في مصر فجر الشعب ثورته، وكما لم تكن ثورة من أجل الحريات والديمقراطية، كانت ثورة مصر بأسلوب متحضر وسلمي وجذري تصنع نموذجا تاريخيا فاصلا بالنسبة للأمة كلها.. وسيسجل التاريخ هذه الأيام في صفحاته الأكثر بروزا وستتقدم الثورة المصرية في ثقافات الشعوب كما كانت الثورة الفرنسية والثورة الجزائرية ملهمات لما بعدها، حيث كانت الأولى رائدة الثورات من اجل الحريات، والثانية الرائدة من اجل التحرر، فإن الثالثة جاءت من اجل الحرية والتحرر.. هذه الثورات التي بدأت بامتلاء شعبي بالإحساس بالمظلومية والقهر وعينها على أهداف مركبة، ولكنها لم تخطئ أولوياتها فتقدم مجموعة من شبابها للاشتباك بالظالمين، فاندفعت جموع الشعب لتصنع الأحداث لحظة بلحظة، فصنعت الثورات قادتها من أدائها اليومي، وتجاوزت بذلك الأحزاب والقوى المؤطرة وإن كان للأحزاب دور فإنه لاحق وليس سابقا. * وهنا لا بد من الحديث التحليلي لكيفية تطور القوى وتولد حالات اثناء سير العملية الثورية.. فبالنظر الى القوى السياسية التاريخية المشتركة بالثورة تتضح أمامنا العناوين الكبيرة، الإخوان المسلمون والوفد والناصريون والتجمع الديمقراطي وغيرها من عناوين لها حضور كما هو حال "كفاية".. وبمناقشة مواقف هذه الحركات من الفعل ضد السلطات يمكن القول ان الأحداث تجاوزت خيال جميع القوى التي لم يكن سقف مطالبها يتجاوز بعض الاصلاحات والغاء قانون الطوارئ وانتخابات شبه نزيهة.. وكان الاستعداد يبلغ أقصى مراحله بالقيام باحتجاجات نقابية واعتصامات هنا او هناك، لكن دونما اعلان القطيعة الثورية مع النظام.. ورغم ان الانسداد بلغ الإحكام مع الانتخابات الأخيرة التي عبرت عن حقيقة استهتار النظام بالشعب وقواه السياسية، بل وباستضعافه لهم، متأكدا انهم لن يستطيعوا فعل شيء. * انطلقت انتفاضة الشعب المصري من خلال طليعة شبابية مفعمة بالقوة والثقافة والإحساس بالحرية والكرامة، ومتحررة من قيود الأحزاب وانضباطها التنظيمي والتزامها بالزعيم المقدس أو مجلس الشورى او اللجنة المركزية المتجمدة.. شباب هم أقرب ما يكونون الى نبض الناس وعفويتهم وعميق وجدانهم، ولكنهم ايضا مدركون لأهمية التواصل مع قطاع كبير من ابناء الشعب لاسيما طليعته من الشباب للتفاهم سويا من اجل وضع حد للظلم والقهر السياسي والاجتماعي.. فكان ان اهتدت طلائع الشعب إلى وسائل وشعارات بسيطة واحتشد عشرات الألوف من ابناء مصر وبناتها في مشروع المواجهة المفتوحة ضد الظلم والقهر والفساد.. صحيح لم يكن هناك قائد او لجنة مركزية، ولكن هناك فعاليات ذكية وعناصر متميزة مبدعة استطاعت ان تحسن التوقيت المحلي والإقليمي والدولي فأطلقت الطلقة الأولى لثورة ستصبح عما قريب من أهم الثورات العالمية.. وأخذت الثورة في التطور لحظة بلحظة في الأداء والأفكار والشعارات، وعلى مدار الأيام السبعة الأولى من الثورة، تصاعدت شعارات الثورة متصدية لأساليب الحكومة ومناوراتها.. وتصاعدت الأداءات من الانخراط في التجمعات الى الدفاع عن الأملاك العامة ومؤسسات السيادة والدفاع عن الأحياء السكنية، ولهذا الغرض تنظم الشباب في لجان الحماية الشعبية في كل حي وكل شارع وظهرت اهمية ذلك في ظل محاولات النظام إغراق البلد في فتنة السرقات والنهب والترويع... * لقد استطاعت طلائع شباب مصر أن ترسم الخطوط العامة لثورة الشعب المصري، وأن تضع له أهدافا قد بدت لكثير من المراقبين والعارفين بحقيقة النظام المصري على انها ضرب من خيال.. وعندما ملأت طلائع الشعب الشوارع، التحقت الأحزاب المصرية بتفاوت بفعاليات الانتفاضة بالثورة، ويما بعد يوم اصبحت قيادة الشباب من الطلائع الثورية قوة حقيقية لها وزنها في سير الانتفاضة والتأثير في مصيرها.. * الآن وفي الأيام الأخيرة قبل سقوط الطاغية تبرز القوة الرئيسية في تيار الانتفاضة انها على شاكلة حركة 6 ابريل ومجموعات المدونين والناشطين في عملية التواصل الاجتماعي الذين أبدعوا في إحباط أساليب النظام المصري لقطع التواصل بين اجزاء الثورة. * وبالضرورة ان تنتبه الأحزاب التاريخية التي تجاوزتها الانتفاضة الثورة الى القوى الاجتماعية الصاعدة العملية التي أفرزتها الثورة وذلك لكي لا يحدث اصطدام بين مكونات القيادة الفاعلة لمسيرة الثورة، إذ ليس من المستبعد أن يحاول النظام اختراق وحدة قيادة العملية الثورية وهذه هي النقاط الأكثر خطورة على الثورة.. * لم يعد الإخوان المسلمون مع أهمية وجودهم ولا الوفد مع تاريخيتهم ولا التجمع الديمقراطي مع انه محور اليسار ولا الناصريون مع رمزيتهم هم المسيطرون على المشهد السياسي.. ان هناك قوة كبيرة اصبحت تملأ الشوارع والميادين، انها قوة الفعل الثوري وأداته وقيادته وإن لم تطلق على نفسها اسم بعد، إلا انه سيكون لها دور رئيسي في مستقبل الحركة السياسية في مصر. * وكما كل الثورات العظيمة، جاءت ثورة مصر لتعيد بروح شبابها وحكمة شيوخها وطيبة أهلها دروها التاريخي كنانة لله في الأرض درعا للأمة وحصنا للعروبة والاسلام. *