القضاء على إرهابي وتوقيف 66 تاجر مخدرات    عطاف يستقبل رئيس مجلس العموم الكندي    الرئيس يستقبل أربعة سفراء جدد    مشروع جزائري قطري ضخم لإنتاج الحليب المجفف    شرفة يلتقي نظيره التونسي    عرقاب: نسعى إلى استغلال الأملاح..    هذه حصيلة 200 يوم من محرقة غزّة    القيسي يثمّن موقف الجزائر تجاه القضية الفلسطينية    العدوان الصهيوني على غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 34 ألفا و305 شهيدا    المولودية في النهائي    بطولة وطنية لنصف الماراطون    تسخير 12 طائرة تحسبا لمكافحة الحرائق    مهرجان الجزائر الأوّل للرياضات يبدأ اليوم    هزة أرضية بقوة 3.3 بولاية تيزي وزو    ش.بلوزداد يتجاوز إ.الجزائر بركلات الترجيح ويرافق م.الجزائر إلى النهائي    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي "علامة مرموقة في المشهد الثقافي"    جهود مميزة للجزائر لوضع القضية الفلسطينية في مكانها الصحيح    تمرين تكتيكي بالرمايات الحقيقية.. احترافية ودقة عالية    مسرحية "المتّهم"..أحسن عرض متكامل    إتلاف 186 كلغ من اللحوم البيضاء الفاسدة    الاتحاد الأوروبي يدعو المانحين الدوليين إلى تمويل "الأونروا"    العدالة الإسبانية تعيد فتح تحقيقاتها بعد الحصول على وثائق من فرنسا    ارتفاع رأسمال بورصة الجزائر إلى حدود 4 مليار دولار    قسنطينة: تدشين مصنع لقطع غيار السيارات ووحدة لإنتاج البطاريات    تفعيل التعاون الجزائري الموريتاني في مجال العمل والعلاقات المهنية    معركة البقاء تحتدم ومواجهة صعبة للرائد    اتحادية ألعاب القوى تضبط سفريات المتأهلين نحو الخارج    شبيبة سكيكدة تستعد لكتابة التاريخ أمام الزمالك المصري    الجزائر-تونس-ليبيا : التوقيع على اتفاقية إنشاء آلية تشاور لإدارة المياه الجوفية المشتركة    جعل المسرح الجامعي أداة لصناعة الثقافة    الفريق أول السعيد شنقريحة يشرف على تنفيذ تمرين تكتيكي بالناحية العسكرية الثالثة    إجراءات استباقية لإنجاح موسم اصطياف 2024    عائلة زروال بسدراتة تطالب بالتحقيق ومحاسبة المتسبب    29 جريا خلال 24 ساعة الأخيرة نتيجة للسرعة والتهور    عنابة: مفتشون من وزارة الري يتابعون وضع بالقطاع    جلسة للأسئلة الشفوية بمجلس الأمة    إنجاز ملجأ لخياطة وتركيب شباك الصيادين    "عودة مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي تعكس الإرادة الجزائرية لبعث وتطوير السينما"    فتح صناديق كتب العلامة بن باديس بجامع الجزائر    "المتهم" أحسن عرض متكامل    دعوة لدعم الجهود الرسمية في إقراء "الصحيح"    "العفو الدولية": إسرائيل ترتكب "جرائم حرب" في غزة بذخائر أمريكية    فتح صناديق كتب الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس الموقوفة على جامع الجزائر    إهمال الأولياء يفشل 90 بالمائة من الأبناء    نصف نهائي كأس الجمهورية: اتحاد الجزائر – شباب بلوزداد ( اليوم سا 21.00 )    وزير البريد في القمة الرقمية الإفريقية    فيما شدّد وزير الشؤون الدينية على ضرورة إنجاح الموسم    الجزائر تشارك في معرض تونس الدولي للكتاب    مباراة اتحاد الجزائر- نهضة بركان : قرار الكاف منتظر غدا الاربعاء كأقصى تقدير    الرقمنة طريق للعدالة في الخدمات الصحية    سايحي يشرف على افتتاح اليوم التحسيسي والتوعوي    حج 2024 : استئناف اليوم الثلاثاء عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    منصّة رقمية لتسيير الصيدليات الخاصة    حكم التسميع والتحميد    الدعاء سلاح المؤمن الواثق بربه    أعمال تجلب لك محبة الله تعالى    دروس من قصة نبي الله أيوب    صيام" الصابرين".. حرص على الأجر واستحضار أجواء رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحلقة الثانية عشرة: الناصريون.. وبسمة الشرطي الحزين
"بدّه عيشوش" مصريون وعرب في مسيرة القدر
نشر في الشروق اليومي يوم 01 - 03 - 2010

كل الذكريات الجميلة عن القاهرة تلاشت أمام واقع يملأه الصخب وتعمه الفوضى وينشغل فيه الناس بلقيمات تصلب من طولهم.. المعرفة عن بعد – وإن كانت سلباً – أفضل بكثير من إدراك كُنه الأشياء والأماكن والبشر عن قرب، ذلك لأنها تعطي لت الفرصة للخيال حيث الصورة الذاهبة هناك تحليقا في الأفق البعيد، أو المضافة إلى الوقائع عندما تكون المعلومات قليلة .
لقد أذهبت المعرفة المباشرة قدسية مصر التي اختصرت في كتابات سابقة قرأها العربي،وأعاد الإطلاع عليها مرات، فتلك الصور الجميلة لم يبق لها أثراً في النفس، لأن قبح الواقع في أكبر..لقد خرج العربي مكرها في عالم المثاليات، ولم يكن ذلك نتيجة صدمة الواقع فحسب ,ولكن لأن شهرزاد أثرت فيه حين طالبته بمواجهة الواقع، عندما قالت له:
- لما لا تخرج أو تفكر في الخروج من العروبة إلى فضاء الإسلام الواسع؟
لم يجبها، أو حتى يبدي الرغبة في التفاعل إيجابياً مع سؤالها، وإنما علق بسؤال مماثل قائلا :
- أليس الخروج من العروبة هو خروج من الإسلام ؟
- أبداً، أنت مخطئ فيما ترى، لأن محاولة الكشف عندك منصبة على القوم, وكان المفوض أن تهتم بحدود العالم .
- من يعجز عن معرفة قومه، سيعجز بالضرورة عن معرفة العالم، أليس كذلك ؟
تبتسم شهرزاد وتواصل حديثها محاولة التوضيح :
- لو كان جهدك المعرفي مركزاً على معرفة "القوم" لأعتبر ذلك مقبولاً، أما وأنك تضيع سنوات شبابك في البحث عن المصريين، فإن ذلك أمراً مرفوضاً ودعني أسألك صراحةً: ما الفائدة التي ستجنيها من معرفة المصريين ؟
- مثل المعرفة التي أجنيها من معرفة العرب الآخرين، أو من معرفة الجزائريين ,أو من معرفة الذات !
- تجارب البشر واحدة، وإن اختلفت مضامينها وأهدافها، لذا علينا التفكير بعيداً عن تأثيرات النزعة الأولى، وقريباً من الفطرة التي هي الدين !!
يصمت العربي لحظة متأملاً ما تقوله شهرزاد،ثم يرد عليها :
- لماذا الفصل بين الدين والقوم ؟
- لأن الدين عام، والقوم حالة مجتمعية خاصة .
- ذاك هو الفرق الواضح بين الأيدولوجيا في طابعها الأممي، وبين خصوصية المجتمعات !
- المعتقد غير الأيدولوجيا، لأن الأول يتحدث عن الفطرة، والثانية تختص بتأثير عقول البشر عن البشر.. ترد شهرزاد
- حتى لا نذهب بعيداً في النقاش، لما لا تعتبرين الاهتمام بالمصريين التزاماً بالأوامر الدينية، أليسوا مسلمين ويهمنا أمرهم؟!
- من يسمعك في أحاديثك هذه يعتقد أنك المنقذ لمجتمع يغرق، وهذا ليس صحيحاً .
عرق الشعب الجزائري
تمر الأيام وتتواصل أحاديث الفكر بين العربي وشهرزاد، لا يوقفها إلا موعد الدراسة أو اقتراب أحد الأشخاص منهم، ورغم الاختلاف الواضح بينهما حول الأهداف المستقبلية لا يحاول أي منهما إلغاء فكر الآخر، وأحياناً تنتابهما مشاعر خاصة يأتي التعبير عنها بصيغ مختلفة تجمع كلها على أن التنوير في أي مجتمع أو أمة يبدأ فكرة لدى شخص واحد، ثم يتحول إلى عمل ثنائي، ليصل إلى المجتمع كله أو إلى عدد كبير من أبناء العالم، وهي مثل أشعة النور التي لا تبخل بنورها، ولو كان قليلاً عن كل ما يتواجد في محيطها قبل أن تأتي الشمس فتعم العالم كله، ويغيب النور الأول الذي بدا رحمة وسلاما, عندما كان الظلام حاضراً والشمس غائبة .
لم تعد حركة العربي مقيداة بوصية بده عيشوش ، منذ أن التحقت به شهرزاد في القاهرة، فأحاديثها الرافضة لأسلوبه وطريقة تفكيره وحتى أهدافه في الحياة غيرت فيه ومنه، لدرجة غض فيها الطرف عن المقارنة والتساؤل ومحاورة الآخرين بهدف معرفة المصريين في عيون الآخرين، حيث كانت تقول له حيث يصر على صدق وأهمية مسعاه:
- إذا كنت تصر على معرفة المصريين لكونك تعتبرهم الثقل في العالم العربي فليكن لك ما تريد, شريطة أن لا تحصل على المعرفة عبر وسائط
يستمع العربي إلى حديثها العذب ثم يسألها مستغرباً:
- ماذا تعنين ؟
- أعني أن التجربة المباشرة أفضل من التركيز على ما يراه الآخرون, ذلك لأن تقييهم خاص بظرف زمان أو مكان محدد، واقليدس يقول : "إنك لا تدخل النهر مرتين"، فإما أن تدخل أنت بحر مصر أو تتركه، لكن لا تترك الآخرين ينقلون إليك رؤاهم عما فيه من صدف أو قاذورات.
- لكن أنت ما رأيك في المصريين؟
- سؤالك هذا يحمل طابعا شموليا وهو مثل : ما رأيك في النجوم أو الكواكب أو الآثار، أو حتى الأقدمين، أي أنني آتية بعدهم ولست قبلهم، وكيف للخلف أن يفهم السلف إذا لم يعش معه؟!
- دعي أهل الماضي حيث ينام "أبو الهول"، أو بئر أخوة يوسف، أو رحيل جسد الحسين وحديثني عن الحاضر..كيف ترينهم اليوم ؟
- أنا لم أقدم من الجزائر إلىهنا لتقييم المصريين، وهدفي واضح , ومنحتي الدراسية على حساب الدولة، أي من عرق الشعب الجزائري وثروة البلاد المشتركة، وبالتالي ما يشغلك لا يشغلني، فإذا نظرت إلى الأمر من زاوية القدر فأنا مكتوب لي منذ الأزل أن أكون هنا,أما إذا نظرت للأمر لجهة فهم المجتمع المصري، فذاك لا يعني إعطاء رأي, لأن الحكم عن الأفراد مهما كان عددهم لا يقبل بتعميمه على مجتمع بأكمله .
هذه الإجابة وغيرها من الأحاديث الأخرى التي تشق ساعات اللقاء لم تكن معبر راحة للعربي،إذ رغم قناعته أحياناً بما تقول شهرزاد,فإن النتيجة التي يصل إليها ولا يعلنها أمامها هي :
- لا أحد مثلي بما في ذلك شهرزاد القريبة مني، مكوي بنار العروبة مثلي تأخذه العزة في السؤال عنها، بداية من مصر .
حديثه الخاص مع النفس كان يمتعه، ويعيد قرينه تحريك ما بداخله مواصلا رحلة البحث، غير مكترث بتلك الوصية العتيقة لأنها من قرية عتيقة، ومن رجل لم ير من العالم كله إلا حدود قريته، وإن كان قد استطاع أن يحمله هم السؤال في وقت مبكر, ويعيد طرح السؤال بصفة جديدة هنا في القاهرة بعد عايش معاناة القادمين إليها من المحافظات الأخرى:
- لماذا لا يحذرالمصريون القاهرة ؟
ثم يواصل السؤال :
لما لا يحذر المصريون – المصريين؟
- يتنهد ويبلع ريقه في صيف القاهرة الحار، وهو متجه إلى محل كباب في ميدان الجيزة :
-لما الحذر مادامت الأمة كلها تعيش على وقع حياة بلا هدف مشترك؟
وحين يطلب من النادل إحضار نصف كيلو كباب، يذكر أنه مر على متسول دون أن يعيطه شيئاً، ويتساءل مرة أخرى:
- أليس الأفضل لي مادمت مهموما بوضع الأمة أن أشرك المتسول الجائع غدائي هذا؟
لا يهتم كثيراً بالإجابة لأن رائحة الأكل المنبعثة أكثر تأثيراً عليه في هذه اللحظة من كل القضايا التي يؤمن بها، وحين يهم بوضع اللقمة الأولى في فمه يحس بنوع من الإغماء نتيجة لرائحة الشواء والدخان المنبعث من الأسفل نحو الأعلى في ذلك المطعم الصغير فيقوم غير مبالٍ ، قاطعا المسافة بين خمس طاولات رصت بجوانب بعضه في الطابق العلوي من المطعم الذي يتكون من قسمين فقط..
الأول في الأسفل لإعداد الطعام وغسل اليدين ، والثاني لجلوس الزبائن, ورغم ضيق المكان فقد كان الرزق يأتي لصاحبه من كل مكان ,طوابير من الخلق تنتظر دورها للجلوس وأخرى تنتظر الوجبات لتأخذها للبيوت .
سلم المطعم الصغير في ميدان الجيزة هو في نظر العربي مثل سلم الأمة العربية نحو الصعود، فما أكثر الصاعدين والنازلين حين تعدهم ,لكن الهدف واحد هو ملء البطون ، ثم ينفض كلٍ إلى عمله غير مكترث لما يواجه الأمة من هزات.
تلك هي مصر، وأولئك هم العرب..أليست شهرزاد على حق حين رفضت عبء العروبة، مكتفية بالإسلام..هكذا قال العربي وهو يبصر عن قرب مطعم كبير في ميدان الجيزة يقدم وجبات "الفول والطعمية" لخلق كثير, ذابوا في الحياة تعباً، وأدركوا الفرق الطبقي على بعد أمتار فقط منهم ، مطأطئين الرؤوس لأن زمن من قال: "ارفع رأسك يا أخي" ولى دون رجعة.
الطريق إلى مجلة" الموقف العربي"
في مساء ذلك اليوم المليء بمشاعر متناقضة، حيث عادت هموم الأمة لتسكن العربي من جديد، اتصل هاتفياً بشهرزاد يسألها :
- أتذكرين الدكتور محمد أستاذ الجيولوجيا؟
- نعم أذكره، رجل كان يشع بحب مصر والعرب، ولكن ما الذي جعلك تذكره اليوم؟ .
- لأننا في حاجة ماسة لرؤيته
- وكيف السبيل إلى الوصول إليه ونحن لا نعرف عنوانه.
- الذي أعرف أنه يسكن في الدقي ، قرب "جراج مقار" ولكن أين بالضبط سكنه ؟ لا أعرفه.
- الأمر سهل ما دمت تعرف المكان بالتقريب.
- القاهرة ليست قرية، ثم أن جراج مقار كان يقع على ناحية شارع رئيسي، والدكتور محمد لا يملك مكتبا، وليس طبيباً أو محامياً .
صمتت شهرزاد برهة من الزمن, ثم قالت :
- لقد وجدت الحل .
- ما هو ؟
- الأفضل أن نتصل بأصدقائه في الجزائر , وتطلب منهم عنوانه أو رقم هاتفه
كانت فكرة شهرزاد صائبة ، فقد تمكن العربي من الحصول على رقم هاتفه وعنوانه من صديقه الدكتور" عبد الكريم" ، وحين قابل شهرزاد في اليوم الثاني أبلغها بما يفعل، وما إن حل المساء ذلك اليوم حتى حدد موعدا مع الدكتورمحمد.
كان الدكتور محمد يسكن في فيلا مكونة من ثلاث أدوار في شارع "ينبع" في الدقي، ومن عائلة غنية أصولها من المنصورة.. مؤرق هو الآخر بعروبته،كريم لدرجة التبذير من كثرة الضيوف الذين لا يبرحون بيته من كل الجنسيات والطبقات ,محب للناس ، غير متزوج .. ناصري بوعي , يرى أن العروبة ليست قراراً فوقيا يرتبط بالحاكم وإنما هي شعور عام يعلنه الناس أوقات الشدة ويتخلون عنه أوقات الرخاء، ويظهرونه بدرجة أكبر حين يتبناه الحاكم ويمتدحه المثقفون الذين يعبرون عن صوت الحاكم كلما مدت الجسور لبعضهم أو حاول آخرون منهم الوصول إلى الحاكم أو لنيل رضاه .
عرف الدكتور محمد بمواقفه القومية الناصعة منذ أن كان معارا في جامعة قسنطينة, بل منذ أن كان على منحة دراسية,على حساب الدولة المصرية في ألمانيا, أيام الزعيم جمال عبد الناصر ولذلك لم يفاجأ العربي ولا شهرزاد بموقفه، وإن كانا قد اعتقدا أن ذلك كان خارج مصر , ومع الأيام اكتشفا أنه في مصر أكثر جرأة مما كان خارجها, وما جاء على لسانه كلمات في الجزائر تحول في مصر إلى أفعال
معرفة العربي المسبقة بالدكتور محمد مكنته من اختصار المسافات ، حيث سهل له معرفة كثير من الناصريين ، الذين ينشطون من خلال صحفهم ومجلاتهم وجلساتهم ، حتى أن مجلة "الموقف العربي" لصاحبها ورئيس تحريرها " عبد العظيم مناف" كانت المدخل والحضن لكثير من العرب في ذلك الوقت , لم ينغص عنهم في جلساتهم إلا اتهام المناضلة الجزائرية " جميلة بوحيرد"الزعيم جمال عبد الناصر بالديكتاوترية في حديث لمجلة فرنسية,وقد رد عليها كاتب ليبي.
تعرف العربي على كثيرمن الناصريين, من الصحفيين "عبد الحليم" و"أسامه" وغيرهما ومن المحامين "عمر حجاج "وغيره كثيرين ، وهكذا وجد العربي نفسه وسط العروبة,حيث أعاده أهلها إلى أجواءلم يعشها .. ها هم يتحدثون عن الحاضر ويحلمون بالمستقبل ,معتمدين في ذلك على تجربة تجسدت في الواقع
الناصريون في مصر, حضن ودفء ووفاء، حتى لو جاءت أفعالهم أحيانا كلمات, فمنهم من لا يملك قوت يومه, ومع ذلك يعمل الكثير من أجل أن يكرم ضيفه, يعولون على العرب كثيراً، ويرون فيهم العزة حتى وهم الذل, والاحترام حتى وهم يولون الأدبار، والنصر حتى وهم يشيعون روح الهزيمة،يأملون في انتصار قادم يرونه وحدهم فقط, قلما تجدمنهم من يحمل
الضغينة لنظام الحكم المصري، لكنهم يؤكدون على أن تجربة حكم عبد الناصر كانت هي الأفضل .
لم تكن لقاءات العربي مع الناصريين بريئة, فمع حبه الشديد لهم كان يبحث عن إجابة لسؤال قديم يتعلق بإستعمار المصريين للدول العربية عن طريق العمل ، غير أنه كان يستحي أن يأتي على مثل هذا ، لذلك اكتفى بمتابعة أحاديثهم عن قرب على أمل أن يتطرقوا إلى علاقة مصر الناصرية بالعرب .
يتساءل العربي : لماذا مصر الناصرية ؟فكل مصر ,حكومات وشعب, منذ أن ظهر النفط في البلاد العربية, ومنذ أن تحررت بعض الدول تحركت صوب أسواق العالم الجديدة ، متخلية عن رسالتها الأولى حين كانت ترسل بالوفود تلو الأخرى لتخرج العرب من ظلام الجهل إلى نور العلم والمعرفة ، إلى ابتغاء طريق الرزق سبيلاً ، حتى غدا مصيرها مرتبطة بتلك الثروة ، التي نافست, إلى حين, ما على أرضها من آثار.
لم تكن شهرزاد تحضر تلك الجلسات إلا قليلاً ، غير أنها كانت على معرفة بكل ما يدور فيها من نقاش حول قضايا كبرى ، فمثلا كانت تعرف أن بعض الناصريين مالوا ميلاً عظيماً نحو ليبيا ، معتقدين في زعيمها الحل لكل مشكلات الأمة ، حملوه على سرر مرفوعة داخل القلوب ، باعتباره امتداداً لذكرى الزعيم الأول ..وتعرف أيضاً أن بعض المشاريع الإعلامية حسب شهادات البعض قامت بدعم من ليبيا مباشرة ، وأن أصحابها لا يخجلون من ذلك لأن الانتماء القومي يبيح لهم ذلك .
تعرف شهرزاد أيضا أن هناك ضغوطاً من أنظمة عربية أخرى لتقزيم الناصريين و إنهاء دورهم..لقد انتهى عصرهم ويجب أن ينتهي دورهم على مستوى الكتابة والأحاديث .
*
وفي الوقت الذي كان العربي ينغمس في تلك الحياة الناصرية المتقطعة, كانت شهرزاد تنأى بنفسها عن مثل هذا متكيفة بأسلوب "أمطري يا سحابة حيث شئت فخراجك لهارون الرشيد " ولم تكن تخشى على العربي من إقدامه المتواصل , ومشاركته في جلسات جماعة غير معترف بها , جماعة تعبر عن مرحلة لدولة لا تزال قائمة , ناكرة لذلك الماضي قي شقه الداخلي , مثبتة له في علاقتها الخارجية مع العرب ماضي حكم انتهى لكنها كانت تخاف عليه من الطلبة الجزائريين الذي كان يبلغهم بهذا النشاط لقناعته بضرورة تعميم المعرفة ,غير أن العربي لم ير في خوفها عنه ما يبرره , إلى أن حل يوم تحول ما توقعته شهرزاد إلى حقائق.
*
*
بين محند ولد الحاج ..والزمالك
*
أفقها لم يكن رحباً ولا هو متسعا, وعلاقة ظلت محدودة لا تتعدى الزمالة وما كان أحد منهم يثق في الآخرين إلا في حدود معينة.. تلك هي علاقة الطلبة الجزائريين بالمصريين, الذين تركوا خلفهم سنوات الشباب وأحلى ما فيها وحققوا الأحلام والآمال وجزء من المستقبل بدراستهم في مصر فجميعهم جاءوا لتحضير رسائل ماجستير ودكتوراه .
*
لقد عرف بعضهم مصر في سن مبكرة عن طريق الأساتذة المصريين ، وبعضهم الآخر عرفها كتابة، لكن هناك قلة كانت تجهلها قبل ذلك تنتمي مولدا ونشأة إلى جبال "جرجرة" ولا تعرف عنها إلا ذكريات تتعلق بأحاديث سرية عن وجود عسكري مصري ، قال رواة التاريخ ونشطاء السياسة إنه ناصر محند ولد الحاج حين تمرد عن سلطة الدولة الناشئة.
*
وقتها لم يقل الجزائريون في تلك المناطق أن المصريين عرب ونحن أمازيغ، ولا قالوا : أنهم جاءوا لنهب خيرات الجزائر ولا نصحوا الشعب الجزائري من محاولتهم الرامية إلى تفضيل وجودهم عن السكان .
*
عرف الطلبة الجزائريون مصر عن طريق السمع والمسلسلات والأذن تعشق قبل العين أحياناً وتعشق بعدها أيضاً ,غير أن العشق في مرحلة النضج ليس ذلك هو المقصود في البدايات حين يذهب الإنسان إلى حيث يقوده قلبه .
*
لقد أثر اللقاء الأول ، حيث الدخول إلى مصر بأمن وسلام في نفوس معظم الطلبة الجزائريين ، وكلما أوغلوا في الحياة العامة ، أو الخاصة أزعجتهم بيروقراطية الإدارة التي كرهوها في بلادهم , واستكرهوا هنا على التعامل معها ,وأشد ما كان يحزنهم لحظة دخولهم على العاملين في الإدارة الجامعية وهم يشربون الشاي ,أحياناً يندلق على الأوراق ,أو يجدون أحد العاملين يتناول فطور الصباح في المكتب ,فمثل هذه الأفعال تعد عيباً في بلادهم .. لقد تعلموا أن أقصى ما يسمح به للموظف هو تدخين سيجارة .
*
في البداية اعتقدوا أن الأمر لا يتعدى بعض الإدرات ,لكنهم أدركوا بعد شهور أن تلك حالة عامة ، خصوصاً بعد أن رأوا ما يحدث في مجمع التحرير حين يذهبون لتجديد الإقامة حيث ترمى جوازات السفر مثلما ترمى الجمرات على الشيطان يوم الوقف على جبل عرفات .. يوم الحج الأكبر .
*
الذهاب إلى المجمع والعودة منه عقوبة ، فهناك طوابير من الخلق تقف منتظرة كلمة أو حركة من الضباط أو من الكتاب الذي يختفون وراء الشبابيك يفصل بينهم وبين المقيمين في مصر شبابيك من حديد ومن ورائها زجاج.
*
في مجمع التحرير تلغى قيمة الدول وتنحدر إلى مرحلة الرعي والبداوة ,ويخيل لبعض العاملين هناك من صغار الموظفين و الضباط من عقيد فما تحت أن الذين أمامهم هو أناس بلا أوطان ما داموا يقيمون في مصر بغض النظر عن الأسباب, وحين كان يبرر العربي ما يحدث من منطلق الصبر على عروبته ,يواجه بنقد شديد من معظم الطلبة الجزائريين , حتى أن عبد الرزاق كان يرد عليه دائماً بقوله:
*
- لو دخل المصريون الجنة وحولوها إلى نار لبررت لهم ما يفعلون.
*
- ويرد عليه العربي ضاحكاً :
*
- الجنة لا يدخلها إلا من شمله الله برحمته .. وأنت تفترض دخولهم الجنة وليس النار..هذا يعني أنك تتفق معي !
*
- لا تدافع عن التخلف.. هكذا يعلق عبد الرزاق مرة أخرى .
*
*
يدور الحديث بالساعات بين الطلبة الجزائريين وبعد أن يذهب كلٍ إلى غايته ينتاب العربي حزن شديد مما آل إليه حال الطلبة الجزائريين, فقد جاء معظمهم محملاً بالود والشوق وسيعود بعد سنوات حاملاً الكراهية من معاملات يواجهها المصريون أيضاً ويلاحظ الفرق الشاسع بين الكتابات ذات الطابع القومي وبين الأفعال من أساتذة جامعيين تساوت لديهم الحياة الخاصة بالحياة العامة ,فالكل يريد أن يعيش مهما كانت تكلفة الحياة حتى لو شملت التناقض مع الذات .
*
مع مرور الأيام والسنوات لاحظ العربي أن الطلبة الجزائريين أصبحوا جزءاً من مجتمع عام ، فقد تكيفوا مع السلبيات وتركوا الإبداع والإنجاز العلمي إلا قليلاً منهم, وقليل منهم باحثون جادون .. إذ فضلت الغالبية منهم التحايل على وزارة التعليم العالي الجزائرية لجهة عدم إنهاء الدراسةفي معدها المحدد مع إن ذلك كان في مقدورها, ذلك لأن المنح التي تتقاضاها كانت أفضل بكثير من العودة إلى العمل في الجامعة ,وكلما طالت السنوات زادت المكاسب ,وفي ذلك فائدة أيضاً للجامعات المصرية التي كانت تعتبر الطلبة الوافدين مثل زبائن سيارات الأجرة تعد بالرؤوس ، وهناك بعض الأساتذة من كان يتعمد عدم مناقشة هذا الطالب أو ذاك لإدخال مزيد من العملة إلى الجامعة ، بحجة أن الطالب لم يستكمل بحثه مع أن الحقيقة غير ذلك ؟
*
كان العربي يشاهد عن قرب أسلوب النهب وتتجسد أمامه وصية بده عيشوش, فها هم بعض الأساتذة المصريين يجسدون مقولة "تكفينا وتكفيكم" مع كثير من الطلبة العرب, و هاهم تلاميذهم من الطلبة الجزائريين يطبقون نفس المبدأ في تعاملهم مع الدولة الجزائرية ,وهم في ذلك لا يختلفون مع العاملين في السلك الديبلوماسي الذين جاءت رؤيتهم واضحة في قول أحدهم وكان يعمل مسؤولاً في سفارة الجزائر في القاهرة .
*
- كلما بقيت مدة أطول حققت مكاسب أكبر
*
جاءت إجابته تلك حين سأله العربي عن خلفية قبوله بأخطاء يقوم بها السفير ولا تخدم الدولة الجزائرية , وتساءل العربي وهو بقطع شارع البرازيل باتجاه شارع 21 يوليو:
*
ما لهذه الأمة تخاف من زوال لذة البطن ولا يخفيها جوع العقل وغياب الآمان ؟!
*
لم يكن ينتظر الإجابة من أحد فكل شخص منشغل بهمومه ,ويرى نفسه صاحب الحق وما عداه هو الباطل ,وقد أدرك ذلك من أول يوم أشرق صباحه عنه من القاهرة ..فقد ركب الأوتوبيس من العتبة متجهاً إلى حي الزمالك ، الذي عرف قبل مجيئه إلى القاهرة بسنوات على أنه أرقى الأحياء وذهب خياله بعيداً في تركيب صورة له ، وحين سأل السائق :
*
- هل دخلنا حي الزمالك ؟
*
أجابه بسؤال:
*
- عايز محطة إيه ,و شارع إيه ؟
*
- أريد الزمالك.
*
- هي دي الزمالك.
*
- أريد النزول
*
- تفضل يا سيدي أنزل .. خلصنا
*
- ولكن الأوتوبيس لم يتوقف بعد .
*
- الأوتوبيس هنا ايهدي بس
*
لم تتوقف الحافلة ( الأوتوبيس ) وقفر العربي ، وإذا به يجد نفسه منكبا على وجهه , خسر والواقع أيضاً ، ومن يومها قرر أن لا يتخذ الأوتوبيس وسيلة للنقل أبداً .
*
عادت هذه الذكرى المؤلمة إلى نفسه ، ولم يعرف لماذا عادت إليه الآن ؟..لقد تعود أن يأتي إلى الزمالك لحاجات مختلفة ولكن لماذا اليوم ؟أ يكون الحديث مع المسؤول في السفارة الجزائرية هو الذي حرك آلامه ، أم شكوى زملائه المتواصلة من التعامل المصري ذي الطبقة الخاصة في معظم الإدارات ؟
*
لم يجد إجابة ولم يواصل التفكير ، لأنه أبصر عن قرب صديقه عبد الهادي الذي يدرس في جامعة الإسكندرية قادماً نحوه فاستبشر خيراً ، ودعاه للغداء في بيته وحين حل المساء أراد أن يكشف له عن الوجه الجميل للقاهرة ولمصر كلها ,فدعاه لزيارة صديقه المحامي " عمر المحامي" الناصري التوجه.
*
*
عبد الهادي الجزائري.. وعروبة عمر المحامي
*
"عبد الهادي" خليط من حالات نفسية شتى، فأحياناً تراه مزحاً مع أن الموقف يتطلب الحزن ، وأحياناً تراه حزيناً في موقف خاص به يعبر عن الفرح ، ولذلك خلفيات تعود إلى نشأته الأولى حين رأى والده يذبح من طرف المستعمر الفرنسي في الوقت الذي كانت أمه تمسك به وهي تزغردعن روح الشهيد ، وظل لسنوات سبع عجاف يكرهها لاعتقاده أنها كانت سعيدة لذبح أبيها ، كما بقي إلى سن المراهقة يكره الأضاحي وكل مناظر الدماء ، غير أنه اكتشف بعد أن كبر أن أمه قامت بدور بطولي لا يقل عن دور والده حيث تمكنت من تربية أبنائها الستة ، خمس ذكور وبنت واحدة, وتحولت الكراهية إلى محبة وتعلق بها لدرجة بدت أحياناً حالة مرضية .
*
غير أن عبد الهادي لم يسر على طريق والده , حيث المثل والقيم ,فقد وظف لقب "ابن شهيد"- الذي كان يميزه عن الآخرين- لكسب الكثير على صعيد المنافع ، منها حصوله على منحة دراسية ، لم يكن صاحب حق فيها مقارنة بزملائه المجدين ، وتعلم في حياته أن يغتنم الفرص دون النظر إلى الجانب الأخلاقي فيها .
*
لم يكن العربي على إدراك تام بمواقف عبد الهادي من الحياة أو الصورة التي نقلها زملاؤهء عنه ، تلخصت في بخله الشديد ومحاولته الاستفادة من أي علاقة على أسس مادية ، ولم يكن البخل أو اقتناص الفرص بالنسبة للعربي عيباً ,لأن الكرم إن وجد يظل مسألة نسبية ، والناس عنده تخلط بين عدم الإسراف والبخل, كما تخلط بين الحقوق ثم لماذا لا يقتنص عبد الهادي الفرص ؟ أليست الحية مجرد فرص؟ ..هكذا كان يقول العربي لزملائه قاطعاً أحاديثهم وكان تعليق صالح و سليمان وغيرهما:
*
- ستنبئك الأيام بما لا تعلم أو بما لا تود معرفته !
*
حين ذهب العربي برفقة عبد الهادي لزيارة صديقه المحامي في ذلك الشارع الضيق الذي يقع إلى الخلف من بسطة العتبة كان فرحا بسعيه لمد جسورالأخوة بين أبناء الأمة الواحدة وحين جلسا إلى عمر المحامي وتبادل الحديث ثلاثتهم عن أوضاع الأمة العربية, انتهت الجلسة إلى ما يشي بأن العربي ناصري ,فقد قال عمر المحامي:
*
- شوف يا أخ عبد الهادي أنا سعيد بمعرفتك, والحقيقة أن الأخ العربي فخور بعروبته ومدافع عنها ، ولذلك هو يعمل من أجل أن يلتقي أبناء الأمة الواحدة .
*
شكر عبد الهادي المحامي عمر معلنة بنظرات عينيه الواسعتين أن الرسالة وصلت ، معتقدا أنه يسعى لانضمامه إلى الناصريين ، مع أن الحديث لم يتطرق إلى الناصرية إلا من جهة إعلان عمر المحامي أنه ناصري ويفتخر بهذا ، ليس هذا فقط بل أن عبد الهادي أجزم بانخراط العربي في تنظيم ناصري ، ومن أجل إنقاذه أبلغ المسؤولين في السفارة الذين راقبوا حركات العربي عن بعد لكن لم يسألوه عن خلفية الموضوع ، وبذلك اكتشف أن عبد الهادي مخبر في الأمن الجزائري دون أن يعلم أحد من زملائه .
*
لقد كان المسؤولين في السفارة الجزائرية خصوصاً رجال الأمن يعرفون عن العربي أكثر مما يعرف عبد الهادي فاكتشاف نشاط ووضوحه لهم بدا منذ أن كان طالباً في جامعة قسنطينة , وتحول ملفه إلى السفارة في القاهرة، ولم يكونوا في حاجة لاستفتاء المعلومات من عبد الهادي أو غيره ,كما كانوا على علم من أن معظم الطلبة الجزائريين في الخارج محصنين ضد الأيديولوجيات الأخرى وليست لديهم الرغبة في الانضمام إلى جماعات تعارض النظام في الداخل , فما بالك بالانخراط في أحزاب خارجية, يستثنى من ذلك الطلبة الجزائريين في الاتحاد السوفيتي ,وأولئك لو يشكلوا قلقاً لحزب جبهة التحرير الوطني, الحزب الوحيد والحاكم في الجزائر .
*
لقد كان العربي كتاباً مفتوحاً للجميع سواء بالنسبة للجزائريين أو المصريين ,فحبه لأمته يدفع إلى النقد المتواصل لكل النقائص التي تعتريها ..يود, صادقا, أن يراها قوية لكنه كان يقوم بدور الأب الذي يتفقد أبناءه، ورغم أن سنه لم يتجاوز الثانية والعشرين إلا أنه كان في جرأة آرائه يعبر عن قائد لشعب يستجيب طواعية لحركاته فما بالك بأوامر أو نواهيه؟!.
*
هاهو يعيش في مصر التي أحيها ومصر التي كرس رحلة البحث عنها, ولكن هل ممكن له معرفتها وهي تعود إلى آلاف السنين قبل الميلاد وتطمح إلى الريادة في المستقبل؟
*
شعور الذات المتضخم عند أهلها يقف حازاً دون اعتراف الآخرين بدورها، وأولئك الذين يأتونها كل أيام السنة، وخصوصاً في فصل الصيف، تبتلعهم الشقق المفروشة، يرونها لذة، متعه، إشباعاً، ويتمنون أن تبقى أبد الدهر على هذه الحال.. وهذا كان مؤلماً للعربي أكثر من ألم بعض أهلها الذين سلموا أنفسهم لضغط الحياة ولنداء الشيطان، ولنقص الإنسان ولإلهام الفجور .
*
آه ما مصر كم أنت قريبة من القلب والعقل، أراك في بسمة الشرطي الحزين في ليلة رأس السنة والأعياد وهو ينظم المرور مستسلماً لقدره ليحمي حياة الطغاة والمفسدين، ومن والاهم من أهل الفكر والثقافة،
*
أراك يا مصرفي آذان المساجد، حيث تلاوة القرآن وتجويده من حناجر خلقت لهذه المهمة النبيلة، الصوت أنت والنظم أنت، وصدى الحب والخير أنت، أتراك مكتفية بانكماشك عن ذاتك، معتقدة أنك أنت العالم وحده ؟
*
لماذا عرفناك يا مصر قبل أن نراك؟ وجهلناك عندما أصبحنا على أرضك ؟, أترى السحر الأول هو الذي جذبنا نحوك، حتى إذا ما انتهى لم يعد لديك جاذبية؟،ومن أين لك بعصا موسى، مادام فراعنتك الجدد قد جاءوا عبر العصر وعبر إرادة خارجية الولاء فيها للفرعون البعيد، القابع هناك في بيته المقام على معابر أهل البلاد الحقيقيين؟! .
*
هكذا كان يتساءل العربي، يخاطب النفس وحيدا في الليل، ويكلم شهرزاد نهارا ليلقي على مسامعها أسئلته المتواصلة ..وحين يراها غير مبالية بعودة الحيرة لديه يغير الموضوع، لحظتها يدنو قربا في عالم الفكر والروحانيات فيجذبها النقاش، ويفكرا سوياً بطرق مختلفة في الغد حيث لا عزة لمصر ولا لغيرها إلا بالإسلام . . هكذا كانت تنهي شهرزاد النقاش، وتضع نقطة النهاية كل يوم .
*
تلك سيرتها وذلك حديثهما ومع الأيام تطور إلى القبول من العربي بالقول :لا عزة لمصر ولنا إلا بالإسلام، وتطورأيضا باستعداد شهرزاد للتحرك في فضاءات الأمة العربية، وقررا ذات يوم زيارة سوريا، ولم تكن دمشق بعيدة، إليها شدا الرحال، ولكل منهما مبتغاه هناك
*
*
الحلقة المقبلة
*
دمشق.. وذكريات الألم مع المصريين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.