-أحبه.! قلت لها . – هذا رائع.. وتقرئينه أيضا بلغته الأصلية .! قالت ماريا كوداما زوجة الشاعر الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس بصوت مرتفع قليلا، مما جعل رواد مقهى وسط مُورْسيا هذه المدينة الإسبانية الأندلسية يستديرون بخفة مبتسمين. ثم كيف لا أحبه - كنت أفكر في صمت - وهو من برج الأسد مثلما أنا من برجه 24 أوت 1899-1986. كيف لا أحبه وهو يُنزل النجوم ويضعها في قصيدة تتلألأ أمامك ضاحكة قبل أن تعود إلى أبراجها. إنه الساحر الذي لا يدعي تغيير العالم، ولا يشوه الحقيقة. إنه فقط يغامر في جعل المتخيل حقيقة. أكتافو باث رأى أن أهم محاولات أدب أمريكا اللاتينية هي تلك التي تذهب لصناعة عالم. وأعتقد أن العالم كتابٌ عند خورخي بورخيس. بورخيس يرمينا بالقلق، ثم إنه لا يحسم في الأشياء بل يسأل فقط .. فقط يسأل . نجلس، زوجته وأنا، في مقهى وسط مورسيا مدينة العلامة محي الدين بن عربي، حيث أحضر مهرجانا دوليا للشعر، إذ أن هذه الدورة تعد تكريما للشاعر الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس. أجدني غارقة في ما حولي من آثار وتاريخ وطاقات خفية في هذه المدينة، كل شيء يتكلم هنا حتى ليتبدى لي أن الكون مرآة من الألغاز، وأتذكر فكرة مالارمي بأن الكون موجود من أجل أن يصبح كتابا. ماريا كوداما، الزوجة والعاشقة لخورخي بورخيس جاءت من بوينوس آيريس لحضور تكريم زوجها الشاعر. هي التي ترعى ذكراه بحب، وتُشرف على مؤسسة ثقافية دولية باسمه. يعجبني إخلاصها لذكراه.وحديثها الشغوف الحار عنه. ثرثرْنا كثيرا وطويلا. وتمتّنت بيننا الصداقة. - (عادي) كم يحلو للنساء الحديث عن معشوقهن.!! أسرار. ذكريات ملتهبة. أحداث وتفاصيل صغيرة لحياة مدهشة، ونميمةٌ، ونوادر، وأخبار، وشوق وأشياء أخرى..جلسة مكتظة بالحنين الفرِحِ أحيانا، والدّامِع أحيانا أخرى.. لكن المجد كل المجد للحب ..! وتركنا المقهى ونحن نردد قصيدته الجميلة: ..الزمن هو المادة التي أنا منها/الزمن نهر يجرجرني/ ولكنني النهر/ إنه النمر الذي ينهشني/ولكنني النمر/ إنه النار التي تتهمني/ ولكنني النار/ العالم مع الأسف حقيقي/ وأنا مع الأسف بورخيس.! في قاعة المحاضرات يتوافد الشعراء بلغات وثقافات عديدة ومختلفة . في البرنامج تقرر إصدار كتاب بترجمة قصيدة للويس بورخيس بجميع اللغات ويقوم الشعراء الحاضرون بعمل ترجمة القصيدة كل نحو اللغة التي يريدون . كم راقت لي الفكرة فالشعر لا حدود ولا جنسية له، واللغات وسائل تواصل ليس إلا . على كل حال سيبتسم بورخيس بعينين مفتوحين هذه المرة . ثم ما أقربه مني! فقد اطلع مثلي على ألف ليلة وليلة، وعلى طوْق الحمامة لابن حزم الأندلسي، وعلى القرآن الكريم .أليس بورخيس توأم أبي العلاء المعري في التأمل والظلام والأنفة من استعمال العصا، والمكابرة من خلال الإبداع والكتابة؟ لا بد أنه سيبتسم هناك حيث هو . ربما في مكتبة. هو الذي تخيل الجنة في شكل مكتبة واسعة وكبيرة وغنية . وبدأت جلسة المساء وكان على الشعراء الذي ترجموا لبورخيس القصيدة الصغيرة القوية التي تلخص تاريخ البشرية و الوجود كله بعنوان ( Luna ) التي أهداها لحبيبته وزوجته ماريا كوداما، أن يتداولوا على المنبر الواحد بعد الآخر لتقرأ كل واحدة ويقرأ كل واحد بصوته ولغته أمام الحضور المهيب، بالفرنسية والإنجليزية والألمانية والبرتغالية والصينية واليابانية والهولندية.. كل لغة بموسيقاها ورنينها. ثم جاء دوري. كنت قد ترجمت القصيدة المختارة إلى العربية الفصحى والدارجة الجزائرية. لم أختر بينهما بعد. صعدت إلى المنبر وبين يدي الترجمتان..وقفتُ. كنت أرى وجه الشاعر لويس بورخيس في جميع الوجوه التي أمامي. لم يعد ضريرا يتخيل القمر الفضي من ذهب. هذا القمر الذي لم يعد يشبه القمر الأول الذي رأته عينا آدم لأول مرة، بل إنه مليء بدموع الغاضبين الثائرين. القمر القديم هنا مرآة لكل منا، يرى نفسه مرسوما على صفحته المتبدلة. إنه أمامي. بورخيس يراني بوضوح بمآت العيون هذه، وأخرى ..ثم قرأتُ ترجمتي لقصيدة Luna: القَمْرة.! شْحالْ وحْدانيّة في هاذْ الذْهَبْ .. قمْرة اللّْيالي هذي مَشِي هي إللّي شافْها في زْمانو "آدم". طولْ الزْمانْ المتزاحَمْ، والناس المشطونين، غَرْقوها بدْموع تتْلاطمْ. شوفْ روحك فيها هذيك هي مْرايْتك.!