلب التجمعات السكانية المنتشرة على ضفتي نهر الفرات من أقصى شمال سورية إلى غاية الرمادي بالعراق، على مسافة تفوق ثلثي طوله، هي اليوم تحت سيطرة التنظيم، ومثله حصل مع مسار نهر دجلة، حيث يتحكّم التنظيم في معظم أجزائه، بدءا بشمال الموصل الساقط بالكامل، وانتهاء بالفلوجة التي قد تسقط قريبا، ليكون تنظيم "داعش" قد أحكم السيطرة على أغلب مصادر المياه في سورية والعراق، سوف يسمح له مستقبلا بالدخول في مساومات مع من يحكم بقايا سورية والعراق، هذا ما لم تنشط شهيته للتوسع جنوبا خارج الأقاليم السنية. ولأن للجغرافية أحكاماً، فإن تركيز "داعش" على الأقاليم السنية الثلاثة: اقليم نينوى وعاصمته الموصل، واقليم صلاح الدين وعاصمته تكريت، وأخيرا إقليم الأنبار وعاصمته الرمادي، أضاف إلى عنصر"التحكّم في المياه" بالتحكم في الرافدين: الفرات ودجلة، التحكم في جغرافية متصلة بين الأقاليم السنية في سورية والعراق، فضلاً عن قطع جسور التواصل بين العراق وسورية، ومن خلالها قطع طرق التواصل البرية، التي كانت تعوّل عليها إيران لمواصلة دعم حليفيها: النظام السوري وحزب الله. ولأول مرة يبرز في أدبيات "داعش" الإشارة إلى القدس كأحد أهداف التنظيم، أو هكذا يدّعي، حيث سوّق انتصاره في الرمادي، والسيطرة على محافظة الأنبار بالقول: "إنها البوابة إلى القدس" في محاولة للاستفادة من البُعد الروحي للقدس في نفوس العرب والمسلمين، والدخول في تنافس مع مزايدات إيران حيال هذا الشعار. الصاعق المفجّر للمواجهة الطائفية غير أن الحاصل المفيد، هو بداية تشكيل "إقليم سني" واسع بين النهرين، مع مساحة الأنبار التي تشكل لوحدها ثلث مساحة العراق، سوف يربك ما نُسب لإيران من خطط لتشكيل هلال شيعي متواصل من العراق وحتى لبنان، وهو في حالة ثباته بيد التنظيم، سوف يتحوّل إلى رقم صعب في منطقة الشرق الأوسط، سواء تم الاعتراف به إقليميا ودوليا أم لا، لأنه يقسّم ما يسمى بالشام إلى شطرين، ويتحكم في أهم الطرق التجارية من الاتجاهات الأربعة، بين الأردن والسعودية والعراق، وبين تركيا وعمق الشام والجزيرة العربية، وهو فوق ذلك يضعف كثيرا كل ما استثمرته إيران في العراق وسورية. لأجل ذلك، كان لسقوط الرمادي ومحافظة الأنبار وقعٌ أعظم من سقوط الموصل منذ سنة، ليس على الحكومة العراقية وحدها، بل أيضا على إدارة أوباما التي كان خبراؤها يستبعدون منذ أيام فقط قدرة التنظيم على اسقاط المدينة، وربما لأجل ذلك قبِل أوباما على مضض العمل سويا مع قوات الحشد الشيعي من أجل استعادة الرمادي، ومنع التنظيم من تطوير عملياته نحو الفلوجة أو نحو بغداد. غير أن أكثر الجهات شعوراً بالإحباط هي إيران، التي كان بعض قادتها يدّعون منذ أسابيع أنهم باتوا يسيطرون على أربع عواصم عربية، فيما سقط مشروعهم في اليمن منذ انطلاق "عاصفة الحزم"، وتوالت أنباء غير سارة عن تقدّم المجاميع المسلحة في سورية نحو الإقليم العلوي بالساحل، وجاء سقوط الرمادي لينقل التهديد إلى بغداد، ويخلط الأوراق التي لعبت بها إيران منذ بداية الاحتلال الأمريكي، ويحملها على إعادة الحسابات التي علقتها على ما بعد التوقيع على الاتفاق النووي ورفع الحصار، وبناء شراكة مثمرة مع "الشيطان الأكبر"، إلا إذا اختارت أن تنتقل من الحرب مع العرب بالوكلاء إلى حرب بالأصالة سوف تفجر الحرب الطائفية التي تشتغل عليها الولاياتالمتحدة قبل وبعد احتلال العراق.