اجتماع لتقييم السنة الأولى من الاستثمار المحلي في إنتاج العلامات العالمية في مجال الملابس الجاهزة    حوادث المرور: وفاة 44 شخصا وإصابة 197 آخرين خلال الأسبوع الأخير    التزام ثقافي مع القضايا الإنسانية العادلة في دورته الرابعة : حضور نوعي لنجوم الجزائر والدول المشاركة بمهرجان عنابة للفيلم المتوسطي    المهرجان الوطني "سيرتا شو" تكريما للفنان عنتر هلال    معسكر : "الأمير عبد القادر…العالم العارف" موضوع ملتقى وطني    المركز الوطني الجزائري للخدمات الرقمية: خطوة نحو تعزيز السيادة الرقمية تحقيقا للاستقلال التكنولوجي    السيد مراد يشرف على افتتاح فعاليات مهرجان الجزائر للرياضات    بحث فرص التعاون بين سونلغاز والوكالة الفرنسية للتنمية    بطولة العالم للكامبو: الجزائر تحرز أربع ميداليات منها ذهبيتان في اليوم الأول    جامعة بجاية، نموذج للنجاح    رئيس الجمهورية يستقبل رئيس غرفة العموم الكندية    السفير بن جامع بمجلس الأمن: مجموعة A3+ تعرب عن "انشغالها" إزاء الوضعية السائدة في سوريا    شهداء وجرحى مع استمرار العدوان الصهيوني على قطاع غزة لليوم ال 202 على التوالي    انطلاق الطبعة الأولى لمهرجان الجزائر للرياضات    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي: فيلم "بنك الأهداف" يفتتح العروض السينمائية لبرنامج "تحيا فلسطين"    إستفادة جميع ولايات الوطن من خمسة هياكل صحية على الأقل منذ سنة 2021    السيد دربال يتباحث مع نظيره التونسي فرص تعزيز التعاون والشراكة    السيد بوغالي يستقبل رئيس غرفة العموم الكندية    حج 2024: آخر أجل لاستصدار التأشيرات سيكون في 29 أبريل الجاري    بقيمة تتجاوز أكثر من 3,5 مليار دولار : اتفاقية جزائرية قطرية لإنجاز مشروع لإنتاج الحليب واللحوم بالجنوب    رئيس الجمهورية يترأس مراسم تقديم أوراق اعتماد أربعة سفراء جدد    نحو إنشاء بوابة إلكترونية لقطاع النقل: الحكومة تدرس تمويل اقتناء السكنات في الجنوب والهضاب    شلغوم العيد بميلة: حجز 635 كلغ من اللحوم الفاسدة وتوقيف 7 أشخاص    ميلة: عمليتان لدعم تزويد بوفوح وأولاد بوحامة بالمياه    تجديد 209 كلم من شبكة المياه بالأحياء    قالمة.. إصابة 7 أشخاص في حادث مرور بقلعة بوصبع    السفير الفلسطيني بعد استقباله من طرف رئيس الجمهورية: فلسطين ستنال عضويتها الكاملة في الأمم المتحدة بفضل الجزائر    معرض "ويب إكسبو" : تطوير تطبيق للتواصل اجتماعي ومنصات للتجارة الإلكترونية    خلال اليوم الثاني من زيارته للناحية العسكرية الثالثة: الفريق أول السعيد شنقريحة يشرف على تنفيذ تمرين تكتيكي    حلم "النهائي" يتبخر: السنافر تحت الصدمة    رئيسة مؤسسة عبد الكريم دالي وهيبة دالي للنصر: الملتقى الدولي الأول للشيخ رد على محاولات سرقة موروثنا الثقافي    رئيس أمل سكيكدة لكرة اليد عليوط للنصر: حققنا الهدف وسنواجه الزمالك بنية الفوز    "الكاف" ينحاز لنهضة بركان ويعلن خسارة اتحاد العاصمة على البساط    القيسي يثمّن موقف الجزائر تجاه القضية الفلسطينية    بطولة وطنية لنصف الماراطون    سوناطراك توقع بروتوكول تفاهم مع أبراج    الجزائر تحيي اليوم العربي للشمول المالي    تسخير 12 طائرة تحسبا لمكافحة الحرائق    مشروع جزائري قطري ضخم لإنتاج الحليب المجفف    ش.بلوزداد يتجاوز إ.الجزائر بركلات الترجيح ويرافق م.الجزائر إلى النهائي    هزة أرضية بقوة 3.3 بولاية تيزي وزو    جلسة للأسئلة الشفوية بمجلس الأمة    معركة البقاء تحتدم ومواجهة صعبة للرائد    اتحادية ألعاب القوى تضبط سفريات المتأهلين نحو الخارج    الاتحاد الأوروبي يدعو المانحين الدوليين إلى تمويل "الأونروا"    فتح صناديق كتب العلامة بن باديس بجامع الجزائر    "المتهم" أحسن عرض متكامل    دعوة لدعم الجهود الرسمية في إقراء "الصحيح"    العدالة الإسبانية تعيد فتح تحقيقاتها بعد الحصول على وثائق من فرنسا    جعل المسرح الجامعي أداة لصناعة الثقافة    فيما شدّد وزير الشؤون الدينية على ضرورة إنجاح الموسم    الرقمنة طريق للعدالة في الخدمات الصحية    حج 2024 : استئناف اليوم الثلاثاء عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    حكم التسميع والتحميد    الدعاء سلاح المؤمن الواثق بربه    أعمال تجلب لك محبة الله تعالى    دروس من قصة نبي الله أيوب    صيام" الصابرين".. حرص على الأجر واستحضار أجواء رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شاع خطأ ان الإسلام انتشر بالقوة والسيف وليس الاقناع
الحلقة الثالثة: أحمل أملا كبيرا في أن يتراجع المتشددون عن تصلبهم


فضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي
- الإسلاميون: كما يحتاج إلى هذه الدراسة - أكثر من غيرهم - الإسلاميون. وأعني بالإسلاميين: الجماعات الإسلامية المختلفة، التي تعمل لنصرة قضايا الإسلام، وهي التي يسمِّيها مَن يسميها: جماعات الإسلام السياسي!!
*
والتي ينضوي تحت لوائها غالبا: شباب الصحوة الإسلامية في شتَّى الأقطار، داخل العالم الإسلامي وخارجه، فهذه الجماعات على اختلاف نزعاتها واتجاهاتها، ما بين معتدل ومتطرِّف: أحوج ما تكون إلى هذه الدراسة؛ وخصوصا مَن عُرفوا باسم (جماعات العنف) التي تنسب نفسها أو ينسبها الناس إلى الإسلام، وهي الجماعات التي اتَّخذت العنف واستخدام القوة العسكرية منهجا لها، وأسَّست لها فقها خاصا تُعرف به، يستشهد بالقرآن الكريم والأحاديث التي تؤيِّد وجهته، ويُعرض عن غيرها من النصوص، التي يعتبرها منسوخة أو مؤوَّلة.
كما يستدلُّ بأقوال لبعض الفقهاء التي توافقه، وتسند وجهة نظره، مغفلا ما سواها من الأقوال.
*
فهذه الجماعات وإن كانت تُتَّهم بالانغلاق على نفسها، والتعصُّب لآرائها، وعدم نظرها في فقه من يخالفها، مثل جماعة الجهاد، والجماعة الإسلامية، والسلفية الجهادية، وتنظيم القاعدة، وغيرهم: يمكن أن تغيِّر من أفكارها، وتعدِّل من آرائها.
*
ورأيي أن الإنسان هو الإنسان، مهما يتعصَّب وينغلق على نفسه، فلا بد أن يأتي وقت يراجع فيه نفسه، ويمتحن أفكاره، وخصوصا إذا خالفه الكثيرون من أهل العلم والفكر، ومنهم رجال كبار وثقات، فلا ييأس المرء من أن يثوب هذا الإنسان - ولا سيما المسلم - إلى رشده. وكثيرا ما يهديه عقله - بنصح من غيره، أو بالتأمل في فكره - إلى تغيير موقفه، والرجوع تماما عما كان عليه.
*
وهذا ما حدث للإخوة في (الجماعة الإسلامية) في مصر، الذين أصدروا سلسلة من الكتب تعلن تراجعهم بشجاعة عن أفكارهم القديمة، وتصحيحهم لكثير من مفاهيمهم.
*
وعلمتُ أن إخوانهم من (جماعة الجهاد) أقدموا على مثل ذلك (1)
*
وكثير من الإخوة في الجزائر من الجماعات المسلَّحة، تركوا مواقعهم في الجبل، ونزلوا إلى الأرض، وانضموا إلى الشعب؛ بناء على قناعات جديدة. ومنهم مَن أعلن أنه تأثَّر بآرائي واقتنع بها
*
وقد ذكرتُ أن أبناء الجماعة الإسلامية طفقوا يقرؤون كتبي، وقد كانت من المحرَّمات عليهم، وبدؤوا ينقلون منها في دراساتهم الجديدة صفحات وصفحات. وهكذا شأن الإنسان إذا رجع إلى فطرته ورشده، وزال عنه التعصُّب والانغلاق.
*
ولهذا أحمل أملا كبيرا في شباب الجماعات الإسلامية المتشدِّدة أن يتراجعوا عن تصلُّبهم، ويقرؤوا الكتاب بتفتُّح وإنصاف ... وسيجدون فيه شيئا جديدا يستحقُّ أن يقرأ، وأن يدرس، وأن يناقش.
*
كما أرى أن المعتدلين من أبناء الصحوة الإسلامية سيستفيدون من هذا الكتاب في ازدياد اقتناعهم بموقفهم، وأن يبنوا معرفتهم على نور وبصيرة، لا على مجرد التقليد لهذا أو ذاك، وعليهم أن يدرسوه دراسة جيدة، ويتسلَّحوا بما فيه من بيِّنات، ليقنعوا الآخرين بالحجَّة والدليل، لا بمجرد القال والقيل.
*
4- المؤرخون:
*
ويحتاج إلى هذه الدراسة أيضا: المؤرِّخون، ولا سيما المعنيُّون بالسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، والذين قرؤوا غزوات الرسول قراءة غير صحيحة ولا منصفة، واعتبروا الرسول عليه الصلاة والسلام، هو الذي ابتدأ المشركين بالغزو والقتال، كما في غزوة بدر وفتح مكة وغزوة حنين، وابتدأ غزو اليهود في مواقعهم وحصونهم، كما في بني قينقاع وبني النضير، وهو أيضا الذي بادر بغزو الروم كما في غزوة تبوك.
*
كما اعتبروا فتوحات الصحابة والراشدين ومن بعدهم إنما كانت ابتداء من المسلمين لجيران مسالمين لهم، من رعايا فارس والروم.
*
ولهذا شاع عندهم: أن الإسلام لم ينتشر في العالم إلا بالسيف والقوَّة، ولم ينتشر بالدعوة ولا بالإقناع ولا بسلوك المسلمين.
*
فهؤلاء في حاجة ماسَّة إلى أن يصحِّحوا مفاهيمهم هذه، التي بنَوها على قراءة خاطئة وقاصرة للسيرة والتاريخ، ليعيدوا قراءتها على ضوء ما ذكرناه في هذه الدراسة، مدعَّما بأدلَّته، موثَّقا بمصادره.
*
5- المفكرون:
*
ويحتاج إلى هذه الدراسة: رجال الفكر والبحث والتأمُّل، وخصوصا المهتمِّين بالفكر الإسلامي، وما انبثق عنه من حركات إسلامية، منها المعتدل، ومنها المتطرِّف، وما انبثق عن بعض هذه الحركات من أعمال تتَّسم بالعنف، أو توصف بالإرهاب، مما جعل بعضهم يلصق بالإسلام وحده تهمة العنف والإرهاب، كأن العنف كلَّه إسلامي، والإرهاب كلَّه إسلامي. ومن المؤكَّد أن هذا ليس بصحيح ولا صواب.
*
سيجد هؤلاء من أهل الفكر والبحث في هذه الدراسة ما يردُّ الأمور إلى جذورها، والفروع إلى أصولها، ويبيِّن أن تعاليم الإسلام الحقيقية، أبعد ما تكون عن العنف والإرهاب - بمصطلحهم - وأن لهذا العنف أسبابا بعضها خارجي، وبعضها داخلي، وأن دعاة العنف قلَّة بين المسلمين، تدينهم الأكثرية وتنكر عليهم. ولا سيما أهل السنة والجماعة الذين يعتبرون هذا اللون من الفكر الذي يتَّسم بالغلو، وتنجم عنه تصرفات تتَّسم بالعنف، إنما هو ميراث من غلاة الخوارج، الذين ذمَّتهم الأحاديث، وحاربهم علي رضي الله عنه وغيره من الخلفاء، وعدَّتهم الأمة مبتدعين، منحرفين عن صراط الإسلام المستقيم، بل منهم من اعتبرهم في عداد الكافرين المارقين.
*
6- المستشرقون:
*
ويحتاج إلى هذه الدراسة: غير المسلمين من رجال الاستشراق والمهتمِّين بالدراسات الإسلامية، سواء كان أساس هذا الاهتمام معرفيا، لمجرَّد اكتشاف الحقيقة، أم سياسيا لخدمة أهداف معيَّنة لدولة ما، أو للغرب عامَّة، أم كانت دوافعه دينية، لخدمة الكنيسة وفكرة (التنصير) الذي اجتمع رجاله من البروتستانت في (كلورادو) سنة 1978م في صورة مؤتمر هدفه تنصير المسلمين في العالم.
*
هؤلاء صوَّروا الإسلام: أنه خطر على العالم، وسلام العالم، واستقرار العالم، وأن فريضة (الجهاد) فيه تلزم المسلمين أن يحاربوا العالم كله. وقد أثبتت هذه الدراسة بطلان هذا كله، وأن الإسلام أعظم دين يدعو إلى السلام، ويرغِّب في السلام، ويربي أبناءه على حبِّ السلام، وإفشاء السلام، امتثالا لأمر الملك القدوس السلام، وابتغاء دخول الجنة دار السلام.
*
7- الحِواريون:
*
كما أن هذه الدراسة يحتاج إليها: المهتمُّون بحوار الأديان، أو حوار الثقافات والحضارات، فهي في رأيي تقدِّم لبنة مهمة في بنيان هذا الحوار، الذي يقوى حينا ويضعف حينا، وينهض حينا، ويتعثر أحيانا، نظرا لقصور الرؤية من بعض الأطراف لبعض، وغلبة العصبية على العقل، وانتصار الفكر الموروث على الفكر الحرِّ. ولا يمكن أن يتحاور الناس إذا كان بعضهم يجهل بعضا، وخصوصا بالنسبة للمسلمين الذين يُتَّهمون بأنهم دعاة عنف، وأنهم نشروا دينهم بالسيف، وأن موقفهم أبدا رفض الآخر. وقد رأينا البابا بنديكت السادس عشر يتبنى ذلك في محاضرة له بألمانيا (2). فلعل هذه الدراسة العلمية الموثقة تفتح لهؤلاء صفحة جديدة، وتمكِّنهم من رؤية جديدة، تتغيَّر فيها نظرتهم إلى الإسلام، وإلى أمته، وإلى حضارته.
*
8- السياسيون:
*
كما يحتاج إلى هذه الدراسة: رجال السياسة وصناع القرار في العالم، والذين يتَّخذون قراراتهم الهائلة، والتي تتعلَّق بمصاير أمم، وأرواح بشر، ومقدَّرات شعوب، ومقدَّسات أديان، بناء على تصورات فكرية عندهم لدين لم يعرفوه، ولم يقرؤوا كتابه، ولم يفقهوا سيرة نبيه، ولم يدرسوا تاريخه، ولم يحيطوا بشيء ذي بال عن عقيدته وشريعته، ولواقع أمة كبرى ذات شعوب مختلفة، وأوضاع مختلفة، لم يعطوا لأنفسهم مهلة أن يتفهَّموا هذا الواقع، ويقرؤوه قراءة بصيرة متأنية، منصفة متوازنة، بلا تهويل ولا تهوين، ولا تحريف، ولا تزييف.
*
ومما لا شكَّ فيه: أن الرئيس الأمريكي (بوش) الابن ومن معه من المحافظين الجدد، أو اليمين المسيحي المتصهين، حين أعلنوا حربا كونية على الإسلام وأمته، تحت عنوان الحرب على الإرهاب، كان هذا القرار السياسي، نتيجة لتصوُّر خاطئ عن الإسلام، وعن حقيقة الجهاد فيه، وأن فئة قليلة فهمت الجهاد على غير وجهه، ووضعته في غير موضعه، وأن من أكبر أسباب غلوِّها وتجاوزها: المظالم الكبيرة التي وقعت على المسلمين من الغرب عامَّة، ومن أمريكا خاصَّة.
*
9- العسكريون:
*
وإذا كان السياسيون محتاجين إلى هذه الدراسة، ليكوِّنوا رأيا صحيحا نيِّرا عن الجهاد، فكذلك يحتاج إليها: العسكريون من المسلمين وغير المسلمين.
*
فمَن فهم الجهاد على غير حقيقته من قادة العسكريين الغربيين، مثل رجال البنتاجون في أمريكا، وأكثر الجنرالات في أوربا، بل في العالم كلِّه للأسف الشديد، فعليه أن يقرأ هذا الكتاب، وعلينا أن نترجمه لهم، ونقرِّبه إليهم بلسانهم لنبيِّن لهم حتى يفهموا. وكثير منهم إذا رأى المنطق أمامه ناصعا خضع له، ولم يستطع أن يكابر، حتى لو كابر أمام الناس سينهزم أمام نفسه. وهذا مكسب كبير.
*
وهذا ليس مقصورا على العسكريين الأجانب، فكثير من قادتنا العسكريين في بلادنا، ومن بني جلدتنا، وممَّن يتكلَّمون بلساننا، ليست لديهم فكرة سليمة عن الجهاد في الإسلام، وعن غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن فتوحات الصحابة والمسلمين في العهود الأولى؛ وذلك بتأثير سلطان الفكر الغربي، والثقافة الغربية على المثقَّفين في أوطاننا، عسكريين ومدنيين.
*
ومن الواجب على أهل العلم والفكر: أن يصحِّحوا - ما استطاعوا - المفاهيم المغلوطة والشائعة، أداءً للأمانة، وتبليغا للرسالة، وتحصينا للأمة.
*
ومن العسكريين الذين يحتاجون إلى هذه الدراسة: العسكريون الإسلاميون من أهل الشطط أو الاعتدال، ممَّن يقاتلون في فلسطين، وفي لبنان، وفي العراق، وفي أفغانستان، وغيرها من ديار الإسلام، سواء كانوا من أهل الشطط أم من أهل الاعتدال.
*
فأما أهل الشطط والغلو، إذا وفَّقهم الله لفقهه والعلم فيه، فسيتعلَّمون منه متى يجوز القتال ومتى لا يجوز؟ أو من يجوز أن نحاربه ومن لا يجوز؟ وإذا حاربنا فما الذي يجوز لنا في الميدان وماذا لا يجوز؟ متى يجوز أن نقتل، ومتى يجب أن نأسر، وما الذي نفعل مع أسرانا؟ وماذا نفعل عند الانتصار، وماذا نفعل عند الانكسار؟ إلخ.
*
وأما أهل الاعتدال من المجاهدين، الذين يقاومون المحتلِّين والمعتدين على أراضيهم، فهم أيضا لا يستغنون عن هذه الدراسة، حتى يتقيَّدوا في حربهم وسلمهم، وفي حال قوتهم وضعفهم، وفي حال انتصارهم أو انهزامهم بشريعة الإسلام.
*
فهم يقاتلون بالإسلام وللإسلام، وعلى أساس من الإسلام. فإذا قال لهم الإسلام: قاتلوا. قاتلوا، وإذا قال لهم: توقفوا. ألقوا سلاحهم، وإذا قال لهم: اجنحوا للسلم. جنحوا لها وتوكلوا على الله.
*
وسيجدون في هذا الكتاب ما يبصِّرهم بما يجب عليهم، وما يجوز لهم، وما يحرم عليهم، وهم وقَّافون عند حدود الله تعالى، نازلون عند حكم الله، يحِلُّون ما أحلَّ الله، ويحرِّمون ما حرَّم الله، ويأتمرون بما أمر الله، وينتهون عما نهى الله. كما قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51].
*
10- جمهور المثقفين:
*
ويحتاج إليه أخيرا جمهور الناس من القرَّاء والمثقَّفين العاديين غير المُصنَّفين، من المسلمين ومن غير المسلمين. فهؤلاء الذين يمثلون القاعدة العريضة من الأمم والشعوب، في حاجة أيضا إلى أن يعرفوا حقيقة موقف الإسلام من العالم، وحقيقة الجهاد في سبيل الله، الذي فهمه الكثيرون خطأ، وأنه ليس إلا إعداد القوة المادية والمعنوية للحفاظ على كيان الأمة وهُويَّتها وعقيدتها وأرضها وأهلها وحرماتها، وأن كلَّ أحكامه وتصرفاته منضبطة بقوانين أخلاقية صارمة، فلا يقاتل إلا مَن يقاتل، ولا يعتدي على أحد، ولا يبرِّر خبث الوسائل بنبل الغايات، ولا يقبل ازدواج المعايير. وهذا ما يجب أن يعرفه المسلم العادي ليلتزم به، وغير المسلم العادي، ليتعامل مع الإسلام وأهله عن بينة، ولا يحمل عن الإسلام وشريعته فكرة زائفة، فيظلم الإسلام، ويظلم المسلمين، ويظلم نفسه، ويظلم الحقيقة.
*
* * *
*
أعتقد أن هؤلاء جميعا وأمثالهم ستنفعهم هذه الدراسة، بعد أن فتحوا أعينهم ليبصروا، وفكُّوا الأغلال من أعناقهم لينطلقوا.
*
تقسيم الكتاب:
*
هذا وقد قسَّمتُ هذا الكتاب إلى مقدِّمة وعشرة أبواب وخاتمة، وفي كلِّ باب من هذه الأبواب عدَّة فصول.
*
فهناك بعد المقدمة: تعريفات أولية للمفاهيم الأساسية التي يدور عليها البحث. وبعدها تأتي أبواب الكتاب:
*
الباب الأول: حقيقة الجهاد ومفهومه وحكمه، وفيه ستة فصول.
*
الباب الثاني: أنواع الجهاد ومراتبه، وفيه ثمانية فصول.
*
الباب الثالث: الجهاد بين الدفاع والهجوم، وفيه اثنا عشر فصلا.
*
الباب الرابع: أهداف الجهاد القتالي في الإسلام، والفرق بينه وبين جهاد التوراة، وفيه خمسة فصول.
*
الباب الخامس: منزلة الجهاد وخطر القعود عنه، وإعداد الأمة له، وفيه ستة فصول.
*
الباب السادس: جيش الجهاد الإسلامي واجباته وآدابه ودستوره، وفيه خمسة فصول.
*
الباب السابع: بماذا ينتهي القتال؟ وفيه خمسة فصول.
*
الباب الثامن: ماذا بعد القتال؟ وفيه خمسة فصول.
*
الباب التاسع: القتال داخل الدائرة الإسلامية، وفيه ثلاثة فصول.
*
الباب العاشر: الجهاد وقضايا الأمة المعاصرة، وفيه ستة فصول.
*
وبعدها تأتي: الخاتمة.
*
ولا أدَّعي أني وفيتُ الموضوع كلَّ حقه، ولكن بذلتُ فيه جهدي، واستفرغتُ فيه وُسعي، لأحصِّل وأستوعب ما استطعتُ، وأقرأ واهضم، أقرأ للمتقدِّمين وللمتأخِّرين، وللمحدِّثين والمعاصرين، وللمؤيِّدين والمعارضين، وللدينيين والمدنيين، وأفحص وأوازن، وأرجِّح على مهل، وأختار عن بيِّنة، وقد شرعتُ فيه منذ نحو ستِّ سنوات، ولم أستجب لداعي العجلة، حتى قدَّر الله تعالى إتمامه، وله الحمد والمنَّة. فما كان فيه من صواب ورشد، فمن الله تعالى ومِنَّته، وما كان فيه من خطأ وزلل فمنِّي ومن الشيطان، وأستغفر الله تعالى منه.
*
أدعو الله تعالى أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه، وابتغاء مرضاته، ولا يهدف إلا إلى بيان الحق، ودحض الباطل، ونصرة هذا الدين العظيم، الذي أكرمنا الله تعالى به، وأكمله لنا، وأتمَّ به النعمة علينا، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]، وأن يثقِّل به ميزاني يوم القيامة.
*
كما أدعوه جلَّ شأنه: أن يسدَّ به ثغرة في هذا المجال الخطير، الذي اختلفت فيه الآراء، واعتركت فيه الأفكار، ودخلت فيه الأهواء، وتباعدت فيه الرؤى، واحتاج الناس إلى قول فَصل، وحكم عدل، يزن بالقسطاس المستقيم، ويستخلص الحقيقة من ركام الأقاويل المختلفة، والآراء المتباينة، الممزوجة بحماس المتحمِّسين، وتعصُّب المتعصِّبين، فعسى الله أن يجعل في كتابنا هذا: ما يقيم الحجَّة، ويوضح المحجَّة، ويحقُّ الحقَّ، ويبطل الباطل، ولو كره المجرمون.
*
كما أسأله جلَّ شأنه: أن يمنحنا نورا نمشي به في الظلمات، وفرقانا نميز به بين المُتشابهات، وبصيرة نحلُّ بها المشكلات، وأن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، وأن يهدينا أبدا للَّتي هي أقوم.
*
{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286].
*
الدوحة في: محرم 1428ه / يناير 2008م
*
الفقير إليه تعالى: يوسف القرضاوي
*
3تعريفات أولية
*
نبدأ هنا بتعريفات مناسبة وسريعة، لبعض المفاهيم المهمَّة في بحثنا، مثل: الجهاد، والقتال، والحرب، والعنف، والإرهاب. وإن كنا سنشبعها بحثا في مواضعها بعد ذلك.
*
1- الجهاد:
*
مصدر: جاهد يجاهد جهادا ومجاهدة. ويعني لغة: بذل الجُهد، أي الوسع والطاقة، أو تحمُّل الجَهد، أي المشقَّة. وقد ذُكرت الكلمة في القرآن باشتقاقاتها المختلفة (34) أربعا وثلاثين مرة.
*
وقد اشتهر بالاستعمال في القتال لنصرة الدين والدفاع عن حرمات الأمة.
*
ولكن سنتبيَّن فيما بعد: أن الجهاد - كما جاء في القرآن والسنة - أوسع دائرة وأبعد مدى من القتال، وقد قسَّمه الإمام ابن القيم في (زاد المعاد) إلى ثلاث عشرة مرتبة.
*
فهناك جهاد النفس والشيطان، وجهاد الفساد والظلم والمنكر في المجتمع، وجهاد المنافقين، وجهاد الدعوة والبيان، وجهاد الصبر والاحتمال، وما سمَّيناه (الجهاد المدني)، وهناك جهاد الأعداء بالسيف. وسنتحدَّث بتفصيل عن هذه الأنواع في الباب الثاني من هذا الكتاب. وإن اختزل الكثيرون - للأسف - هذه الأنواع المختلفة للجهاد في القتال وحده.
*
2- و(القتال):
*
هو الشعبة الأخيرة من شُعَب الجهاد، وهو القتال بالسيف، أي استخدام السلاح في مواجهة الأعداء، وهو مفهوم كلمة (الجهاد) عند الكثيرين. هذا مع أنه مختلف في اشتقاقه وفي معناه اللغوي عن الجهاد.
*
فهو - من ناحية الاشتقاق - مصدر: قاتل يقاتل، قتالا ومقاتلة
*
وهو - من ناحية المعنى - يغاير معنى الجهاد، فإن معنى (قاتل) غير معنى (جاهد)، فالقتال من القتل، والجهاد من الجَُهد.
*
وقد ذُكرت كلمة (القتال) ومشتقَّاتها في القرآن حوالي (67) سبع وستين مرَّة.
*
ولا عبرة بالقتال شرعا إلا إذا كان في سبيل الله، وهو قتال المؤمنين، كما أشار إلى ذلك القرآن: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} [النساء:76].
*
وكما جاء في الحديث المتَّفق عليه: "مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله". (3)
*
وإذا فُرِّغ القتال من هذه الأهداف وتلك الدوافع لم يعد من الجهاد في شيء، مثل ما جاء في صحاح الأحاديث: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار"! قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل؛ فما بال المقتول؟ قال: "إنه كان حريصا على قتل صاحبه". (4)
*
"سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر". (5)
*
"لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض". (6)
*
ونستطيع أن نقول بلغة علماء المنطق: بين الجهاد والقتال عموم وخصوص مطلق، فكلُّ قتال جهاد إذا توفرت فيه النية المشروعة، وليس كلُّ جهاد قتالا.
*
3- الحرب:
*
الحرب: استخدام السلاح والقوة المادية من فئة ضد أخرى. قد تكون هذه الفئة قبيلة ضد قبيلة، أو أكثر، أو مجموعة قبائل ضد مجموعة أخرى، أو دولة ضد دولة أو أكثر، أو مجموعة دول ضد أخرى.
*
ويختلف مفهوم (الجهاد) عن مفهوم (الحرب): أن الجهاد مفهوم ديني، يختلف من حيث أهدافه ودوافعه، ومن حيث أخلاقياته وضوابطه، بخلاف (الحرب) فهي مفهوم دنيوي، وجدت في الجاهلية، ووجدت في الإسلام، ووجدت في شتَّى الأمم، وشتَّى العصور. وكثيرا ما يكون الهدف من الحرب الهيمنة على الآخرين، أو قمعهم وإذلالهم، أو الاستيلاء على ثرواتهم، أو غير ذلك، في حين أن الجهاد لا يقبل شرعا إلا إذا قُصد به أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الله هي الحقُّ والعدل، وتحقيق الكرامة والأمن والحرية للبشر، حتى لا يكون بعضهم لبعض أربابا من دون الله، إلا إذا وصفنا الحرب بأنها (إسلامية) فتكون بمعنى (الجهاد).
*
والقتال - الذي يعني المواجهة العسكرية - ليس هو الحرب بمفهومها اليوم، فالقتال ليس من ضرورات الحرب المعاصرة، وإن كان لا يستغنى عنه، وذلك أن القتال يعني مواجهة بين طرفين، وفي الحرب اليوم قد لا يوجد إلا طرف واحد يرمي بقنابله الذكية والعنقودية، وبصواريخه الموجهة أو العابرة للقارات، والطرف الآخر يستقبل الضربات القاتلة والمدمِّرة ولا يملك إزاءها شيئا.
*
والأصل في الحرب: أنها (عسكرية) يستخدم فيها السلاح بكلِّ أنواعه. ولكن عرف عصرنا ألوانا من الحرب، منها: الحرب الثقافية، والحرب الإعلامية، والحرب الاقتصادية، والحرب النفسية، وقد أُلِّفت فيها كتب شتَّى.
*
والمفروض في الحرب أن يكون أحد الطرفين محقًّا عادلا، والآخر مبطلا ظالما، وقد يكون كلاهما ظالما، كما قال أحد السلف: يدفع الله ظالما بظالم، ثم ينتقم من كليهما! وقال الآخر: اللهم أشغل الظالمين بالظالمين، وأخرجنا من بينهم سالمين!
*
كما أن المفروض فيها: أن تستمرَّ مدَّة من الزمن، قد تقصر أو تطول. كما كانت حروب العرب في الجاهلية، مثل (حرب البَسُوس) بين بكر وتغلب، التي استمرَّت أربعين عاما، أُريق فيها من الدماء ما أُريق.
*
ومثل الحرب العالمية الأولى التي استمرَّت من 1914م إلى 1919م، والحرب العالمية الثانية التي استمرَّت من 1939م إلى 1945م.
*
وقد ذكرت الحرب في القرآن ست مرات، ففي سورة المائدة في حديث القرآن عن اليهود: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} [المائدة:64].
*
والتعبير موحٍ بأن الحرب أشبه بالنار المحرقة، وأن اليهود يريدون إيقادها والله يطفئها، كما أن القرآن ربط ذلك بالسعي في إفساد الأرض.
*
وقد قسَّم فقهاء المسلمين العالم إلى دور مختلفة، لكلِّ دار حكمها. فهناك دار الإسلام، ودار الحرب، ودار العهد. والناس: إما مسلم أو (حربي) محارب أو معاهد.
*
والغربيون من قديم يقدِّسون الحرب، حتى إن الإغريق كرَّسوا الإله (آريس) إلها للحرب (7) وكذلك فعل غيرهم من الشعوب.
*
والإسلام لا يرحِّب بالحرب، ولا يلجأ إليها إلا مضطرًّا، كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216]، وإذا انتهت المعركة بغير قتال ولا دماء، كما في غزوة الأحزاب، عقَّب عليها القرآن بمثل قوله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25].
*
والرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر كلمة (حرب) من المفردات الكريهة عنده، حتى قال: "أقبح الأسماء: حرب ومُرَّة". (8)
*
وعند النصارى والغربيين: هناك ما يُعرف باسم (الحرب المقدسة)، كالحرب التي شنُّوها لإبادة المسلمين في الأندلس، والحروب الصليبية التي استولَوا بها على القدس وفلسطين نحو قرنين من الزمان.
*
والحرب في عصرنا قد تطوَّرت تطوُّرا هائلا، من حيث مساحة المعركة، ومن حيث المشاركون فيها من عسكريين ومدنيين، ومن حيث الأدوات الجهنَّمية التي أصبحت تستخدم فيها، منذ نجاح الإنسان الغربي في الثورة الصناعية الأولى، ثم في الثورات العلمية الجبارة الحديثة: الثورة الإلكترونية، والثورة التكنولوجية، والثورة الفضائية، والثورة البيولوجية، والثورة النووية، وثورة الاتصالات، وثورة المعلومات، مما مكَّن الإنسان من القدرة على تدمير الحياة والأحياء بإمكاناته المذهلة في وقت قليل، وهو ما وقع بالفعل من أمريكا - أكبر قوَّة عسكرية وعلمية واقتصادية في الأرض - مع خصومها، ولا سيما في اليابان والشرق الأقصى.
*
3- العنف:
*
العنف معناه: الشدَّة والغلظة، ويقابله: الرفق واللين.
*
ولم ترد الكلمة في القرآن، لا مصدرا، ولا فعلا، ولا صفة.
*
ولكنها جاءت في الأحاديث النبوية مذمومة محذَّرا منها، كما في حديث: "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف". (9)
*
"إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وإذا أحبَّ الله عبدا أعطاه الرفق، وما من أهل بيت يحرمون الرفق إلا حرموا الخير". (10)
*
وقد اشتهرت الكلمة في هذه المرحلة من عصرنا، وغدت (مصطلحا) شائعا، وأُلصقت - أكثر ما أُلصقت - بالمسلمين: لأن فئة منهم اتَّخذت العنف طريقا لها للتغيير في الداخل، ولمقاومة ما تسميه الاستكبار أو العدوان من الخارج. ولكن هذه الفئة لا تمثِّل جمهور المسلمين، بل هم ينكرون عليها أعمالها، التي تجسد العنف، في الداخل والخارج.
*
وأعجب من ذلك: اتهام الإسلام بأن تعاليمه نفسها تفرز العنف؛ لأنه يأمر بالجهاد في سبيل الله، بل إن العقيدة الإسلامية نفسها تعلِّم الناس العنف؛ لأن (الله) عند المسلمين إله (جبَّار) (متكبِّر) (منتقم)، وليس إله محبَّة ورحمة مثل إله اليهود والنصارى!!
*
وقد رددنا هذه الدعوى الكاذبة ردًّا علميا موثَّقا في كتابنا الموجز (الإسلام والعنف) (11) وأثبتنا أن اسم الجبَّار المتكبِّر، لم يرد في القرآن إلا مرَّة واحدة في سورة الحشر، ولا ريب أنه جبَّار ومتكبِّر على الجبابرة الطغاة، وأنه يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
*
أما الأسماء التي تكرَّرت لله تعالى في القرآن، فهي الرحمن الرحيم، التي افتتحت بها كل سور القرآن ما عدا سورة التوبة (113 سورة). وهو أيضا: {أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف:151]، {خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:109]، ومَنْ رحمتُه وسعت كلَّ شيء. بل عنوان رسالة محمد هو الرحمة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
*
ومحمد صلى الله عليه وسلم وصف نفسه فقال: "إنما أنا رحمة مهداة" (12) وقال: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" (13).
*
وذمَّ القرآن القسوة وأهلها، وقال عن بني إسرائيل: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74]، وجعل القسوة عقوبة لهم على خطاياهم: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة:13].
*
أما الجهاد، فإنما أوجبه الله لمقاومة عدوان المعتدين على دين المسلمين أو أنفسهم أو أرضهم أو أموالهم، وتأمين حرية الدعوة ومنع الاضطهاد في الدين: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190]، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193].
*
الإرهاب:
*
الإرهاب لغة: مصدر أرهب يرهب: أي أخاف وخوَّف. وجذره أو فعله الثلاثي: رهب بمعنى: خاف.
*
ومقابل (خاف): أَمِن، ومقابل الخوف: الأمن.
*
وفي القرآن: {آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:4]، {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} [النور:55].
*
والمراد ب(الإرهاب) في هذا السياق: إحداث حالة من الخوف والفزع عند الناس، نتيجة عمليات عسكرية، فردية أو جماعية.
*
وليس منه قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]، فإن هذا الإرهاب مشروع لدى كل العقلاء؛ لأن إعداد القوة يخيف الأعداء، فيمنعهم من إشعال الحرب أو العدوان.
*
ولعل أقرب الكلمات الإسلامية في هذا السياق إلى المفهوم المراد هنا، هو: (الترويع)، أي ترويع الآمنين البرآء، وإلقاء الروع والفزع في قلوبهم، وفيه جاء الحديث: "لا يحل لمسلم أن يروع مسلما" (14) وإنما نص على المسلم؛ لأن القصة وردت في شأنه. ولكن الأصل هو ما أشار إليه الحديث: "المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم" فأشار إلى أمن الناس - كل الناس - منه.
*
والإرهاب أو الترويع أو التخويف للناس، الأصل فيه المنع، وقد يجوز لتحقيق أهداف مشروعة، إذا اتخذ وسائل مشروعة، أما ما كان هدفه مشروعا، ووسيلته غير مشروعة، أو كان كلاهما غير مشروع، فهو محرم ومنكر في نظر الإسلام.
*
وسيأتي الحديث في الباب العاشر عن الإرهاب وأنواعه وأحكامه. ص47
*
الباب الأول
*
حقيقة الجهاد ومفهومه وحكمه
*
الفصل الأول: الجهاد حقيقته وتحديد مفهومه.
*
الفصل الثاني: حكم الجهاد شرعا: فرض أم تطوع؟
*
الفصل الثالث: بماذا يتحقق فرض الكفاية في الجهاد؟
*
الفصل الرابع: متى يكون الجهاد فرض عين؟
*
الفصل الخامس: كيف يتحقق أداء فرض العين في الجهاد؟
*
الفصل السادس: دور المرأة في الجهاد.
*
*
الفصل الأول
*
الجهاد: حقيقته وتحديد مفهومه
*
الجهاد في اللغة: مصدر جاهد يجاهد جهادا ومجاهدة.
*
وهي مشتقَّة من مادة: جَهَد يَجْهَد جَهدًا: تقول: جَهَد الرجل في كذا: أيْ جدَّ وبالغ. وجهد الرجل دابته: أيْ حمل عليها في السير فوق طاقتها، كما في معجم ألفاظ القرآن الكريم.
*
قال: والمصدر: الجَهد - بفتح الجيم - والضمُّ لغة فيه. وجمهور العلماء على التفريق بين لغتي الفتح والضمِّ. فالجَهد - بفتح الجيم - الغاية. يقال: اجْهَدْ في هذا الأمر جَهْدك: أيْ ابلغ غايتك.
*
والجُهد - بضمِّ الجيم - الوُسع والطاقة. تقول: هذا جُهدي: أيْ وُسعي وطاقتي.
*
وجاهد مجاهدة وجهادا: بذل وُسعه في المدافعة والمغالبة، فهو مجاهد، وهم مجاهدون
*
وأكثر ما ورد الجهاد في القرآن: ورد يراد به: بذل الوُسع في نشر الدعوة الإسلامية والدفاع عنها (16)انتهى.
*
وقال العلامة الراغب الأصفهاني في (مفردات القرآن):
*
(الجَهد والجُهد: الطاقة والمشقة. وقيل: الجهد - بالفتح - المشقة، والجُهد: الوُسع).
*
والاجتهاد: أخذ النفس ببذل الطاقة وتحمل المشقة. يقال: جهدتُ رأيي وأجهدتُه: أتعبتُه بالفكر.
*
والجهاد والمجاهدة: استفراغ الوُسع في مدافعة العدو. والجهاد ثلاثة أضراب:
*
1) مجاهدة العدو الظاهر.
*
2) ومجاهدة الشيطان.
*
3) ومجاهدة النفس.
*
وتدخل ثلاثتها في قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78]، {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:41]، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ...} [الأنفال:72].
*
وقال صلى الله عليه وسلم: "جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم". (17)
*
والمجاهدة تكون باليد واللسان. قال صلى الله عليه وسلم: "جاهدوا الكفار بأيديكم وألسنتكم" (18)(19) انتهى.
*
ونسي الراغب أن يذكر من أدلته على أن معنى الجهاد أوسع من معنى القتال: قوله تعالى: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان:52]، به: أيْ بالقرآن.
*
كما أن استدلاله على مجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس، بقوله تعالى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:41]، غير واضح الدلالة على ما أراد؛ لأن وجود الأموال والأنفس في الجهاد: دليل على أنه جهاد الأعداء.
*
كما أنه لم يقُل: جاهدوا أنفسكم، بل قال: جاهدوا بأنفسكم، فالأنفس ليست هي المجاهَدَة، بل المجاهَد بها.
*
وبهذا نرى أن كلمة (الجهاد) أوسع في المعنى من كلمة (القتال)، وإن كان الذي استقرَّ في العرف الفقهي: أن كلمة الجهاد تعني القتال. فهكذا اصطلحوا عليها، ولا مُشَاحَّة في الاصطلاح.
*
مع أن اللفظ عام يشمل: جهاد المجاهد لنفسه ولشيطانه، وجهاد المجاهدة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول كلمة الحق عند السلطان الجائر، ونحو ذلك، كما يشمل قتال المقاتل في سبيل الله.
*
وخُصَّ عند الفقهاء شرعا بأنه: قتال الكفار. وقال بعض الفقهاء: بذل الجهد في قتال الكفار أو البغاة.
*
وعرَّفه بعضهم بأنه: الدعاء إلى الدين الحق وقتال مَن لم يقبله.
*
وعرَّفه غيره بأنه: بذل الوُسع والطاقة في القتال في سبيل الله بالنفس، أو معاونة بمال، أو رأي، أو لسان، أو تكثير سواد، أو غير ذلك. (20)
*
ولعل هذا التعريف أقرب هذه التعريفات إلى القَبول؛ لشموله أكثر أنواع الجهاد التي جاء بها الكتاب والسنة، كما أنه لم يحدِّده بقتال الكفار، ليشمل قتال كل مَن تمرَّد على شعيرة ظاهرة متواترة من شرائع الإسلام، كالصلاة والزكاة، أو تحريم الربا أو الزنى أو الخمر، ونحوها. كما سيأتي.
*
قال في مطالب أولي النهى: قال الشيخ تقي الدين (يعني ابن تيمية):
*
(والأمر بالجهاد - يعني الجهاد المأمور به - منه ما يكون بالقلب: كالعزم عليه، والدعوة إلى الإسلام وشرائعه، والحُجَّة: أيْ إقامتها على المبطل، والبيان: أيْ بيان الحق وإزالة الشُّبه، والرأي والتدبير فيما فيه نفع للمسلمين، والبدن: أي القتال بنفسه، فيجب الجهاد بغاية ما يمكنه من هذه الأمور) (21) اه.
*
ومعنى هذا: أن الجهاد يشمل: عمل القلب بالنية والعزم، وعمل اللسان بالدعوة والبيان، وعمل العقل بالرأي والتدبير، وعمل البدن بالقتال وغيره.
*
وخلاصة القول: أن الجهاد يعني: بذل المسلم جهده ووُسعه في مقاومة الشر ومطاردة الباطل، بدءًا بجهاد الشر داخل نفسه بإغراء شيطانه، وتثنية بمقاومة الشر داخل المجتمع من حوله، منتهيا بمطاردة الشر حيثما كان، بقدر طاقته.
*
1) وقد نشرت الصحف المصرية في الآونة الأخيرة لرمزهم المعروف د. سيد إمام، نص (الوثيقة) التي أعلن فيها تراجعه عن أفكاره القديمة، وتبنِّيه لما يعارضها ويضادها، وإن لم يستند فيها إلى أدلَّة شرعية وموثَّقة، كما استند إخوانه في الجماعة الإسلامية. والمقام لا يتَّسع لنقل شيء من بنود هذه الوثيقة ومناقشتها، وقد يتاح لنا ذلك فيما بعد إذا يسَّر الله. 2) رددنا عليه ردًّا علميا موثقا في كتابنا (البابا والإسلام) نشر مكتبة وهبة بالقاهرة.3) متفق عليه من حديث أبي موسى، وسيأتي تخريجه. 4) متفق عليه من حديث أبي بكرة، وسيأتي تخريجه. 5) متفق عليه من حديث ابن مسعود، وسيأتي تخريجه.6) متفق عليه من حديث ابن عمر وجرير بن عبد الله، وسيأتي تخريجه. 7) ويقابله عند الرومان (مارس). 8) رواه أحمد عن أبي وهب الجُشَمي، وسيأتي تخريجه. 9) رواه مسلم في البر والصلة (2593)، وابن ماجه في الأدب (3689)، عن عائشة. 10) رواه الطبراني في الكبير (306/2)، عن جرير بن عبد الله، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني ورجاله ثقات(8/41)، وحسنه الألباني لغيره في صحيح الترغيب (2666)، ونصه: "ما لا يعطي على الخرق".11) نشرته دار الشروق بالقاهرة، وفيه نظرات تأصيلية لموقف الإسلام من العنف. 12) رواه الحاكم عن أبي هريرة، وسيأتي تخريجه. 13) رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو، وسيأتي تخريجه. 14) رواه أحمد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أصحاب النبي، وسيأتي تخريجه. 15) رواه أحمد عن أبي هريرة، وسيأتي تخريجه.16) معجم ألفاظ القرآن الكريم. عمل مجمع اللغة العربية (1/226) طبع الهيئة المصرية العامة للكتاب. 17) لا يعرف حديث بهذا اللفظ، وقريب منه حديث: "... والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله عز وجل". رواه أحمد في المسند (23958)، وقال مخرِّجوه: إسناده صحيح، والترمذي في الجهاد (1621) وقال: حسن صحيح، وابن حبان في السير (10/484)، والطبراني في الكبير (18/309)، والحاكم في الإيمان (1/54)، وصحَّحه على شرط مسلم، وسكت عنه الذهبي، والبيهقي في الشعب باب أن يحب الرجل لأخيه المسلم ... (7/499)، عن فَضَالَة بن عُبيد. 18) رواه أحمد في المسند (12246)، وقال مخرِّجوه: إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين، غير حماد بن سلمة فمن رجال مسلم، وأبو داود (2504)، والنسائي (3096)، كلاهما في الجهاد، وأبو يعلى في المسند (468/6)، وابن حبان في السير (11/6)، والحاكم في الجهاد (2/91)، وصحَّحه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، عن أنس، بلفظ: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم".19) مفردات القرآن ص271. 20) أنظر: بدائع الصنائع للكاساني (97/7) طبعة دار الكتاب العربي بيروت، والدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه (3/217) دار إحياء التراث العربي بيروت. المصورة عن طبعة دار الطباعة المصرية سنة 1272ه.
21) مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى في الفقه الحنبلي (2/501).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.